هل للحياةِ قيمةٌ معَ الإلحادِ؟

يقولُ الملحدونَ: إنَّ إيماننَا بأنَّ الحياةَ الدّنيا هيَ الحياةُ الحقيقيّةُ، ولا حياةَ وراءهَا هوَ الذي يجعلهَا أعظمَ قيمةً، بينمَا الذينَ يقولونَ بوجودِ حياةٍ أخرى بعدَ هذهِ الحياةِ يَسلبونَ مِن هذهِ الحياةِ روعتهَا.

: اللجنة العلمية

إنَّ قيمةَ أيِّ شيءٍ تتجلَّى مِن خلالِ الغايةِ والأهدافِ السّاميةِ التي يمثِّلهَا أو يَسعى إليهَا، والإلحادُ الذي ليسَت لهُ رؤيةٌ عَن مبدأِ الإنسانِ ولا عَن غايتهِ ومصيرهِ النّهائيِّ لا يمكنُ أن يتحدّثَ عَن قيمةٍ للإنسانِ، وبالتّالِي الإلحادُ كمَا عبّرنَا فِي ردودٍ سابقةٍ ليسَ إلّا رؤيةً مشوّهةً للإنسانِ؛ ليسَ لكونهِ كُفراً بالإلهِ فقط وإنّمَا لأنّهُ كفرٌ بالوجودِ وبالإنسانِ وبالعقلِ وبقيمةِ الحياةِ، فعندمَا تنَصّلَ الإلحادُ عنِ الرّوحِ وآمنَ بالمادّةِ، وكفرَ بالباطنِ وتعلّقَ بالظّاهرِ، وتجاهلَ العلّةَ وتستّرَ بالصُّدفةِ، وأهملَ الغايةَ وتمسّكَ بالفَوضَى والعبثِ، وتركَ العقلَ وتشبّثَ بالحسِّ، لَم يترُكْ مجالاً لأيِّ قيمةٍ للإنسانِ أو للحياةِ أو للوجودِ برمَّتهِ، فالوجودُ مِنْ دونِ روحٍ لا يكونُ لهُ قيمةٌ، وعندمَا يكونُ منْ دونِ باطنٍ لا يكونُ لهُ ظاهرٌ، وعندمَا يكونُ منْ دونِ علّةٍ لا يكونُ لهُ حقيقةٌ، وعندمَا يكونُ منْ دونِ غايةٍ لا يكونُ لهُ حِكمةٌ، وعندمَا يكونُ منْ دونِ عقلٍ لا يكونُ لهُ معنىً ولا طعمٌ. فإشكاليّةُ الإلحادِ معَ اللهِ هيَ إشكاليّةٌ معَ الإنسانِ، والرّجوعُ إلى اللهِ يبدأُ مِن رجوعِ الإنسانِ إلى الذّاتِ.

ويبدو أنَّ القيمةَ التي يتحدّثُ عنهَا الإلحادُ هيَ قيمةُ الشّهواتِ والأهواءِ التي تجعلُ الإنسانَ في مصافِّ الحيواناتِ، فعندمَا يعتقدُ الإنسانُ أنَّ وجودَهُ في الحياةِ جاءَ عَن طريقِ الصّدفةِ ثمَّ يمضِي منهَا مُكرهَاً إلى العدمِ والمجهولِ لا يمكنُ أن يتحدَّثَ إلّا عنِ الشّهواتِ والرّغباتِ الحيوانيّةِ، أمّا القيمُ والمُثلُ والفضائلُ والأخلاقُ الرّفيعةُ التي تحدثُ للإنسانِ بالتّزكيةِ والتّطهيرِ والتّرفّعِ عنِ الشّهواتِ لا يمكنُ أن يفهمهَا الإلحادُ. ومِن هُنا كانَ إيمانُ الإنسانِ باللَّهِ هوَ الذي يحقّقُ للحياةِ قيمةً وللإنسانِ كرامةً. 

وعليهِ فإنَّ الأديانَ هيَ الإطارُ الأنسبُ للإنسانِ، بَل لا غِنى للإنسانِ عنِ الأديانِ، لكونِهَا القادرةَ على مُناجاةِ الإنسانِ منَ الدّاخلِ، وتحريكهِ منَ الباطنِ ليجدَ الإنسانُ ذاتَهُ، فيحقّقَ الاِنسجامَ معَ نفسهِ والتّكاملَ معَ محيطهِ، ومعَ أنَّ إنسانيّةَ الإنسانِ تتجلّى فِي اِرتباطهِ معَ الآخرِ، إلّا أنَّ ذلكَ يبدأُ منَ الصّلاحِ على مستوى الذّاتِ حتّى ينعكسَ صلاحاً على مستوى الجَماعةِ، فعندمَا يقفُ الإنسانُ وجهَاً لوجهٍ معَ ذاتهِ يكونُ هوَ المسؤولَ عَن إنسانيّتهِ، والدّينُ ليسَ إلّا تنبيهاً للإنسانِ النّائمِ في أعماقِ الإنسانِ، قالَ تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا)، والظّلمُ والجهلُ همَا اللّذانِ يُضيِّعانِ هذهِ الأمانةَ، فاللهُ خلقَ كلَّ شيءٍ في الوجودِ بالشّكلِ الذي لا يكتسبُ معهُ كمالاً آخرَ، فالسّماءُ سماءٌ، والأرضُ أرضٌ، وكذلكَ النّباتُ والحيوانُ، أمّا الإنسانُ فقَد أوكلَ اللهُ لهُ إكمالَ ذاتهِ وفتحَ أمامَهُ الطّريقَ وهيّأ لهُ الأسبابَ، وهذهِ أمانةُ اللهِ للإنسانِ وهيَ أن يكونَ مسؤولاً عن بناءِ نفسهِ وصناعةِ ذاتهِ، فإمَّا أن يكونَ إنساناً وإمَّا أن يكونَ حيواناً، فاللهُ لم يخلقِ الإنسانَ إنساناً بالشّكلِ الذي خلقَ بهِ الحيوانَ حيواناً، وإنّمَا جعلَ لهُ الخيارَ فإمّا أن يكونَ (كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) وإمَّا أن يكونَ (وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً).

ففلسفةُ الأديانِ هيَ تشجيعُ الإنسانِ على أن يكونَ إنساناً بعقلهِ وإرادتهِ وما فُطِرَ عليهِ مِن قيمِ كمالٍ وجمالٍ، وليسَ حيواناً بغريزتهِ وشهواتهِ وأنانيّاتهِ، وهكذا يكونُ يومُ الجزاءِ في الآخرةِ، فمَن أصبحَ إنساناً في الدّنيا بُعِثَ إنساناً في الآخرةِ وكانَ نصيبهُ الجنّةَ، ومَن عاشَ في الدّنيا كالأنعامِ بُعِثَ كمَا كانَ، وليبحثْ لهُ عَن حظيرةٍ تأويهِ في مكانٍ غيرِ الجنّةِ. قالَ تعالى: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) وقالَ تعالى: (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ). 

فالأديانُ شيءٌ آخرُ يمتازُ عَن معارفِ البشرِ ومناهجِهم وقوانينِهم وتنظيماتِهم، ليسَ لأنَّ الأديانَ بخلافِ ذلكَ، وإنّمَا لكونهَا تجعلُ ذلكَ كلَّهُ مسؤوليّةَ الإنسانِ بوصفهِ إنساناً، والأديانُ هيَ التي تصنعُ الإنسانَ الذي يصنعُ كلَّ ذلكَ.