ملحد يسأل: من أين أتيتم بفرضيّة الصانع المتقن والخالق العظيم؟

مضمون السؤال: كلّ العلوم تقول إنّ الكون نشأ من نفسه ومن دون تدخل قوه خفية، فمن أين أتيتم بفرضية الصانع المتقن والخالق العظيم؟

: اللجنة العلمية

الجواب الإجمالي:

1 - دعوى أنّ الكون نشأ (خُلِقَ) من نفسه وتؤيده كلّ العلوم، باطلة جزماً، بل لنْ تجد أي علمٍ إلا ويشهد بمعلوليته لعلةٍ حكيمةٍ وعالمةٍ.

2- دعوى أنّ الكون مخلوق ذاتي (نشأ من نفسه) يلزم منه الدور الباطل، لذا فهذه الدعوى باطلة جزماً.

الجواب التفصيلي:

1 - إنّ الدعوى غير المقرونة بالإستدلال والبرهان لا قيمة لها، والدعوى المذكورة هي من هذا القبيل، فالمستشكل طرح دعواه جزافاً، ولم يستند إلى أي دليلٍ.

2- أين العلوم التي تثبت هذه الدعوى، بل سنتثبت أنّ العلم يرفض هذه الدعوى جزماً، ويثبت أنّ للكون خالق، وأنه – أي العلم - يرفض فرضية أنّ الكون صناعة ذاتية.

3- إنّ المستشكل يؤمن بالمنهج العلمي التجريبي، ونحن أيضاً نستند إليه، فإما يثبت دعواه، أو يثبت دعوانا.

ونحن نستند إلى ما يُسمى ببرهان النظم، وهو يتكون من ثلاث مقدمات أساسية:

الأولى: إنّ عالم الطبيعة خاضع لنظام محدد، وإنّ كلّ ما في الكون لا ينفك عن النظم والسنن والقوانين المحكمة الدقيقة التي كشفت العلوم الطبيعية عن بعضها، وكلما تطورت هذه العلوم خطى الإنسان خطوات أخرى في معرفة الكون والقوانين السائدة عليه.

وهل يمكن للمستشكل ينكر ذلك؟!

الثانية: قانون أصل العلية، والمراد منه أنّ كل ما في الكون من سنن وقوانين لا ينفك عن علة توجده، وإنّ تكوّن الشيء بلا مكوّن، وتحققه بلا علة، أمر محال لا يعترف به العقل بالفطرة وبالوجدان والبرهان.

وعلى ذلك، فكلّ الكون وما فيه من نظم وعلل نتيجة علة أوجدته وكونته.

وهذه المقدّمة لا ينكرها المستشكل، وذلك لأنّه يقول أنّ الكون نشأ (خُلقَ) من نفسه، فهو يرفض الصدفة. 

وحتى لو لم يؤمن بذلك، وأنه يؤمن بالصدفة، فنقول من أجل بطلان هذه الدعوى: أنّ الصدفة لا تتناسب مع القوانين والنُظم، فلو أردنا قبول فرضية الصدفة، يواجهنا البرهان على بطلانها، وهو أنّ الكون فيه مئات القوانين، والنُظم، وهي لا تنتج إلاّ من علةٍ حكيمةٍ.

لذا ففرضية الصدفة لا يقتنع بها جاهل فضلاً عن عاقل.

الثالثة: إنّ دلالة الأثر تظهر بصورتين:

الصورة الأولى - وجود الأثر يدل على وجود المؤثر، كدلالة المعلول على علته، والآية على صاحبها، وقد نقل عن أعرابي أنه قال: " البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام يدل على المسير "، إلى غير ذلك من الكلمات التي تقضي بها الفطرة. وهذه الدلالة مما لا يفترق فيها المادي والإلهي، وإنما المهم هو الصورة الثانية من الدلالة.

الصورة الثانية - إنّ دلالة الأثر لا تنحصر في الهداية إلى وجود المؤثر، بل لها دلالة أخرى تابعة للدلالة الأولى، وهي الكشف عن خصوصيات المؤثر من عقله وعلمه وشعوره، أو تجرده من تلك الكمالات والصفات وغيرها. 

فمثلاً: إنّ صنع الساعة أو أي جهاز يكشف عن أنّ له صانعاً، ويكشف عن أنّ صانعه عالماً وشاعراً وحكيماً.

وما زال العلمُ يتقدم ويكشف عن الرموز والسنن الموجودة في عالم المادة والطبيعة، والعلوم كلها - بشتى أقسامها وأصنافها وتشعباتها وتفرعاتها - تهدف إلى أمر واحد، وهو: أنّ العالم الذي نعيش فيه - من الذرة إلى المجرة - عالم منسجم تسود فيه أدق الأنظمة والضوابط، تهدف جميعها إلى وجود علةٍ.

فما هي تلك العلة؟  

إنها تتردد بين شيئين لا ثالث.

الأول: إنّ هناك موجود خارج عن إطار المادة، عالم قادر واجد للكمال والجمال، قام بإيجاد المادة وتصويرها بأدق السنن، وقام بتنظيمها بقوانين وضوابط دقيقة، فهو بفضل علمه الوسيع وقدرته اللامتناهية أوجد العالم وأجرى فيه القوانين وأضفى عليه السنن التي لم يزل العلم من بدء ظهوره إلى الآن يسعى جاهداً في كشفها ومستغرقا في تدوينها، وهذا المؤثر الجميل ذو العلم والقدرة هو الله سبحانه.

الثاني: إنّ المادة الصمّاء العمياء القديمة التي لم تزل موجودة، وليستْ مسبوقة بالعدم، قامت بنفسها بإجراء القوانين الدقيقة، وأضفتْ على نفسها السنن القويمة في ظلِّ انفعالات غير متناهية حدثت في داخلها وانتهت - على مرّ القرون والأجيال - إلى هذا النظام العظيم الذي أدهش العقول وأبهر العيون.

وكلتا هاتين النظريتين عند عرضهما على المقدمة الثالثة لبرهان النظم، فلا شك ولا شبهة سنخرج بنتيجة جماعها صحة النظرية الأولى وبطلان الثانية، وذلك لما عرفت من أنّ الخصوصيات الكامنة في وجود المعلول والأثر تعرب عن الخصوصيات السائدة على المؤثر والعلة، فالسنن والنظم تكشف عن المحاسبة والدقة، وهي تلازم العلم والشعور في العلة، فكيف تكون المادة العمياء الصماء الفاقدة لأي شعور هي التي أوجدت هذه السنن والنظم؟

إذن، ثبت أنّ لهذا الكون خالقاً أزلياً أبدعه، وهو الله تبارك وتعالى.

الخلاصة والنتائج:

1-إنّ فرضية أنّ الكون نشأ من نفسه هي فرضية ضد العلم، وما كان ضد العلم لا يمكن قبوله، بناءً على رأي المستشكل نفسه.

2-إنّ فرضية أنّ كلّ العلوم تدعم هذه النظرية، إنما هي دعوى لا مستند لها، بل المستند يبطلها جزماً.

3-إنّ العلم يثبت وجود العلة والمتصف بكثير من الصفات، كالعلم والقدرة، وغير ذلك.

4-إنّ فرضية الصدفة لا يمكن لعاقل أنْ يقبلها وهو يرى الكون وما يتصف به من قوانين ونُظمٍ عجيبةٍ.