مصطلح الخلافة

: اللجنة العلمية

 

الخلافة في اللغة: 

الخلافة: ـ بالكسر ـ تأتي بمعنى الإمارة(1)، ويقال: خلف فلان مكان أبيه، إذا جاء بعده فصار مكانه، فهو خليفة(2)، وتأتي أيضاً بمعنى الإمامة(3)، والفرق بينهما أنّ الإمامة مأخوذة من التقدّم، فهو المتقدم فيما يقتضي وجوب الاقتداء بغيره، وفرض طاعته فيما تقدّم فيه(4).

الخلافة اصطلاحاً:

الخلافة في المصطلح الإسلامي: (ورد مصطلح (خليفة الله في الأرض) في المصطلح الإسلامي بمعنى من اصطفاه الله من البشر وجعله إماماً للناس وحاكماً...، وقد جعل الله تعالى خلفاء في الأرض أئمة للناس وآتاهم الكتاب والنبوة...فإنّ من جعله الله خليفة في الأرض يحكم بين الناس، جعله ـ أيضاً ـ إماماً لهم يهديهم بكتاب الله ويبلّغهم شريعته. وبناءً على ذلك يكون أهم وظائف خلفاء الله التبليغ...) (5).

ما بين الإمامة والخلافة:

إنّ موضوع الإمامة والخلافة يعد من المواضيع المتشابكة، والتي كثر فيها الخلط والتي تحتاج إلى توضيح وفرز، فالبعض لا يميز ما بين الأثنين فعنده كلاهما واحد فيعتبرهما مترادفان، والبعض الآخر يخلط ما بين المعنى اللغوي والاصطلاحي ولا يميّز ما بينهما، والبعض يساوي كل معاني (الخلافة) في القرآن الكريم فيظنها واحدة، والبعض يسقط عليها فهمه الخاص أو فهم طائفته ومذهبه، وهنا لا بدّ لنا من توضيح ذلك بأبسط الصور الممكنة.

الخلافة في القرآن الكريم:

إنّ الخلافة في القرآن الكريم قد ذكرت لتعبّر عن مفهوم الاصطفاء والنيابة، سواء أكان من خلال استخلاف النوع الإنساني لتمييزه عن باقي المخلوقات، أو من خلال استخلاف جماعة بشرية معيّنة من بين الجماعات البشرية الأخرى، أو استخلاف قائد رباني عن بقية أبناء قومه ليكون خليفة لله تعالى عليهم، هذه المعاني الثلاثة موجودة في آيات القرآن الكريم، لذلك نقول: إنّ من الآيات التي ذكرت (خليفة) و(خلافة) و(خلفاء) و(خلائف) هي:

1ـ قال تعالى: ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ))(6).

2ـ قال تعالى: ((يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ))(7).

3ـ قال تعالى: ((أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))(8).

4ـ قال تعالى: ((وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ))(9).

5ـ قال تعالى: ((أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ))(10).

6ـ قال تعالى: ((وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ))(11).

7ـ قال تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ))(12).

8ـ قال تعالى: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ))(13).

9ـ قال تعالى: ((فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ))(14).

10ـ قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا))(15).

أما أشهر معاني (خليفة) في القرآن الكريم فهي(16):

أ ـ الخليفة بعينه: قال تعالى: ((إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)).

ب ـ الذي يخلف: قال تعالى: ((اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي)).

جـ ـ السكّان: قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ)).

د ـ البدل: قال تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً)).

الخلافة في الأحاديث:

أ ـ قال رسول الله (ص): ((لا يزال أمر الناس ماضياً، ما وليهم أثنا عشر خليفة، كلهم من قريش))(17).

ب ـ وقال (صلى الله عليه وآله): ((لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش))(18).

جـ ـ جملة من الأحاديث الأخرى الدالة على نفس الألفاظ وهي(19):

1ـ لا يزال الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة.

2ـ لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة.

3ـ لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة.

4ـ لا يزال الدين ظاهراً على من ناوأه حتى يمضي من أمتي اثنا عشر خليفة.

5ـ لا يزال هذا الأمر صالحاً حتى يكون اثنا عشر أميراً.

6ـ لا يزال الناس بخير إلى اثني عشر خليفة.

وبهذا الشأن يقول القندوزي الحنفي (ت 1294هـ): (إنّ الأحاديث الدالة على كون الخلفاء بعده اثني عشر، قد اشتهرت من طرق كثيرة، ولا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من الصحابة، لقلتهم عن اثني عشر، ولا يمكن أن يحمل على الملوك الأمويين لزيادتهم على الاثني عشر ولظلمهم الفاحش... ولا يمكن أن يحمل على الملوك العباسيين لزيادتهم على العدد المذكور... وحديث الكساء، فلا بدّ من أن يحمل على الأئمة الاثني عشر من أهل بيته وعترته، لأنّهم كانوا أعلم أهل زمانهم، وأجلّهم، وأورعهم، وأتقاهم، وأعلاهم نسباً، وأفضلهم حسباً، وأكرمهم عند الله، وكانت علومهم عن آبائهم متصلة بجدهم (صلى الله عليه وآله) وبالوراثة اللّدنية، كذا عرّفهم أهل العلم والتحقيق، وأهل الكشف والتوفيق. ويؤيد هذا المعنى ويرجّحه حديث الثقلين والأحاديث المتكثرة...)(20).

إذاً فالمتفق عليه، والمتعارف هو كون الأئمة من بعده، أو الخلفاء من بعده (صلى الله عليه وآله) هم اثنا عشر كعدد، لكن وقع الكلام في المراد بقيد (قريش) وهل هو قد أُضيف من قِبل الرواة، أو هو من وضع الوضاّع، أم من إضافات السلاطين ووعّاظهم؟

بهذا الصدد يقول الأستاذ إدريس هاني: (وإذا تبيّن سابقاً أنّ الأئمة والخلفاء هم أثنا عشر فدعنا نرى هل ذلك ينطبق على الاثني عشر من أهل البيت المتعارف عليهم عند شيعتهم؟

إنّ مجرد ادّعاء الاثني عشرية في غياب أي مدّعٍ لها، دليل على أنّ مقصود الرواية منصرف إلى المدّعي. وإنّ مجرد ادّعاء أهل البيت لها كافٍ للاعتراف بها؛ لأنّه ليس ثمة حي هو أشرف وأنبل في قريش منها. إنّ إطلاق قريش في الحديث لا وجه يعضده، إذ في قريش من هو من صناديد الشرك. وفيهم من غير طهارة المولد. ولا أحد يشك في إنّ بني هاشم هم من أشرف بطون قريش وأشهرها في خدمة الدين. وقد عززهم القرآن بقوله: (إنا يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)، فإذا اجتمعت طهارة المولد ورفعة الشرف مع صفة العلم والهداية. كان من العقل ترجيح الأفضل على المفضول، ولا ينعكس ذلك لما فيه من مناقضة لمباني العقلاء وصريح النصوص. هذا فيما لو ثبت أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) قد أطلق لفظة قريش، وإلا فإنّ بعض الطرق التي روي بها حديث الاثني عشر تشمّ منها رائحة التدليس والتلبيس.... ونجد في نهج البلاغة شرحاً مبيناً لمعنى الأئمة من قريش، يقول الإمام علي (عليه السلام): ((إنّ الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم ولا يصلح الولاة من غيرهم))... إنّ أهل البيت هم المرشحون لهذا الوصف لما دلت عليه آثارهم والنصوص المستفيضة من حولهم...)(21).

الإمامة والخلافة عند أهل السنة:

إنّ الغالب على تعريفات الإمامة والخلافة عند علماء أهل السنة ـ قديمهم وحديثهم ـ إعطاء الطابع السلطوي والتنفيذي والرئاسي للخليفة(22)، فلا ينفك اطلاقه عن التمكين السلطوي، ومع عدم وجود تمكين سلطوي لا يصح اطلاق الخليفة أو الإمام عليه، وبذلك فإنّ دور (الخليفة) أو (الإمام) يشمل دور: إقامة الحدود، وتدبير أمور الأمة، وتنظيم الجيوش، وسد الثغور، وردع الظالم، وحماية المظلوم، وقيادة المسلمين في حجهم وغزوهم، وتقسيم الفيء بينهم(23).

على الرغم من خطورة الأمر عندهم، وأهميته إلا أنّهم يرون بأنّ هذا الأمر قد أوكل إلى الصحابة ابتداءً، وإلى الناس في كل عصر ليختاروا أولياء أمورهم، ولا ندري كيف يمكن الجمع بين ما تقدم وبين إيكاله إلى عامة الناس؟!

الإمامة والخلافة عند الشيعة:

إنّ منصب الإمامة أو الخلافة عند الشيعة الإمامية هو (ديني) بالأصل، وما قضايا السياسة أو السلطة أو الحكومة إلا اضافات قد تضاف إليه، فهو منصب مستقل بحد ذاته يتعلق بالأمور (الدينية) بالدرجة الأولى، فمهمة الإمام عند الشيعة هي استخلاف النبي (صلى الله عليه وآله) في وظائفه من هداية البشر، وإرشادهم إلى ما فيه صلاحهم، فهو يبين لهم الأحكام، ويفسّر لهم القرآن، ويوضّح لهم المعارف، ويشرح لهم المقاصد، ويصون الدين من التحريف والدس.

فالإمامة عند الشيعة هي منصب إلهي، وهي امتداد واستمرار للنبوة باستثناء الوحي التشريعي، ولابدّ أن يكون تنصيب أو اختيار أو اصطفاء الإمام من الله سبحانه وتعالى على لسان النبي (صلى الله عليه وآله).

إمّا عن الخلافة الحقيقية عند الشيعة الإمامية فهي (كالإمامة شأن ديني، نابع من صميم الفرد وامكانياته الذاتية، سواء مارس الخلافة وتحققت له الغلبة أم لا. إنّها شأن يقاس بالنبوة في معنى الاختصاص، من حيث أنّ النبوة ما دامت أنّها اختيار مولوي لا شأن للبشر فيه، فهي تثبت مع الغلبة ودونها. فالنبي (صلى الله عليه وآله) لا يلغي نبوته افتقاده للعصبية والغلبة. فهو نبي سواء احتضنه قومه أو رفضوه. والإمامة على ذلك النحو أمر لا يلغيه افتقاد العصبية)(24).

نعم، (لا ينحصر دور الإمام في الحكومة السياسية فقط، وهذه نقطة مهمة كانت وما زالت محل التباس في الوعي الإسلامي عند أهل السنة؛ ظناً منهم أنّ الشيعة تقول بانحصار دور الإمام في الحكم السياسي فحسب، فإذا لم يكن حاكماً لم يكن إماماً، مع أنّ الأمر ليس كذلك، بل الإمامة قيادة وهداية للأمة في كل مجالات الحياة وعلى جميع الأصعدة، فأهل البيت (عليهم السلام) الذين ثبتت عصمتهم وشرافة علمهم هم الأجدر والأحق في تسنم تلك المناصب، ولذلك نصب الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام) من بعده للإمامة بكافة أبعادها. ومن ذلك كله يتضح أنّ إقصاء أهل البيت (عليهم السلام) عن موقعهم، وهو القيادة والحكومة السياسية ـ التي تعتبر أحد أبعاد الإمامة ـ لا يعني زوال إمامتهم التي ثبتت بجعلٍ إلهي وتنصيبٍ نبوي، بل على الأمة تقديمهم واتباعهم والإقتداء بهم...)(25).

ما هي الخلافة الحقيقية؟

إنّ هناك حقوق متبادلة بين الراعي والرعية لا بد من مراعاتها من قِبل كلا الطرفين، فالراعي باعتباره الحاكم والإمام والقائد هو مسؤول عن رعيته، فهو بمثابة الأب، وكل الرعية هم أبناءه حتى من خالف منهم، إذ عليه ارشاده ورعايته وهدايته للطريق الصحيح.

أمّا ما على الرعية من واجب فهو الطاعة لراعي أمرها، لكن للراعي الحقيقي، للقائد الذي تتوفر فيه صفات القيادة، للحريص على الأمة، الحكيم في جميع أعماله وتصرّفاته، في مقابل ذلك على الرعية أن تقف بوجه الراعي لو انحرف عن الطريق، وحاد عن جادة الصواب.

هنا يرسم لنا أمير المؤمنين (عليه السلام) الحقوق المتبادلة بين الراعي والرعية، وواجب كل طرف تجاه الآخر:

يقول (عليه السلام): ((أيها الناس إنّ لي عليكم حقاً، ولكم علي حق:

 فأمّا حقكم علي: فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا.

وأمّا حقي عليكم: فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين أمركم))(26).

أولاً: الحق الذي على راعي الأمة:

1- النصيحة: أي أن ينصحهم، ويتوخى ما ينفعهم فيدلهم عليه.

2- توفير الفيء: أن يوفر لهم اقواتهم من بيت المال؛ لأنّها أولاً وآخراً أموال المسلمين جميعاً.

3- التعليم: أي أن يبعد عنهم الجهل؛ لأنّه أساس كل دمار وخراب.

4- التأديب (التربية): أي أن يشيع الآداب العامة والصالحة، وأن يؤدب المسيئين بشكل حتى يرجعوا إلى جادة الصواب، وأن يقيم حدود الله تعالى، وينشر العدل في الرعية.

(أول حق للشعب على الحاكم الإسلامي هو النصيحة. ومن الطبيعي أنّ كلمة النصيحة لا ينحصر معناها في الوعظ والإرشاد، بل متى ما استخدمت هذه الكلمة فهي تحمل بين ثناياها معاني الصدق، والصفاء، والإخلاص، والحرص، وارادة الخير. وهذا يعني أنّ الحاكم الإسلامي يجب أن يكون حريصاً على ما فيه خير الشعب بالكلام والعمل، وأن يكون مهتماً بتأمين الخير والصلاح لهم. 

الحق الثاني للشعب على الحاكم الإسلامي هو أن يعمل على زيادة الدخل العام والتقدم الاقتصادي... ويجب على الحاكم الإسلامي المحافظة على هذه الأموال وتنميتها بحيث يستفيد منها الجيل الحالي والأجيال المقبلة. وهذه الأموال وهي التي تسمى باسم (أموال المجتمع الإسلامي) أو (أموال الأمة الإسلامية) ليست ملكاً لشخص أو جماعة معينة بل وليست ملكاً حتى للدولة. وعلى الحاكم الإسلامي السعي لحفظ هذه الأموال والانتفاع منها بشكل صحيح من أجل توفير أكثر ما يمكن من الرفاه الاقتصادي لأبناء الشعب... ومن الواجبات الأخرى للحاكم الإسلامي شؤون التعليم والتربية... ومسألة) التأديب (باعتباره واحداً من واجبات الحاكم الإسلامي. وقد ذُكر (التأديب) هنا بمعزل عن (التعليم) والمراد من (التأديب) هو(التزكية)... وربما كان مراد أمير المؤمنين (عليه السلام) من (التأديب) معنى آخر... هو عبارة عن: (الأشراف على سلوك الناس) بمعنى تقويم سلوك الناس ورعاية القيم والحيلولة دون وقوع انفلات أخلاقي)(27).

ثانياً: الحق الذي على الرعية:

1- الوفاء بالبيعة: أن يفوا ببيعتهم له، وبما تستلزمه البيعة من واجبات.

2- النصيحة في المشهد والمغيب: أي النصيحة للحاكم في حال الحضور وفي حال الغياب على حدٍ سواء.

3- الإجابة حين الدعوة من قبل راعي الأمة: إذ من الواجب على الرعية الإجابة للحاكم لو دعاهم إلى أي أمر فيه خيرهم وصلاحهم.

أمّا لو دعاهم إلى عكس ذلك، فعليهم الرفض وعدم الانصياع له.

4- الطاعة: أي أن يطيعوا الحاكم الجامع للشرائط بلا أي تسويف ولا تأخير مطلقاً.

بيّن أمير المؤمنين (عليه السلام) للناس أنّ لهم حقوقاً عليه وله حقوقاً عليهم، إذ أنّ للوالي حقوق، كما للرعية حقوق ايضاً.

لقد قدّم (عليه السلام) حقهم عليه بأنّ لهم عليه أن ينصحهم، ويتوخى لهم ما ينفعهم فيدلهم على الطريق القويم، فيوفر لهم فيئهم، إذ هي أموالهم فلا يصرفها الحاكم على نفسه أو على شهواته ومصالحه وحواشيه.

وكذلك على الحاكم أن يبذل جهده في تعليم رعيته، وأن يؤدب المسيئين ممن يتجاوزون على القانون، وأن يقيم الحدود بما يرضي الله تعالى.

أمّا حق الحاكم على رعيته فهو أن يفوا ببيعتهم له، وأن يكونوا حال غيابه كما هم في حال حضوره، إذ أنّ واجب الرعية نصح الحاكم لو وجدوا موضعاً للنصيحة، كما وإذا دعاهم لخيرهم ولصلاحهم فإنّ عليهم الإجابة والطاعة بدون تسويف أو تأخير؛ لأنّ الحاكم يتحرى مصلحة شعبه وما فيه خير ونفع لهم.

قال (عليه السلام): ((... وأعظم ما أفترض سبحانه من تلك الحقوق، حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكلٍ على كل، فجعلها نظاماً لألفتهم، وعزاً لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية.

فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها، عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على إذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء.

وإذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي رعيته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال(28) في الدين، وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى، وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق معطل، ولا لعظيم باطل فعل فهنالك تذل الأبرار، وتعز الأشرار، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد.

فعليكم بالتناصح في ذلك، وحسن التعاون عليه، فليس أحد – و إن أشتد على رضا الله حرصه، وطال في العمل اجتهاده - ببالغ حقيقة ما الله سبحانه أهله من الطاعة له. ولكن من واجب حقوق الله على عباده النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على إقامة الحق بينهم...))(29).

يوضح لنا أمير المؤمنين (ع) الأسس والتبعات التي تتبع الطاعة المتبادلة بين الراعي والرعية بالحق، وكذلك فيما لو لم يقم العدل بين الراعي والرعية على وجهه الصحيح.

ثالثاً: ملامح ما لو تمت العلاقة: 

إنّ من ملامح ما لو أدت الرعية حق الوالي، وأدى الوالي حق الرعية هي:

1- عز الحق بينهم: من العزة والمنعة، أي صار الحق عزيزاً مهاباً محترماً.

2- قامت مناهج الدين: أي طبقت، وقيامها أي تطبيقها بشكلٍ صحيح، من القيام وهو عكس الرقاد.

3- اعتدلت معالم العدل: أي استشرى العدل وانتشر وبانت معالمه في الرعية.

4- صلح بذلك الزمان: صلح الزمان بصلاح أهل الزمان.

5- طمع في بقاء الدولة: إذ يُطمع ببقاء مثل هكذا دولة تقيم العدل وتأمر به كمنهج لرعيتها وفق نظام ديني قائم على الطاعة والاحترام.

6- يئست مطامع الأعداء: فبمثل هكذا دولة متراحمة ومتحابة ومتعاونة لن يستطيع الأعداء بالداخل أو بالخارج أن يفعلوا ما يخرّب هذا النظام وصفو العيش السائد.

رابعاً: ملامح ما لو انفرطت العلاقة: 

وإنّ من ملامح ما لو غلبت الرعية واليها أو أجحف الوالي حق رعيته:

1- اختلفت هنالك الكلمة: فمع الظلم والاجحاف ستختلف الكلمة، وتحدث الثورات، والاعتراضات، وسيستشري عدم الطاعة.

2- ظهرت معالم الجور: سيكون الجور هو المَعلم الرئيسي لمثل هكذا حكومة.

3- كثر الإدغال في الدين: أي الإدخال غير الصحيح، من كثرة الطعن والتحريف بالدين من أجل المصالح الدنيوية.

4- عمل بالهوى: أي عمل بالأهواء والرغبات التي هي بدوافع الشهوات.

5- عطّلت الأحكام: يقيناً ستعطّل الأحكام الإلهية، بل وحتى الوضعية في مثل هكذا حكومة.

6- كثرت علل النفوس: أي الأمراض النفسية جراء الظلم، والجور، والفساد، وتردي الأخلاق.

7- تذل الأبرار: إذ لا مكان لهم في مثل هكذا حكومة.

8- تعز الأشرار: وذلك لأنّهم أهل لمثل هكذا حكومة فهم غوغائها وقادتها وحكامها.

بل إنّ حب الوطن من الواجبات على الرعية، فمن الواجب على المواطن أن يدافع عن وطنه في حال السلم والحرب، وفي ذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في المتخاذلين من الدفاع عن أوطانهم: ((أي دار بعد داركم تمنعون))(30)، وقال (عليه السلام): ((فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا))(31).

أمّا عن الغاية الحقيقية من حكم الرعية (الأمة)، يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): ((اللهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيءٍ من فضول الحطام ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك وتُقام المعطلة من حدودك. 

اللهم أنّي أول من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالصلاة))(32).

يبيّن لنا أمير المؤمنين (عليه السلام) الغاية الحقيقية من حكم الرعية، إذ هو يرسم دستوره (العلوي) بنماذج شفافة، من كلام رقيق وواقعي، ليبرأ فيه ساحته من أن يكون طالباً لحطام الدنيا في يومٍ من الأيام.

خامساً: أسس مهمة: 

وهنا نورد النقاط الرئيسية في حديثه (عليه السلام) المتقدم، والتي ترسم لنا دستوراً راقياً في التعامل والحكم وهي:

1- لنرد المعالم من دينك: أي إرجاع ما ضيّع من معالم الدين القويم، والتي حرّفها وضيّعها من ادّعى الدين، والمراد هنا إرجاع المعالم الصحيحة للدين الإسلامي بعد أن حرّفت معالمه.

2- نظهر الإصلاح في بلادك: فبعد أن استشرى الظلم والجور والتمايز والتفاضل والمحسوبيات، وعاد مرة أخرى بعد مؤامرة السقيفة، كان من واجب الإمام (عليه السلام) أن يظهر الإصلاح، وقوله في بلادك: أي في البلاد كلها عموماً، والبلاد الإسلامية بشكل خاص.

3- ليأمن المظلومون من عبادك: فعند اقامة العدل، وجريان الإصلاح، سيأمن المظلومون.

4- لتقام المعطلة من حدودك: بعد أن أمِن المظلومون بعد محاسبة الظالمين جراء اقامة ما عطّل من الحدود، وهذا هو اساس العدل الذي اراد(عليه السلام) نشره، بل هذا غاية الحكم الحقيقي ودستور العدل الإنساني.

نعم، إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد ((برّأ ساحته من كل ما يشين وما يتدافع غيره عليه فأشهد الله وهو وحده يعلم أنّه لم يكن ما كان منه في زمن من تقدمه من الخلفاء مغالبة منه لهم على الحكم ولا للحصول على أموال الدنيا وعروضها وما فيها من متاع ولكن ما كان منه إنّما هو ليردّ المعالم التي اختفت من الدين حيث عملت أيدي المبطلين في الحذف والتمزيق ومن أجل أن يظهر الإصلاح في بلاد الله فيأمن المظلومون من الظلم وتقام الحدود المعطلة التي كان يتشفع بأصحابها أرباب الحكم والسلطة))(33).

إنّ بين الراعي والرعية علاقة لا تنفك، علاقة من المفروض أنّها قائمة على التفاهم المتبادل وضمن تعاقد بين الطرفين له شروطه وكل واحد منها محتاج إلى الآخر في صدق العنوان عليه فلا قائد بلا شعب، ولا يمكن للشعب أن يكون بلا قائد، كما وأنّ لكل واحد واجبات وعليه بالمقابل حقوق ليؤديها.

يقول (عليه السلام) بهذا الصدد ما نصه: ((أيها الناس... إنّما أنا رجل منكم.. لي ما لكم، وعلي ما عليكم، وإني حاملكم على منهج نبيكم، ومنفذ فيكم ما أمرت به.. الا إنّ كل قطيعة اقطعها عثمان وكل مال اعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال... فإنّ الحق لا يبطله شيء. ولو وجدته قد تزج به النساء، وملك الاماء، وفرّق في البلدان لرددته فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق.. أيها الناس.. ألّا يقولنّ رجال منكم غدا - قد غمرتهم الدنيا فامتلكوا العقار، وفجّروا الانهار، وركبوا الخيل، واتخذوا الوصائف المرققة- إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه واصرتهم الى حقوقهم التي يعملون (حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا) ألا وأيّما رجل من المهاجرين والانصار من اصحاب رسول الله يرى أنّ الفضل له على سواه بصحبته فإنّ الفضل غدا عند الله، وثوابه وأجره على الله.. ألا وأيّما رجل استجاب لله ولرسوله فصدّق ملتنا ودخل ديننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الاسلام وحدوده. فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، ولا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله أحسن الجزاء. فإذا كان الغد فاغدوا علينا إن شاء الله، ولا يتخلفنّ أحد منكم. من أهل العطاء))(34).

يوضح (عليه السلام) الدستور العام للراعي وكيف يسير في رعيته وأي نهج ينتهج معها. فإنّ الراعي هو بمثابة الأب للرعية ((وجعل الوالي منكم بمنزلة الوالد من الوالد))(35)، في جانب الارشاد للرعية والحرص عليها وقيادتها بما يوافق كتاب الله وسنة نبيه.

أمّا وفي شأن السير بحوائج الرعية، وقضاء أمورها، ورعايتها ومداراتها فهنا يكون الدور ((بمنزلة الولد من الوالد...))(36)، فلا بد أن يسهر على راحة الأمة كسهر الوالد على راحة والديه، وأن يسعى في قضاء حوائجهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

فإذا فعل ذلك ((وجبت عليكم طاعته، بما وافق الحق، ونصرته على سيرته، والدفع عن سلطان الله))(37).

أي وجب على الرعية طاعته، بما وافق الحق، وكذلك نصرته على حسن سيره فيهم بالعدل وبالدفع عن سلطان الله تعالى.

وعلى الوالي أن لا يحتجب عن رعيته، لأنّ الرعية بحاجة اليه في كل لحظة وفي كل حين، فهو الموجه والراعي لهم، وليس هو متسلط ومتجبر عليهم.

قال (عليه السلام): ((أيّما والٍ احتجب عن حوائج الناس احتجب الله عنه يوم القيامة وعن حوائجه، إن أخذ هدية كان غلولاً، وإن أخذ الأجرة فهو مشرك))(38).

ثم بعد ذلك يبين (عليه السلام) أفضل عباد الله تعالى، وأفضل الحُكام عند الله تعالى ليوضح للأمة حقيقة الحكم والحاكم بعد أن انحرف مدّعوا الخلافة عن جادة الإسلام الحقيقي، وجعلوا حكومة الناس سلطوية وكسروية ابتدعوها.

يقول (عليه السلام): ((إنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادلٌ، هُديَ وهَدي، فأقام سُنّة معلومة، وأمات بدعة مجهولة، وإنّ السنن لنيرة، لها أعلام، وإنّ البدع لظاهرة، لها أعلام، وإنّ شر الناس عند الله إمامٌ جائر ضَل وضُل به، فإمات سُنّة مأخوذة، وأحيا بدعة متروكة.

وإنّي سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في نار جهنم، فيدور فيها كما تدور الرحى، ثم يرتبط في قعرها))(39).

أحاديث كثيرة وطويلة لدستور العدالة العلوي، ذلك الدستور الذي يجعل من الإنسان قيمة عليا، ويعمل بالسوية، والذي يضع نصب عينيه أنّ البشر سواسية أمام الخالق تعالى.

دستور العدالة العلوي ينطلق من انسانية الإنسان، لا يُغفل عبودية المخلوق للخالق، ويوضح أنّ طريق تحقيق تلك العبودية هو بالطاعة، ويبيّن من أين يستمد الإنسان قوانينه وشرائعه وتعاليمه، إنّه يستمدها من التعاليم التي جاء بها النبي الأكرم (صلى عليه وآله) ((واقتدوا بهدي نبيكم فإنّه أفضل الهدي واستنوا بسنته فإنّها أهدى السنن))(40)، ومن بعده من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) أهل بيت النبي الكرام، وصراطه المستقيم ((انظروا اهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم واتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى، ولن يعيدوكم في ردى...))(41).

الجدير بالخلافة والحكم؟

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): ((أيها الناس: إّن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر الله فيه، فإن شَغَبَ شاغِبٌ استُعتِبَ، فإن أبى قوتل، ولعمري لئن كانت الإمامة لا تعقد حتى يحضرها عامة الناس فما إلى ذلك سبيل، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار، ألا وإنّي أقاتل رجلين: رجلاً ادّعى ما ليس له، وآخر منع الذي عليه))(42).

أقواهم عليه: أي أقدرهم عليه.

شغب: من الشغب، وهو تهييج الفساد.

استعتب: طلب منه الرضى بالحق.

إنّ الجدير بحكم الأمة هو الأقدر على أمورها، والأعلم بشرع الله تعالى، فلو أثار أحدهم الشغب فساداً وإفساداً طلب منه الخضوع للحق والرضى به، فإن أبى ذلك كان قتاله حينها واجباً.

يوضح (عليه السلام) أمراً مهماً؛ إنّه من المستحيل جعل شرط عقد إمامة الأمة - أي الحكم - بحضور جميع الأمة. لكن أهلها - المؤهلين للحضور - يكونون حاكمين بدل من غاب عن أمر عقدها.

وهنا، فمن شهد، وبالتالي سكت اقراراً، لا يحق له أن يرجع عن البيعة، كما ولا يحق للغائب أن يختار غيرها تعذّراً وتحججاً بعدم الحضور.

إنّ الأمام علي (عليه السلام)، بما أنّه الإمام الحقيقي والحاكم الجامع لشرائط الحكم الإلهي، يقول بأنّه وفي هذا الأمر - عموماً - لا يقاتل إلا رجلين هما:

الأول: رجل ادّعى ما ليس له: وهذا المدّعي يجب أن يقاتل كونه مبتدع ادّعى ما ليس له، وقتاله خوفاً من اضلاله وتضليله للأمة.

الثاني: رجل منع الذي عليه: من منعه للحق والحقوق، أو منعه لحق الإمام العادل بالحكم.

أمّا عن واجب الحاكم الحقيقي، فيقول (عليه السلام): ((فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان كما يزول السراب أو كما يتقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين وتنهنه))(43).

ثلماً: أي خرقاً.

زاح: ذهب.

زهق: خرجت روحه ومات، مجاز عن الزوال التام.

تنهنه: أي كف وارتاح، من التنهنه وإخراج الحسرات ارتياحاً، والتنهنه هو الزفير الخارج من الرئة.

الإمام (عليه السلام) يقول: فخشيت إن لم اتصدَ لإمامة الأمة ونصرة الإسلام من خلال التصدي للخلافة، أن ارى في الإسلام ثلماً فوق ما ثلم منه كالذي وقع في مؤامرة السقيفة.

وحينها تكون المصيبة على الإمام علي (عليه السلام) أعظم، كونه مُسائل من قبل الله تعالى، إذ هو الإمام الحق لهذه الأمة من قبل الله تعالى شاءت الأمة أم أبت.

فكان الواجب هو الذي نادى الإمام (عليه السلام) وليس خوف فوت الولاية، التي هي أيام قلائل، طالت أو قصرت.

فنهض (عليه السلام) بأمور الأمة، فزاح الباطل الذي راكمه الثلاثة قبله، وبالخصوص عثمان بن عفان الذي جعل من الإسلام ومقدراته وراثة لآل أمية فقط.

وكان (عليه السلام) بتصديه المبارك أن اطمأن الدين وارتاح، كارتياح المتنهنه بعد طول تعب واختناق.

ثم إنّه (عليه السلام) يبيّن أمراً مهماً جداً على البشرية جمعاء الالتفات له وهو قوله: ((... لا بد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويُبلغُ الله فيها الأجل، ويجمع الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر، ويُستراح من فاجر))(44).

هنا يراد من (اللابدية) أي (لابدية) وجود نظام حاكم يحتكم إليه، إذ أنّ الحاكم والأمير  وجه أو رمز لذلك النظام الحاكم، ونظام الحكم: أي وجود نظام يُحكم من خلاله، أي دستور حكم خاص.

فالأمة - مهما كانت - لا بد لها من حاكم براً كان أو فاجراً يسوس أمورها، ويقودها؛ ليوفر لها المعايش والأعمال، ويجمع الفيء، ويقاتل أعدائها.

وكذلك لا بد من وجوده لتأمن به السبل، ويحاكم في ظلها الظالم ويُدافع فيها عن المظلوم، فيستريح البر فيها إذ لا أذية تأتي منه، ويستراح من الفاجر كونه يسعى للفجور بكل صورة.

(فالمجتمع لا تدار شؤونه من غير حكومة. وحتى لو انعدمت الحكومة الصالحة، فإنّ حكومة الفاجر خير من عدم الحكومة؛ وذلك لأنّ انعدام الحكومة يؤدي إلى الفوضى وفقدان الأمن، وتتلاشى عند ذاك الظروف الكفيلة بالنمو والتكامل المادي والمعنوي. فالحكومة التي يرأسها أهل الفسق والفجور، إذا وفرّت الأمن للناس، أفضل من عدم الحكومة. والمجتمع الفاقد للحكومة لا يحقق أي نجاح... ففي ظل وجود الحكومة وتوّفر الأمن يؤدي المؤمن واجباته ووظائفه ويطوي سيره التكاملي... فقد قضت الحكمة الإلهية أن يستمتع المؤمنون والكفار بنعم الله في الدنيا...)(45).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تاج العروس، ج6، ص 100.

(2) لسان العرب، ج4، ص 184.

(3) المعجم الوسيط، ج1، ص 251.

(4) معجم الفروق اللغوية، ص222.

(5) المصطلحات الإسلامية، مرتضى العسكري، ص 68 ـ 69.

(6) سورة البقرة، الآية (30).

(7) سورة ص ، الآية (26).

(8) سورة الأعراف، الآية (69).

(9) سورة الأعراف، الآية (74).

(10) سورة النمل، الآية (62).

(11) سورة الأعراف، الآية (142).

(12) سورة الأنعام، الآية (165).

(13) سورة يونس، الآية (14).

(14) سورة يونس، الآية (73).

(15) سورة فاطر، الآية (39).

(16) وجوه القرآن، النيسابوري، ص 227 ـ 228.

(17) ينابيع المودة، القندوزي، ص 307 ـ 308، وفرائد السمطين، ج2، ص 148.

(18) صحيح البخاري، ج6، ص 2640، ح6796، وصحيح مسلم، ج4، ص 100، ح1821، والصواعق المحرقة، ص 189.

(19) ينظر: صحيح البخاري، ج6، ص 2640، ح6796، وصحيح مسلم، ج4، ص 100، ح1821، مسند أحمد بن حنبل، ج5، ص 86 ـ 108، مستدر الحاكم النيسابوري، ج3، ص 618.

(20) ينابيع المودة، ص 446.

(21) الخلافة المغتصبة، إدريس هاني، ص 77 ـ 78.

(22) في النظام السياسي للدولة الإسلامية، محمد سليم العوا، ص 126.

(23) الأحكام السلطانية، الماوردي، ص 15 ـ 16.

(24) الخلافة المغتصبة، إدريس هاني، ص 65.

(25) الأجوبة الوافية، لجنة تأليف، ج1، ص 22 ـ 23.

(26) نهج البلاغة، الخطبة 34, 92.

(27) النظرية الحقوقية في الإسلام، محمد تقي مصباح اليزدي، ج2، ص 243 - 244.

(28) الفساد.

(29) نهج البلاغة، الخطبة 214, 410.

(30) نهج البلاغة، الخطبة 29.

(31) نهج البلاغة، الخطبة 27.

(32) نهج البلاغة، باب الخطب - الكلام 131.

(33) تبيان الفصاحة في شرح نهج البلاغة، السيد عباس علي الموسوي، ص 419.

(34) شرح نهج البلاغة، ج 7، ص 36- 37، ونقله الطوسي في الأمالي، ص 729. 

(35) وقعة صفين، المنقري، ص 126.

(36) م، ن، ص 126.

(37) م. ن، ص 126.

(38) وسائل الشيعة، الحر العاملي، باب 5، ح10.

(39) شرح نهج البلاغة، ج7، ص30.

(40) نهج البلاغة، م1، ص 213.

(41) نهج البلاغة، م 1، ص 190.

(42) نهج البلاغة، الخطبة 173.

(43) نهج البلاغة، الرسالة 62.

(44) نهج البلاغة، الخطبة 40.

(45) النظرية الحقوقية في الإسلام، الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، ج2، ص 28.