علماني/: إنّ العقلَ قادرٌ على أنْ يُشرّعَ أحكاماً وضعيةً تغني عن التشريع الإلهي.

: اللجنة العلمية

الجوابُ :

إنّ عقلَ الإنسان ينقسمُ بلحاظِ ما يتعلّقُ به الإدراكُ الى :

1-العقلُ الجوهرةُ (الحُجّة): وهو العقلُ المتكاملُ في مقام النبوّةِ والإمامة وتجلّيه الأظهر في الحقيقةِ المحمّدية الذي وردَ في الرواية (إن الله جلّ ثناؤه خلقَ العقل ، وهو أوّلُ خلقٍ خلقهُ من الروحانيين عن يمين العرش من نوره).

وبه يُثيبُ الله وبه يُعاقب من حيث أنّهُ يرضى لرضاه ويسخطُ لسخطه فتكونُ تشريعاتهُ هي ذاتُها التشريعاتُ الإلهية.

2- العقلُ النظريّ: وهوَ بإختصارٍ شديدٍ قوةٌ مُدرِكَةٌ بمعنى أنّ وظيفتَهُ الإدراكُ فحَسبْ كإدراكهِ أنّ الكُلّ أعظمُ مِنَ الجزء  .

3- العقلُ العَمليّ: وهوَ بإختصارٍ قوّةٌ مُحّركةٌ وهو إدراكٌ مُتأخِّرٌ عن الأوّل لأنّ التحرّكَ لا يكونُ إلّا بعدَ الإدراكِ لما هو بصدده  .

اذا اتّضحَ هذا فنقولُ : إنّ العقلَ العمليّ يجبُ أنْ يكونَ خارجَ المعادلةِ ،لأنّه لا علاقةَ لهُ بالإدراكات  فحديثُنا مع العقلِ النّظري وهنا نسألُ هذا السؤال : ما هو مجالُ وحدودُ العقل النظري ؟.

نقولُ : لا شكّ في أنّ العقلَ النظريَّ إذا حكمَ بشيءٍ ومهما كانَ منشأُ حكمهِ، تجريبيّاً، ام تأمليّاً، ام بديهيّاً، فتارةً يكونُ حكمُه في مجالِ فروعِ الدّين والأحكامِ الجزئيّة، وأخرى يكونُ في مجال أصولِ الدين والقضايا العقديّة .

فإنْ كانَ حكمهُ في المجالِ الاوّل ( فروع الدين ) بأنْ حكمَ بوجوبِ شيءٍ مثلاً فهل يمكنُ للعقل ( النظري ) أنْ يقطعَ بأنّ ما حكمَ به مطابقٌ للواقع وأنّ فيهِ مصلحتَهُ ومصلحةَ جميعِ أفرادِ المجتمع ؟.

ولا أريدُ أنْ أستعجلَ الجواب على هذا السؤال لأنّني أرى مِنَ الضروري أنْ أقدّمَ مقدّمةً هي في صلبِ ما نحنُ بصدد بيانهِ الا وهي ( حدودُ العقل ).

أقولُ : لو فرضنا أنّ العقلَ النظريّ أدركَ كلّ ما له دخلٌ في تشريعِ ذلكَ الحكم، أي أنّهُ أدركَ مِلاكات الحُكم بتمامها ،

فهل يمكنُ لهُ أنْ يصلَ الى درجةِ القطعِ بأنّ هذا الحكمَ الذي أدركَ كلّ ملاكاتهِ صالحٌ لهُ ولكلّ الانسانية ولا يتعارضُ مع أيّ حكمٍ آخر أم لا ؟ ولماذا ؟ .

الجوابُ بالنفي, وأنّ العقلَ سيجدُ نفسهُ عاجزاً عن الوصولِ الى درجةِ القطع في هذا المضمار والسببُ بسيط إذ أنّهُ أدخلَ نفسهُ في مجالٍ ليسَ من اختصاصه .

صحيحٌ أنّ العقلَ وصلَ الى إدراكِ كلّ ملاكاتِ الحكم بحسبِ الفرض، بحيث أدركَ المقتضي للحكمِ والعلّة إلاّ أنّ الحكم الذي هو معلولٌ للملاكاتِ المدركةِ لا يُمكنُ أنْ يصدرَ مِنَ العقلِ ما لم يخلو من الموانعِ ، بإعتبارِ أنّ الأحكام الشرعيّة هي أحكامٌ ضمنَ منظومةٍ  تشريعيّةٍ متكاملة ، وليستْ هيَ أحكاماً جزئيّةً مبعثرةً هنا وهناك لا ربطَ لأحدِها بالآخر، بل الأحكامُ الشرعيّةُ منسجمةٌ  فيما بينَها بحيث لا يُشكّلُ أحدُها تضادّاً وتمانُعاً مع  الآخر وهنا يقعُ الإشكالُ المعضِلُ، فنحنُ حتى لو سلّمنا بإدراكِ العقل لمقتضي الحكم، فلا نسلّمُ أنّ العقلَ بإمكانهِ أنْ يُدركَ أيضاً كلّما مِن شأنهِ  أنْ يُشكّلَ مانعاً من هذا الحكمِ ،لأنّ ذلكَ يقتضي أنْ يكونَ العقلُ النظريّ مُلِمّاً ومُحيطاً بكلّ تفصيلاتِ الأحكامِ وبكلّ ما مِنْ شأنهِ أنْ يُشكّلَ مانعاً لأحكامٍ أخرى وهذا ضروريُّ البطلان بالوجدان، فإنّ العقلَ النظريّ يعترفُ بعجزهِ هنا .

ولكي يكونَ المطلبُ أكثرَ وضوحاً سأضربُ مثالاً على ذلك منَ القرآن الكريم ففي ثبوتِ حدّ الزنى والعياذ بالله تتحدّثُ الاية الكريمة :(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4 النور).

هنا لو سُئِلَ العقلُ النظريّ بكلّ مدركاتهِ عن كيفيّةِ ثبوت حدّ الزنى فإنّه مهما بالغَ ومهما إحتاطَ في المسألةِ سوفَ لنْ يصلَ الى الحدّ الذي إحتاطَ بهِ الشارعُ في ثبوتِ الحدّ على الزاني حيثُ إشترطَ العددَ وهو أربعة، وإشترطَ نوعيّة الشهودِ وهيَ إتّصافُهم بالعدالة، وإشترط َنوعيّة الشهادةِ وهيَ المشاهدةُ العيانيةُ، كمشاهدةِ الميلِ في المكحلةِ، وإشترطَ كيفيّةِ أداءِ الشهادة، الى غير ذلك ممّا هو مذكورٌ في المطوّلاتِ الفقهية .

أقولُ لو سألنا العقلاءَ بعقلهم النظريّ مِنْ أوّلِ الخليقةِ الى قيام الساعة، عن كيفيّةِ ثبوتِ حدّ الزنى لما قال واحدٌ منهم بما قاله الله في كتابهِ، وما ذاكَ الاّ لأجل أنّ الأحكامَ الشرعيّةَ عبارةٌ عن  منظومةٍ مترابطةٍ من الأحكام يُؤثّرُ بعضُها بالآخر وليست هي عبارةً عن أحكامٍ مبعثرةٍ وغيرِ مترابطةٍ، إذ لو كانت كذلكَ لإكتفى الشارعُ بشاهدين أو لعلّه حتى بواحدٍ ولمَا كانَ هناكَ من داعٍ الى  مزيدٍ من الدقّة والإحاطة التّامةِ بكلّ تفصيلاتِ وتداخلاتِ حادثةِ الزنا، ففي هذه المسألة  نجدُ أنّ الشارع نظرَ الى العقباتِ المترتّبةِ على ثبوتِ حدّ الزنا من حيث هيَ إشاعةٌ للفاحشة في المجتمع المؤمن، ومن حيث هي مشكلةٌ ستترتّبُ عليها تبعاتٌ اجتماعيةٌ، وماليّةٌ، وروحيّةٌ جسيمةٌ الأمرُ الذي اقتضى أنْ يحتاطَ الشارعُ في هذه المسألة بما لا يحتاطُ به العقلُ النظريّ، إذن الإحاطةُ بكلّ الملاكاتِ ومعارضاتها ممّا تعجزُ عنهُ عقولُ البشر.

الى هنا أصبحَ الجوابُ واضحاً, فإنّ مجالَ العقل النظري محدودٌ بحدودِ عدمِ علمهِ وضحالةِ إطّلاعه على الملاكاتِ التي من المحتمل أنْ تُشكّلَ تضادّاً مع ملاكاتِ الحكمِ الذي هو بصددِه .

واذا أدركَ العقلُ بأنّهُ محدودٌ بهذه الحدود، يكونُ قد أدركَ باليقين عجزَهُ عن إصابةِ التشريعاتِ والقوانين التي من شأنها أن تأخذَ بيَدِ الإنسانية الى برّ الأمان  .

ثانياً : لو أردنا أن نجعلَ العقلَ بديلاً عن الدّين، ونعطيَهُ دكّةَ التشريعِ والحكم فإلى أيّ عقلٍ ومجتمعٍ من المجتمعاتِ سيعطى هذا الحقُ؟، وهل هو مختصٌّ بمجموعةٍ دون اخرى ؟ وأين الدّليل على إختصاصهِ بمجموعةٍ دونَ غيرها ؟، أم يحقّ لكلّ أحدٍ أنْ يُشرّعَ ما يحلو له ؟، ونتيجتُها الفوضى والدّمار .

وهل بلغتِ الانسانيّةُ درجةً من النّزاهة والسّموّ الروحي والأخلاقي، بحيث يمكنُها أنْ تُشرّعَ لصالحِ الانسانيّة جمعاء حتى وإنْ أضرّ التشريعُ بمشرّعه؟، ماذا نُسمّي حقّ ( الفيتو ) الموجود الى يومِنا هذا , وغيرهِ من القوانين التي تعدّ نكسةً في مسيرةِ الانسانيّة .

ثالثاً : إنّ سرّ نجاحِ التشريعاتِ السماويّة هي كونُ مُشرّعِها ( الله ) خارجَ دائرةِ النفع والضَرر بما يُشرّعه وهذه خصلةٌ تفرّدتْ بها الشرائعُ السماويّة والأحكام الالهية عمّن عداها .