العدل الإلهي وإشكالية العوق الولادي

أمجد جبار الشلاه/ : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته سألني أحد العلمانيين أنه إذا كان الله سبحانه وتعالى عادلاً، إذن لماذا يخلق أناساً معاقين؟ فقلت له أنّه أمر يتعلق بالجينات الوراثية. فردّ - ما معناه - أنّه ليس بخالق. ما هو ردّكم مع الشكر الجزيل لكم

: اللجنة العلمية

عليكم السلامُ ورحمةُ الله وبركاتهُ أخي الكريم..

الجواب:

هناكَ إشتباهٌ من قِبَل المُستشكل:

وهو: إنّه يتوَهّم أنّ الذين يؤمنون بأنّ الله خالقٌ يعتقدون أنّه يخلقُ الأشياءَ بالمباشرة، ومن دون سُنَنٍ وقوانينَ ونُظمٍ تحكمُ هذا العالم؛ فجاءَ جوابُه:إذن هو ليس بخالق؟!!   

عزيزي.. نحنُ نعتقدُ بأنّ اللهَ خالقُ السمواتِ والأرض وما فيها ومن عليها، وخالقُ قوانينِها التكوينيّة العامّة التي منها مايحكمُ عالمَ المادّة وعالمَ الطبيعةِ مثلاً، وهذا ثابتٌ بالفطرةِ والوجدان والعقل والنقل. ومن جُملةِ القوانينِ التكوينيّة التي تحكمُ عالمَ الطّبيعة هو قانونُ التوالدِ والتوليد.

مثلاً: الفلاحُ حينَ يُريدُ أنْ يزرعَ ماذا يفعل؟ هل يضعُ البذرةَ في الأرض ثمّ ينتظرُ أن تنبت شجرةٌذاتُ ثمرٍ جيّدٍ وسليم !!!أو لا بُدّ أن يقوم َبتوفيرِ الظروفِ المناسبة لنباتها كتهيئةِ الأرض من تقليبٍ وماءٍ وسمادٍ وغير ذلك.. ودفعِ الموانعِ المُحتمَلَةِ بالأدويةِ المضادةِ وما شابه؛ لضمانِ سلامةِ الثمرة... وماعمَلُ وسعيُ الفلاّح هذا إلاّ لأنّ الثمرةَ والمحصولَ السليمَ لا يتحقّق إلا بذلك. لماذا؟ فقد جرى في علمِ الله أن تحكمَ القوانينُ عالمَ المادة ، فمَن التزمَ بتلكَ القوانين وأسبابها وشروطها حصلَ على النتيجةِ والغاية؛ وإلاّ  فليسَ لهُ أن يعترضَ قائلاً:لماذا يا الله؟! إنّي قد زرعتُ الأرضَ.. ولم أجنِ الثمر، وفلانٌ زرعَ وجنى ..هذا ظلم!.

وهكذا من أراد ثمرةً ومولوداً سالماً صحيحاً، عليه أن يوّفرَ الشروطَ المناسبة من جهتهِ - جهة الرجل -، وهي كثيرةٌ مذكورةٌ في الرواياتِ الشريفة، والدراساتِ العلمية الطبيّة المتخصصةِ في هذا المجال، وهكذا بالنسبةِ للمرأة من التغذيةِ الجيّدة والحالةِ النفسيّة وعدمِ الانفعالِ وعدم المرض وهكذا...

أمّا إذا لم يلتزمِ الأبوان بذلك، وخرَجَ المولودُ مشوّهاً أو مُعاقاً، فلا يَقول لماذا يا ربّي وُلِدَ مُعاقاً أو مشوّهاً خلقياً أو أخلاقياً كما لو كانَ عدوانياً مثلاً، أو بليدَ الفكر وغيرَ ذلك كثير، فنقولُ لهُ أنتَ ظلمتَ نفسَك ولم تلتزمْ بالقوانين والإرشادات. كما أنّ المريضَ إذا لم يلتزمْ بإرشادات الطبيب كأوقاتِ شربِ الدّواء ومقداره، ولم يشفَ، أو اشتدّ عليه المرض، أو أدّى عدمُ التزامه إلى تشوّه خُلقي، فلا يقولنَّ إنّهُ ليس طبيباً جيّداً أويسمَهُ بالظلم، فضلاً عن أن يُقال: إذن هو ليسَ بطبيب؟!! هذا منطقٌ مرفوضٌ من العلمانيين والمؤمنين على حدّ سواء.

هكذا الحالُ بالنسبةِ للمولود المُعاق وِلادياً، فبعدَ عدمِ الالتزام بذلكَ، لا يصّحُ أن ننسبَ هذا النقصَ إلى الله تعالى، وبالتالي ننسبُ إليه الظلم -تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً-بل هو من تقصيرِ الأبوين. وهذا ما أشارت إليه الشريعةُ المقدّسة كتاباً وسُنّةً قبل أكثر من1400 سنة، واكتشفهُ العلم الحديث مؤخّراً. قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ }(سورة الروم 41) وللوقوف على التصوّر الصحيحِ لمفهومِ العدلِ والعدالة لا بُدّ من الإيمان بأمور:

أولاً: أن نؤمنَ بأنّ خالقَ الوجود هو الله الحيّ القادر الخالق العليم الخبير القوي الحكيم... إلى آخره من صفات الجمال والكمال التي تليقُ بساحته تعالى.

ثانياً: أن نُؤمنَ بأنّ عالمَ الوجود لا يساوي عالمَ المادة، بل الأخيرُ - وهو عالمُ التغيّر والتبدّل وعدمُ الثبات والاستقرار - هوَ أحدُ عوالم الوجود، والدنيا دارُ بلاءٍ وامتحان، وليست داراً للجزاء.

ثالثاً: أن نؤمنَ بوجود عالمِ الآخرة وأنّها دارُ الجزاء ودارُ القرار.

وبخلاف ذلكَ؛ لا يمكنُ لنا أن نتعقّلَ مفهومَ العدل والعدالة بصورةٍ صحيحةٍ، بل لا يمكنُ أن تتحقّق العدالةُ في القصاص من الظالمين وإنصاف المظلومين. قال تعالى {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}  

الكهف 49.

فليس هناك قانونٌ يحقّقَ العدالة التي هي مبتغى ومطلب وأمنيّة كلّ البشريّة إلاّ الإيمان بالله تعالى، والإيمان بوجودِ قوانينه التكوينيةِ والتشريعيةِ والالتزام بها (الدين)، وبالإيمان باليوم الآخر.

أمّا لماذا جميع القوانين الوضعيةُ - غيرُ الدينية - هي قاصرةٌ ولا يمكنُ أن تحقّق العدالةَ وإن كانت موضوعةً لتحقيقها ؟ ذلك لأنّ كثيراً من الظالمين والمجرمين قد لا ينالون العقوبةَ على أفعالهم وبالتالي لا يتحقّق العدل؛ إما لعدمِ العلم بهم، فكم من قضيةِ قتلٍ أو سرقة أو اغتصب قُيدَتْ ضدّ مجهول!! أو لإستحالةِ القبض عليهم؛ لأنهم من أصحابِ النفوذ..فلو لم نؤمنْ بكل ذلك، ولم نؤمن بوجود عالم الآخرة والجزاء - وقصرنا النظر على عالم الدنيا فقط - لن يُمكنَنا إدراكُ وتصوّرُ وتعقّلُ المفهوم الصحيح من العدالةِ وكيفيّة تَحقّقِها...