هَلِ العُلُومُ الطّبِيْعِيَّةُ لَهَا عَلَاقَةٌ بِالإِيْمَانِ وَالإِلْحَادِ؟

سُؤَالٌ: نَحْنُ نَجِدُ عُلَمَاءً كِبَارَاً فِي الفِيْزِيَاءِ وَالكِيْمِيَاءِ وَفِي مُخْتَلَفِ الإِخْتِصَاصَاتِ وَهُمْ مُلْحِدُوْنَ، فَألْبِرت أَيْنِشْتَايْن مَثَلَاً يُصَنَّفُ عَلَى أَنَّهُ مُلْحِدٌ، وَكَذَلِكَ ستِيْفِن هُوْكِينج الفِيْزِيَائِيُّ المُعَاصِرُ، أَلَيْسَ هَذَا دَلِيْلَاً عَلَى أَنَّ الإِلْحَادَ لَيْسَ ضِدَ العِلْمِ فَحَسْبُ، بَلِ العِلْمُ يُؤَدِّي إلَى الإِلْحَادِ؟

: اللجنة العلمية

وحَتَّى تَكُوْنَ الإِجَابَةُ وَاضِحَةً لَابُدَّ مِنْ تَقْدِيْمِ مَجْمُوْعَةٍ مِنَ النِّقَاطِ الضَّرُوْرِيَّةِ.

 أَوَّلَاً: العِلْمُ هُوَ بَحْثٌ فِي المَخْلُوْقِ بِمَا هُوَ حَقِيْقَةٌ مَادِّيَّةٌ لَهَا وُجُوْدٌ فِي الخَارِجِ، وَلِذَلِكَ تَعْتَمِدُ العُلُوْمُ الطَّبِيْعِيَّةُ عَلَى مَنْهَجِ التَّجْرِبَةِ وَالفَحْصِ المُخْتَبَرِيِّ، لِكَوْنِهَا تَهْتَمُّ بِدِرَاسَةِ الجَانِبِ المَادِّيِّ مِنَ الأَشْيَاءِ، أَمَّا الإِنْسَانُ فَتَتِمُّ دِرَاسَتُهُ مِنْ حَيْثِيَّتَينِ، الأُوْلَى: الجَانِبُ المَادِّيُّ مِنْهُ أَو الجَسَدِيُّ، وَالثَّانِي: الجَانِبُ الرُوْحِيّ أَو المَعْنَوِيِّ وَالأَخْلَاقِيِّ، فَتَهْتَمُّ العُلُومُ الطَّبِيْعِيَّةُ بِالجَانِبِ المَادِّيِّ مِنْهُ كَمَا هُوَ الحَالُ فِي الدِّرَاسَاتِ الطِّبِّيَّةِ، أَمَّا الجَانِبُ الآَخَرُ فَتَهْتَمُّ بِهِ العُلُوْمُ الإِنْسَانِيَّةُ وَهِيَ عُلُوْمٌ عَقْلِيَّةٌ تَقُوْمُ عَلَى التَّحْلِيْلِ وَالإِسْتِنْتَاجِ.

ثَانِيْاً: بَعِيْدَاً عَنِ الإِسْهَامَاتِ المُقَدَّرَةِ الَّتِي قَدَّمَتْهَا العُلُوْمُ الطَّبِيْعِيَّةُ، إِلَّا أَنَّهَا لَا تَقَعُ فِي نَفْسِ الخَطِّ الَّذِي تَسِيْرُ فِيْهِ الضَّرُوْرَةُ الدِّيْنِيَّةُ، فَالبَحْثُ عَنِ القَوَانِيْنِ الطَّبِيْعِيَّةِ وَرَبْطُ الظَّوَاهِرِ بِأَسْبَابِهَا المُبَاشِرَةِ لَا يُغْنِي الإِنْسَانَ عَنِ الإِرْتِبَاطِ بِالغَيْبِ وَالبَحْثِ عَنِ المُطْلَقِ، فَتَفَاعُلُ الإِنْسَانِ مَعْ عَالَمِ المَادَّةِ وَتَسْخِيْرِهَا ضِمْنَ شُرُوْطِهَا الطَّبِيْعِيَّةِ يُعَدُّ خُطْوَةً ضَرُوْرِيَّةً لِلتَّكَامُلِ المَادِّيِّ لِلْإِنْسَانِ، أَمَّا تَكَامُلُهُ الرُّوْحِيُّ وَعُرُوْجُهُ إِلَى المَعَانِي السَّامِيَةِ وَالقِيَمِ الكُلِّيَّةِ لَا يَكُوْنُ إِلَّا بِانْفِتَاحِهِ عَلَى الغَيْبِ، فَلَا التَّجْرِبَةُ المَادِّيَّةُ تُحَقِّقُ لِلْإِنْسَانِ مَا يَصْبُو لَهُ رُوْحِيَّاً، وَلَا الغَيْبُ وَالتَّأَمُّلُ يُحَقِّقُ لَهُ مَا يَحْتَاجُهُ مَادِّيَّاً، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الإِنْسَانَ لَا يَسْتَغْنِي بِجَانِبٍ دُوْنَ الجَانِبِ الآَخَرِ. 

ثَالِثَاً: إِنَّ الإِنْسَانَ وَبِهَذِهِ الشَّخْصِيَّةِ المُرَكَّبَةِ مِنْ رُوْحٍ وَمَادَّةٍ يُمْكِنُهُ السَّيْرُ فِي إتِّجَاهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الوَقْتِ ذَاتِهِ، فَبَعْضُ الأُمُوْرِ يُنْظَرُ لَهَا بِعَقْلٍ تَجْرِيْبِيٍّ، وَالبَعْضُ الآَخَرُ بِعَقْلٍ تَأَمُّلِيٍّ، وَيَتَفَاعَلُ مَعَ بَعْضِ الحَقَائِقِ حِسِّيَّاً وَيَتَفَاعَلُ مَعَ البَعْضِ الآَخَرِ عَاطِفِيَّاً وَوِجْدَانِيَّاً، وَهَكَذَا فَالإِنْسَانُ لَيْسَ ذَاتَاً بَسِيْطَةً تَنْظُرُ لِلْأَشْيَاءِ مِنْ زَاوِيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمِنْ هُنَا نَفْهَمُ مَا أَحْدَثَهُ الإِنْسَانُ مِنْ تَطَوُّرٍ مَادِّيٍّ، وَفِي نَفْسِ الوَقْتِ نَتَفَهَّمُ مَا أَحْدَثَهُ مِن تَكَامُلٍ عِرْفَانِيٍّ وَتَأَمُّلٍ رُوْحِيٍّ. يَقُوْلُ الدُكْتُورُ مَاكس نُوردُوه عَنِ الشُّعُورِ الدِّيْنِيِّ: "هَذَا الإِحْسَاسُ أَصِيْلٌ يَجِدُهُ الإِنْسَانُ غَيْرُ المُتَمَدِّنِ كَمَا يَجِدُهُ أَعْلَى النَّاسِ تَفْكِيْرَاً وَأَعْظَمُهُمْ حَدْسَاً، وَسَتَبْقَى الدِّيَانَاتُ مَا بَقِيَتْ الإِنْسَانِيَّةُ، وَسَتَتَطَوَّرُ بِتَطَوُّرِهَا، وَسَتَتَجَاْوَبُ دَائِمَاً مَعَ دَرَجَةِ الثَّقَافَةِ العَقْلِيَّةِ الَّتِي تَبْلُغُهَا الجَمَاعَةُ"(1).

رَابِعَاً: المَعَارِفُ الَّتِي تَعْتَمِدُ عَلَى المَفَاهِيْمِ الكُلِّيَّةِ، وَالعَنَاوِيْنِ الإنْتِزَاعِيَّةِ، وَالتَّأَمُّلَاتِ التَّحْلِيْلِيَّةِ، هِيَ مِنَ المَعَارِفِ الَّتِي يَكْتَسِبُهَا العَقْلُ عِنْدَمَا يُحَلِّقُ فِي آَفَاقِ الحَيَاةِ الوَاسِعَةِ، بِمَا لَهَا مِنْ تَارِيْخٍ عَرِيْقٍ، وَحَضَارَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ، وَاجْتِمَاعٍ إِنْسَانِيٍّ فَاعِلٍ وَمُتَفَاعِلٍ، فَحَصْرُ العَقْلِ وَحَبْسُهُ بَيْنَ جُدْرَانِ المُخْتَبَرِ جَرِيْمَةٌ فِيْ حَقِّ العَقْلِ وَالعِلْمِ مَعَاً، وَفِي ظَنِّي أَنَّ التَّفْكِيْرَ الطُّفُوْلِيَّ الَّذِيْ كَانَ يَطْمَحُ فِي جَعْلِ العُلُوْمِ الإِنْسَانِيَّةِ شَبِيْهَةً بِالعُلُوْمِ التَّجْرِيْبِيَّةِ هُوَ المَسْؤُوْلُ عَنْ هَذَا الخَلَلِ، وَقَدْ بَدَأَ هَذَا النَّمَطُ مِنَ التَّفْكِيْرِ الحَالِمِ مَعْ عَصْرِ النَّهْضَةِ، وَبِنُضُوْجِ العُلُوْمِ وَتَقَدُّمِ المَعْرِفَةِ بَاتَ هَذَا التَّفْكِيْرُ مَرْحَلَةً سَاذَجَةً لَا يَعْتَدُّ بِهَا أَحَدٌ، وَلِذَلِكَ إنْتَهَى عَصْرُ الفَلْسَفَةِ الوَضْعِيَّةِ عِنْدَمَا أَعْلَنَ مُنَظِّرُهَا الأَكْبَرُ (سِير آلفْرِيد آير)(2)  "فِيْ خَمْسِيْنِيَّاتِ القَرْنِ العِشْرِيْنِ أَنَّ هَذِهِ الفَلْسَفَةَ مَلْأَى بِالتَّنَاقُضِ، بِالرَّغْمِ مِن أَنَّهُ قَضَى السَّنَوَاتِ الطِّوَالَ فِي مُعَالَجَةِ أَخْطَائِهَا. لَقَدْ تَنَبَّهَ آير إِلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُنَا تَطْبِيْقُ قَوَاعِدِ البَحْثِ فِي العُلُوْمِ التَّجْرِيْبِيَّةِ الَّتِي تَعْتَمِدُ عَلَى الحَوَاسِّ (كَالكِيْمِيَاءِ وَالفِيْزِيَاءِ) عَلَى العُلُوْمِ الإِنْسَانِيَّةِ (كَالفَلْسَفَةِ وَالمَنْطِقِ وَالأَخْلَاقِ). كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ دِرَاسَةُ المَفَاهِيْمِ الدِّيْنِيَّةِ بِمَقَايِيْسِ المَفَاهِيْمِ العِلْمِيَّةِ؛ فَلَا يَنْبَغِيْ - مَثَلَاً -  مُحَاوَلَةُ فَهْمِ مَقُوْلَةِ: (إِنَّ اللهَ مَوْجُوْدٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ – كُلِّيُّ الوُجُوْدِ-) بِمَفَاهِيْمِ المَكَانِ فِي فِيْزِيَاءِ نيُوتُنَ أَو فِيْزِيَاءِ أَيْنِشْتَايْنَ. بِذَلِكَ قَامَ آير بِإِعْلَانِ مَوْتِ الفَلْسَفَةِ الوَضْعِيَّةِ المَنْطِقِيَّةِ وَدَفْنِهَا"(3). 

وَإِذَا اتَّضَحَتِ النِّقَاطُ السَّابِقَةُ يَتَّضِحُ الخَلَلُ الَّذَي وَقَعَ فِيْهِ صَاحِبُ الإِشْكَالِ حَيْثُ جَعَلَ العِلْمَ الطَّبِيْعِيَّ مَسْؤُوْلَاً عَنِ الجَانِبِ العَقَدِيِّ فِي الإِنْسَانِ وَهَذَا خَلْطٌ وَاضِحٌ بَيْنَ الحُقُوْلِ المَعْرِفِيَّةِ، فَآيْنِشْتَايْنُ مَثَلَاً لَمْ يُصْبِحْ مُلْحِدَاً لِأَنَّ الفِيْزِيَاءَ لَهَا عَلَاقَةٌ فِي الإِثْبَاتِ أَوِ النَّفْي فِيْمَا يَتَعَلَّقُ بِوُجُوْدِ اللهِ، وَإِنَّمَا أَصْبَحَ مُلْحِدَاً لِكَوْنِهِ لَا يَهْتَمُّ بِمَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ حُدُوْدِ المَادَّةِ وَهَذِهِ رُؤْيَةٌ فَلْسَفِيَّةٌ وَلَيْسَتْ عِلْمِيَّةً، فَعِلْمُ الفِيْزِيَاءِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُثْبِتَ أَو يَنْفِي حَقِيْقَةً لَا يُمْكِنُ الإِحَاطَةُ بِهَا عَبْرَ قَوَانِيْنِهِ الفِيْزِيَائِيَّةِ، فَإِذَا تَجَاوَزَ آَيْنِشْتَاَيْنُ ذَلِكَ وَحَكَمَ بِوُجُوْدِ اللهِ أَوْ عَدَمِهِ يَكُوْنُ قَدْ تَجَاوَزَ الفِيْزِيَاءَ إِلَى الفَلْسَفَةِ، وَهُنَا يَحِقُّ لَنَا أَنْ نُخَالِفَهُ وَنَعْتَرِضَ عَلَيْهِ عَقْلِيَّاً وَفَلْسَفِيَّاً وَلَا يُفِيْدُهُ كَوُنُهُ عَالِمَاً فِيْزِيَائِيَّاً؛ لِأَنَّنَا لَا نُنَاقِشُهُ فِي الفِيْزِيَاءِ.

 وَالخُلَاصَةُ: إِنَّ العُلُوْمَ أُمُوْرٌ مُحَاْيِدَةٌ لَا تَتَّصِفُ بالإِيْمَانِ وَلَا بِالإِلْحَادِ، وَذَلِكَ لِكَوْنِ العِلْمِ بَحْثاً فِي المَادَّةِ بِمَا هِيَ مَادَّةٌ سَوَاْءٌ كَانَ هَذَا البَاحِثُ مُؤْمِنَاً أَوْ مُلْحِدَاً، وَالخِلَافُ بَيْنَ الإِيْمَانِ وَالإِلْحَادِ يُحْسَمُ فِي مَيَادِيْنِ البُحُوْثِ العَقْلِيَّةِ وَالفَلْسَفِيَّةِ وَلَيْسَ فِي المُخْتَبَرَاتِ وَالمَعَامِلِ التَّطْبِيْقِيَّةِ.

_____________________

 (1) الدّكتور محمد عبدِ اللهِ دراز، الدّينُ بحوثٌ ممهدةٌ لدراسةِ تاريخِ الأديان، دار القلم، 1952 ص 87 

 (2) ألفرد جول آير (بالإنجليزية: Alfred Jules Ayer) هوَ فيسلوفٌ بريطانيٌّ ولدَ في 29 أكتوبر 1910وتوفيَ في 27 يونيو 1989 

 (3) دكتور عمرو شريف، خرافةُ الالحادِ، مكتبةُ الشروقِ الدولية، مصر الجديدة، ط الأولى 2014 ص 30