هلِ الدَّاروينيَّةُ نظريَّةٌ مُتماسكةٌ مَنطقيَّاً؟

يقولُ المُلحدونَ: إنَّ الأشكالَ البِدائيَّةَ مِنَ الكائناتِ تطوَّرتْ إلى أنظمةٍ مُعقَّدةٍ مِنْ دُونِ هدفٍ مقصودٍ؛ فإذا كانَ الإنسانُ اليومَ موجودَاً وهوَ بالغُ التَّعقيدِ فِي جِسمهِ، وكذلِكَ فيمَا يرتبطُ بقواهُ الفِكريَّةِ والعقليَّةِ وعواطفِهِ فكلُّ ذلكَ نتاجُ التَّطوُّرِ مِنْ حالةٍ بدائيَّةٍ إلى هذهِ الحالةِ، ولكِنْ مِنْ دُونِ هدفٍ مُحدَّدٍ لوجودِهِ. 

: اللجنة العلمية

يَشهدُ هذا الكلامُ على عَجزِ النَّظريَّةِ الدَّاروينيَّةِ فِي تَقديمِ تَفسيرٍ منطقيٍّ لوجودِ الإنسانِ ككائنٍ حيٍّ يمتلِكُ قدراتٍ عقليَّةً وأخلاقيَّةً وقيميَّةً، والكلامُ عنْ كونِ الحياةِ بلا هدفٍ المَقصودُ مِنهُ هوَ عدمُ الاِعترافِ بإرادةِ اللهِ الَّتِي أوجدَتْ كُلَّ شيءٍ ضِمنَ حكمةٍ محددَّةٍ، ممَّا يعنِي أنَّ الإلحادَ لا يَهتمُّ كثيرَاً بتقديمِ نظريَّةٍ مُنسجمَةٍ تَتفقُ مَعْ واقعِ الإنسانِ والحياةِ، وإنَّمَا هدفُهُ الأكبرُ هوَ نَفيُ وجودِ اللهِ حتَّى إنْ أدَّى ذلكَ إلى تبنِّي نظريَّةٍ مشوَّهةٍ وغيرِ مُتّسقةٍ منطقيَّاً، ولِذَا نَجدُ ريتشارد دوكنز يُحاوِلُ تَرميمَ الثَّغراتِ فِي النَّظريَّةِ الدَّاروينيَّةِ، وهُنَا سَوفَ أُجري حِوارَاً مُختصرَاً مَعْ دوكنز حَتَّى أبيِّنَ عدمَ الاِتّساقِ المَنطقيِّ فِي هذهِ النَّظريَّةِ، فمثلاً يتعرّضُ فِي كِتابِهِ (وهمُ الإلهِ) فِي الفصلِ السَّادسِ تحتَ عُنوانِ منشَأِ الأخلاقِ، للفَهمِ الخاطِئِ للأخلاقِ الدَّاروينيَّةِ(1)، يَقولُ: "تبدُو فكرةُ الاِنتخابِ الطَّبيعيِّ غيرَ مُلائمةٍ بالمرَّةِ لِشرحِ مِقداِر الخَيرِ الَّذِي نتملكُهُ أو حَتَّى شُعورِنَا عَنِ القيمِ الأخلاقيَّةِ كالأمانةِ والتَّعاطفِ والأسفِ. الاِنتخابُ الطبيعيُّ يَستطيعُ شرحَ الجُوعِ والخَوفِ والرَّغبَّةِ الجِنسيَّةِ وكلِّ مَا يُمكِنُ أنْ يُساهِمَ مُباشرَةً فِي بقائِنَا أوِ الحِفاظِ على جيناتِنَا. ولكنْ ماذَا عنِ الشَّفقةِ الَّتِي نشعرُ بِهَا عندَ رُؤيتِنَا ليتيمٍ يَبكِي أو أرملةٍ عجوزٍ قانطَةٍ تشكوُ الوَحدةَ؟ مَا الَّذِي يَدفعُنَا إلى إرسالِ هديَّةٍ مِنْ مَجهولٍ أو نقودٍ أو ملابسَ لضحيَّةِ تسونامِي فِي الطَّرفِ الآخرِ مِنَ العالمِ لَمْ نَرهُمْ قَطُّ وإحتمالُ أنْ يردُّوا الجَميلَ لنَا هُوَ أقلُّ مِنْ أنْ نُفكِّرَ بهِ. مِنْ أينَ يَأتِي هذَا السَّامِريُّ المُتأصِّلُ فينَا؟ أليسَ الخَيرُ مُتناقضَاً معَ نظريَّةِ الجِينِ الأنانيِّ؟"

إلى هذَا الحدِّ نتبنَّى مَا قالهُ ريتشارد بأنَّ هذهِ النَّظريَّةَ الطَّبيعيَّةَ لَا يُمكِنُ أنْ تَكونَ مؤسِّسَةً لكُلِّ عواملِ الخَيرِ فينَا كبشرٍ. إلَّا أنَّ ريتشارد يَستدرِكُ ذلكَ بقولِهِ: " لَا ... هذَا فهمٌ خاطئٌ للنَّظريَّةِ ومُحزِنٌ (والآنَ أصبحَ مُتوقَّعَاً دائمَاً)."

وهنَا لابُدَّ أنْ نتوقَّعَ مِنْ ريتشارد تَقديمَ تصوُّرٍ آخرَ للاِنتخابِ الطَّبيعيِّ يكونُ مُستوعِبَاً لكلِّ القيمِ الأخلاقيَّةِ الَّتِي يُؤمِنُ بهَا الإنسانُ، طالمَا إعتبرَ الفهمَ الَّذِي فهمنَاهُ فهمَاً خاطئَاً. والأمرُ الَّذِي يَجعلُ المهمَّةَ صعبَةً أمامهُ؛ هوَ كيفَ يُمكنُهُ تقديمُ هذَا التَّصوُّرِ معَ وجودِ جينٍ أنانيٍّ؟، وبسببِ هذهِ العقبةِ نجدُ ريتشارد عَمِلَ على التَّخلُّصِ مِنْ هذَا الجِينِ؛ وذلكَ بالتَّفريقِ بينَ الجينِ الأنانيِّ، والكائنِ أو الجِنسِ الأنانيِّ، وبذلِكَ أوهَمَ نفسَهُ بأنَّ الأنانيَّةَ صفةٌ للجِينِ وليسَتْ للكائنِ بِمَا هوَ كائنٌ، معَ أنَّ هذَا الكائنَ هوَ عبارَةٌ عنْ تجمُّعٍ مكثَّفٍ لهذهِ الجِيناتِ الأنانيَّةِ، يقولُ: "منَ الضَّروريِّ أنْ نُركِّزَ على الكلماتِ الصَّحيحةِ. وذلكَ بالتَّركيزِ على الجِينِ الأنانيِّ، لأنَّ ذلكَ المصطلحِ هوَ على النَّقيضِ معَ مصطلحِ الكائنِ الأنانيِّ مثلاً أو الجنسِ الأنانيِّ. دَعونِي أشرَحُ.."

معَ أنَّ هذهِ الإلتفافاتِ فِي حدِّ ذاتِهَا تَحملُ فِي طيّاتِهَا بُذورَ المُغالطةِ والقفزِ على العُقولِ، إلَّا أنَّنَا لابُدَّ مِنْ مُسايرتِهِ لكي نَعرفَ الفرقَ بينَ الجِينِ الأنانيِّ الَّذِي صَنعتْهُ الطَّبيعةُ، وبينَ الكائنِ الَّذِي صنعَتْهُ نَفسُ الطَّبيعةِ ومِنْ تِلكَ الجِيناتُ الأنانيَّةُ ذاتُهَا. يَقولُ: "دعونِي أشرحُ.. المَنطقُ الدَّاروينيُّ يفرضُ علينَا إستنتاجَ أنَّ وحداتَ الحياةِ فِي تدرُّجهَا الطَّبقيِّ والَّتِي تبقَى وتنتقِلُ مِنْ خِلالِ الاِنتخابِ الطَّبيعيِّ تميلُ لأنْ تكونَ أنانيَّةً. والوِحداتُ الَّتِي تستمرُّ ستستمرُّ على حسابِ الوِحداتِ المُنافسَةِ لهَا فِي نفسِ الدَّرجةِ فِي الطَّبقيَّةِ. وهذَا بالضَّبطِ مَا تَعنيهِ الأنانيَّةُ بهذَا الصَّددِ".

إلى هُنَا يُمكنُنَا أنْ نَفهمَ أنَّ هذَا المِقدارَ منَ الأنانيَّةِ تحتفظُ بهِ كُلُّ الكائناتِ الحيَّةِ، الأمرُ الَّذِي يَجعلُ الأنانيَّةَ نِظامَاً للحياةِ لجميعِ هذهِ الكائناتِ، فكيفَ بعدَ ذلكَ يتمكَّنُ ريتشارد مِنْ قلبِ هذهِ المُعادلةِ الطَّبيعيَّةِ لإستخراجِ منظومَةٍ أخلاقيَّةٍ.

يبدأُ ريتشارد بِشرحِ هذَا التَّحوُّلِ والاِنقلابِ المفاجِئِ بكلامٍ غَيرِ واضحٍ، إمَّا لِغموضِ الفكرَةِ، أو لِعدمِ واقعيَّتِهَا، أو لِسوءٍ فِي التَّرجمةِ، يقولُ: "السُّؤالُ هوَ، على أيِّ درجةٍ يكونُ فِعلُ هذهِ المُورِّثاتِ؟ كلُّ فكرةِ الجِينِ الأنانيِّ، ولنركِّزْ على الكلمةِ الأخيرةِ، هِيَ أنَّ وحداتِ الاِنتخابِ الطَّبيعيِّ (الوِحدةُ الَّتِي تهتمُّ بذاتِهَا) ليسَتِ الكائنَ الحيَّ الأنانيَّ وليسَتْ المَجموعَةَ الأنانيَّةَ أوِ الصِّنفَ الأنانيَّ بَلْ هيَ المُورِّثَةُ (الجِينُ) الأنانيُّ".

 وهكذَا يتملَّصُ ريتشارد مِنَ الجينِ الأنانيِّ بعدَ أنْ تحوَّلَ إلى كائنٍ، أو جِنسٍ، أو صِنفٍ، وأصبحَتْ مُهِمَّتَهُ هِيَ مُجرَّدَ توريثِ هذا الجِينِ. ومنَ الواضِحِ أنَّ هذا الكلامَ يحتوي عَلى إشكالٍ منطقيٍّ؛ وهوَ: كيفَ لا تكونُ الأنانيَّةُ ثابتةً كضرورةٍ طبيعيَّةٍ لكِلَا المرحلتينِ؟، وعليهِ يكونُ الاِنتخابُ الطَّبيعيُّ قائمَاً فِي مرحلةِ الوِحداتِ وفِي مرحلةِ الكائنِ الحيِّ بنفسِ المِقدارِ، وحينَهَا لَا يكونُ هناكَ ضرورةٌ للتَّفريقِ بينَ المَرحلتينِ رُغمَ وُجودِ فرقٍ بينَهُمَا وجعلَ الاِنتخابَ الطَّبيعيَّ خاصَّاً بالوحدةِ الَّتِي تهتمُّ بذاتِهَا، كمَا عبَّرَ بقولِهِ: "بأنَّ وحداتِ الانتخابِ الطَّبيعيِّ أيِ الوحدةُ الَّتِي تهتمُّ بذاتهَا هيَ ليسَتِ الكائنَ الحيَّ الأنانيَّ". وإذا سلَّمنَا بهذَا التَّفريقِ بينَ الجينِ والكائنِ الحيِّ وسلَّمنَا بأنَّ الإنتخابَ الطَّبيعيَّ هوَ فِي مرحلةِ الجِيناتِ فقطْ، فعلى أيِّ أساسٍ بعدَ ذلكَ يُستخدَمُ قانونُ الاِنتخابِ الطَّبيعيِّ فِي مرحلةِ الكائنِ الحيِّ ومرحلةِ الإنسانِ والمُجتمعِ؟ فإذَنْ إنتهَى دورُ هذَا الاِنتخابِ فِي مرحلةِ الجِيناتِ فَلا مبرِّرَ لوجودِهِ مرَّةً أُخرَى، وإنْ كانَ قَانونَاً فعَّالاً فِي كلِّ المراحلِ فلا مبرِّرَ لهذَا التَّفريقِ، فالأنانيَّةُ هيَ الحاكمةُ طالمَا أنَّ الإنتخابَ يقومُ على أساسِهَا. 

ثمَّ يُقدِّمُ شرحَاً لهذا الفَصلِ بينَ المَرحلتينِ بقولهِ: "إنَّ الجينَ بهذا الصَّددِ هوَ مَنْ يَبقَى للأجيالِ أو لا يَبقَى. وعلى عَكسِ الجِيناتِ (والمِيمَاتِ ايضَاً) فإنَّ الكائنَ الحيَّ أو المَجموعَةَ أو الصِّنفَ ليسُوا بالوِحداتِ الَّتِي يُمكنُ أنْ تَخدمَنَا بهذَا المَعنَى لأنَّهُمْ ببساطَةٍ لَا يَصنعُونَ نُسَخَاً مُتطابقَةً لأنْفُسِهِمْ ولا يَتنافسونَ فِي موضوعِ النَّسخِ الذَّاتيِّ. وهذَا بالضَّبطِ مَا تفعلُهُ المَورِّثاتُ وهَذا هوَ الأصلُ المنطقيُّ الَّذِي يُبرِّرُ اِختيارَ المورِّثَةِ فقَطْ لتكونَ الوِحدةَ (الأنانيَّةَ) بالمعنَى الدَّاروينيِّ لكلمةِ الأنانيَّةِ".

يبتنِي هذا الكلامُ على قفزةٍ غيرِ منطقيَّةٍ، أو مُغالطةٍ تتجاوزُ الصَّرامَةَ العقليَّةَ، فوجودُ رابطٍ ضروريٍّ بينَ مرحلةٍ وأخرَى يُعدُّ شرطاً حتميَّاً لأيِّ تحوُّلٍ، وبخاصَّةٍ التَّحوُّلاتُ الَّتِي يحدُثُ معهَا تغيُّرٌ فِي طبيعةِ المَسارِ للطبيعةِ، فالقانونُ الطبيعيُّ لا يكونُ حاكمَاً فِي مرحلةٍ دونَ الأخرَى، وعِندمَا يُهمَلُ أو يُهمَّشُ فِي أيِّ مسارٍ تحكمُهُ الطَّبيعةُ يَكونُ ذلكَ تَخلّيّاً عنِ القَانونِ أو قفزةً عَلى الضَّرورةِ المَنطقيَّةِ، وقَدْ اِعتادَتْ العقليَّةُ الدَّاروينيَّةُ أنْ تُرتِّبَ لنَا المراحلَ مِنْ دونِ أنْ تَربِطَ لنَا ذلكَ التَّحوُّلَ بأسبابهِ المَنطقيَّةِ، فمثلاً تطوُّرُ الإنسانِ مِنْ خليَّةٍ واحدةٍ ومرورُهُ بمراحلَ لا تُحصى حتَّى وصولِهِ إلى مرحلتِهِ الحاليَّةِ، كُلُّ ذلكَ يَتِمُّ مِنْ غيرِ تقديمِ الرَّابطِ المنطقيِّ بينَ كُلِّ مرحلةٍ ومرحلةٍ مِنْ هذا التَّطوُّرِ، فلَوْ كانَ القانونُ يمتلكُ مِنَ الصَّرامةِ العقليَّةِ لتحوَّلَتِ القرودُ الَّتِي نراهَا اليومَ إلى بشرٍ، طالمَا تشترِكُ معَ البشرِ فِي أبٍ واحدٍ مباشرٍ لكليهمَا، والقانونُ الحاكمُ على مَسيرةِ التَّطوُّرِ لا يُمكِنُ أنْ يأتِي يومٌ يتوقَّفُ فيهِ عنِ العملِ.

ويبدُو أنَّ مُتابعةَ التَّطوُّرِ الدَّاروينيِّ فِي كُلِّ مَراحلِهِ يَكشفُ لنَا عَنْ فراغاتٍ لا تُحصَى، مِمَّا يُؤكِّدُ على أنَّ هذهِ النَّظريَّةَ لا يُمكِنُ أنْ تُمثِّلَ الحِضنَ الدَّافِئَ الَّذِي يَهربُ إليهِ الإلحادُ مِنْ مُلاحقةِ الأسئلةِ الوجوديَّةِ الكُبرَى الَّتِي تَجعلُهُ يَقفُ فِي العراءِ وأمامَ المَلأِ مِنْ دونِ ثيابٍ.

______________

  (1) ننقلُ كلّ المقاطع في هذا العنوان من كتاب وهم الإله، مصدر سابق، من ص 215إلي 220