هَلْ حَالَةُ النِّفَاقِ تَعْنِي أَنَّ التَّدَيُّنَ مُجَرَّدُ مَظْهَرٍ إجْتِمَاعِيّ؟ 

يَقُوْلُ المُلْحِدُوْنَ: عِنْدَمَا نَفْحَصُ بِعُمْقٍ إِيْمَانَ العُلَمَاءِ الكِبَارِ فِي أَيَّامِنَا، وَالَّذِينَ يَبْدُوْنَ كَمُتَدَيِّنِيْنَ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ، نَرَى بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ، وَهَذَا بِالتَّأْكِيْدِ صَحِيْحٌ فِي حَالَةِ أَيْنِشْتَايْن وَهُوْكِينج عَالِمُ الفَضَاءِ المُعَاصِرِ وَرَئِيْسُ الجَمْعِيَّةِ المَلَكِيَّةِ الحَالِيِّ مَارتِن رِيس قَالَ لِي بِأَنَّهُ يَذْهَبُ لِلْكَنِيْسَةِ كَإِنْجِيْلِيٍّ كَافِرٍ وَفَقَطْ بِسَبَبِ مَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ تَسْمِيَةَ الوَلَاءِ القَبَلِيِّ، وَهُوَ لَا يُؤْمِنُ بِالمُعْتَقَدَاتِ، وَيَسْتَفِزُّهُ الإِحْسَاسُ الشَّاعِرِيُّ تِجَاهَ الكَوْنِ كَكُلِّ الطَّبِيْعِيِّيْنَ الآَخَرِيْنَ، فَهَؤُلَاءِ العُلَمَاءُ يَخْشُوْنَ مِنِ اِتِّهَامِ النَّاسِ لَهُمْ بِالكُفْرِ فَلِذَلِكَ يَتَظَاهَرُوْنَ بِالتَّدَيُّنِ وَيَذْهَبُوْنَ إِلَى الكَنَائِسِ وَدُوْرِ العِبَادَةِ، أَلَيْسَ مِنَ المُمْكِنِ أَنْ يَكُوْنَ كُلُّ مَنْ يَدَّعِي الإِيْمَانَ هُوَ أَيْضَاً كَذَلِكَ؟ 

: اللجنة العلمية

مَعْ أَنَّ هَذَا الكَلَامَ لَا يُمَثِّلُ قِيْمَةً عِلْمِيَّةً وَلَا يُعَدُّ إِشْكَالَاً عَلَى الدِّيْنِ وَالتَّدَيُّنِ، إِلَّا أَنَّنَا مُضُطَرُّونَ لِلْقِيَامِ بِالرَّدِ عَلَى هَذِهِ التَّخَارِيْفِ حَتَّى لَا يَتَأَثَّرَ بِهَا ضِعَافُ المُؤْمِنِيْنَ، وَيَبْدُو أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الكَلَامِ كَانَ مِنَ الطَّبَقَةِ المُتَوَاضِعَةِ فِكْرِيَّاً فَتَأَثَّرَ بِهَذِهِ الأَقَاوِيْلِ مِمَّا جَعَلَهُ يُعِيْدُ تَسْوِيْقَهَا مِنْ جَدِيْدٍ، فَمُسْتَوَى الطَّرْحِ الَّذِي يَتَبَنَّاهُ الإِلْحَادُ فِي العَالَمِ العَرَبِيِّ وَالإِسْلَامِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَهْدِفُ المَنَاطِقَ الرَّخْوَةَ وَالطَّبَقَاتِ غَيرِ المُحَصَّنَةِ، وَمِنْ هُنَا نَدْعُو الإِلْحَادَ العَرَبِيَّ وَالإِسْلَامِيَّ إِلَى أَنْ يَرْتَقِيَ بِمُسْتَوَى طَرْحِهِ مَعْ أَنَّ العَدَمِيَّةَ وَالرُّؤْيَةَ الظَّلَامِيَّةَ لَا تَسْمَحُ لَهُ بِذَلِكَ.

مَلحوظاتٌ تَحْلِيْلِيَّةٌ عَلَى النَّصِ: 

• يَسْتَخْدِمُ المُلْحِدُونَ عِبَارَاتٍ خَادِعَةً تُوْحِي بِالمَوْضُوْعِيَّةِ وَالدِّقَّةِ العِلْمِيَّةِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: (عِنْدَمَا نَفْحَصُ بِعُمْقٍ إِيْمَانَ العُلَمَاءِ الكِبَارِ فِي أَيَّامِنَا). فَعِبَارَةُ (نَفْحَصُ بِعُمْقٍ) عِبَارَةٌ مَاكِرَةٌ تَجْعَلُ القَارِئَ أَو المُسْتَمِعَ يَحُسُّ أَنَّهُ أَمَامَ بَحْثٍ عِلْمِيٍّ اسْتَغْرَقَ جُهْدَاً وَوَقْتَاً كَبِيْرَيْنِ، فِي حِيْنِ أَنَّ الأَمْرَ الَّذِي يُرِيْدُ بَيَانَهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى فَحْصٍ أَوْ عُمْقٍ، فَعِنْدَمَا يَقُوْلُ (نَفْحَصُ بِعُمْقٍ) نَتَوَقَّعُ أَنَّهُ سَيَقُوْمُ بِكَشْفِ مَا لَمْ يَتَمَكَّنْ غَيْرُهُ مِنْ كَشْفِهِ، وَلَكِنَّ المُفَاجَأَةَ تَصْدِمُنَا عِنْدَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (نَرَى بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُتَدَيِّنِيْنَ) أَيْ أَنَّ العُلَمَاءَ الكِبَارَ الَّذِيْنَ يَظْهَرُ مِنْهُمُ التَّدَيُّنُ بَعْدَ الفَحْصِ العَمِيْقِ نَخْلُصُ إِلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ مُتَدَيِّنِيْنَ عَلَى الحَقِيْقَةِ، وَقَدْ تَحْصُلُ عَلَى هَذِهِ المَعْلُوْمَةِ مِنْ كَلِمَاتِهِمُ المُبَاشِرَةِ الَّتِي تُصَرِّحُ بِذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ فِي الأَمْرِ فَحْصٌ وَلَا دِقَّةٌ، فَقَوْلُهُمْ الَّذِي نَقَلَهُ هُوَ: (قَالَ لِي بِأَنَّهُ يَذْهَبُ لِلْكَنِيْسَةِ كَإِنْجِيْلِيٍّ كَافِرٍ) بِالتَّالِي قَدْ صَرَّحَ بِنَفْسِهِ عَنْ هَذَا الأَمْرِ وَلَمْ يَكْشِفْهُ هَذَا العَبْقَرِيُّ نَتِيْجَةَ دِقَّةٍ وَفَحْصٍ كَمَا إدَّعَى. 

• حَشْدُ أَسْمَاءِ العُلَمَاءِ الكِبَارِ أَيْضَاً مِنَ الوَسَائِلِ الَّتِي يَسْتَخْدِمُهَا المُلْحِدُوْنَ، وَالقَصْدُ مِنْهَا إِضْفَاءَ طَابِعِ الجِدِيَّةِ فِي كَلَامِهِم، وَإِدْخَالُ الرَّهْبَةِ فِي نَفْسِ المُتَلَقِّي، فِي حِيْنِ أَنَّ الفِكْرَةَ الَّتِي يَسْعَى لِلْوُصُوْلِ إِلَيْهَا قَدْ تَنْطَبِقُ عَلَى أَيِّ إِنْسَانٍ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمَاً أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ، فَحَالَةُ النِّفَاقِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا صَاحِبُ النَّصِّ، حَالَةٌ مُعْتَرَفٌ بِهَا دَاخِلَ الدَّائِرَةِ الدِّيْنِيَّةِ، أَيْ أنَّ هُنَاكَ مَنْ يُظْهِرُ تَدَيُّنَهُ خَوْفَاً مِنَ المُجْتَمَعِ مَعْ أَنَّهُ فِي قَرَارَةِ نَفْسِهِ كَافِرٌ، وَعَلَيْهِ فَالأَمْرُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى عُلَمَاءَ كِبَارٍ وَلَا إِلَى أَسْمَاءَ رَنَّانَةٍ، وَإِنَّمَا يَكْفِي القَوْلُ بِأَنَّ بَعْضَ المُتَدَيِّنِيْنَ يَلْتَزِمُوْنَ بِالدِّيْنِ خَوْفَاً عَلَى مَرَاكِزِهِمْ الإجْتِمَاعِيَّةِ وَلَا يُؤْمِنُوْنَ بِاللهِ عَلَى وَجْهِ الحَقِيْقَةِ، وَهَذَا الأَمْرُ لَيْسَ خَاصَاً بِالأَدْيَانِ فَحَتَّى الأَعْرَافُ وَالعَادَاتُ الاجْتِمَاعِيَّةُ قَدْ يَلْتَزِمُ بِهَا البَعْضُ خَوْفَاً مِنَ المُجْتَمَعِ مَعْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُوْنَ بِهَا.

• يُمَثِّلُ عُلَمَاءُ الطَّبِيْعَةِ المَرْجِعِيَّةَ العِلْمِيَّةَ فِيْمَا لَهُ عَلَاقَةٌ بِاخْتِصَاصَاتِهِمْ، أَمَّا العُلُوْمُ العَقْلِيَّةُ وَالمَعْرِفَةُ الإِنْسَانِيَّةُ الَّتِي تَعْتَمِدُ عَلَى التَّفْكِيْرِ الإسْتِنْبَاطِيِّ، وَالإسْتِدْلَالِ البُرْهَانِيِّ، فَحَالُهُمْ فِيْهَا حَالُ غَيْرِهِمْ لَا يَمْتَلِكُوْنَ أَيَّ إمْتِيَازٍ، وَمِنَ المَعْلُوْمِ أَنَّ طَبِيْعَةَ النِّقَاشِ بَيْنَ الإِلْحَادِ وَالإِيْمَانِ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالطَّبِيْعِيَّاتِ وَإِنَّمَا تَتَحَرَّكُ فِي دَائِرَةِ البَرَاهِيْنِ العَقْلِيَّةِ، وَمِنْ هُنَا لَا يَجُوْزُ حَشْرُ عُلَمَاءِ الطَّبِيْعَةِ فِي هَذِهِ الدَّائِرَةِ. 

• يَقُوْلُ فِي خِتَامِ كَلَامِهِ: (أَلَيْسَ مِنَ المُمْكِنِ أَنْ يَكُوْنَ كُلُّ مَنْ يَدَّعِي الإِيْمَانَ هُوَ أَيْضَاً كَذَلِكَ؟). يُؤَكِدُّ هَذَا النَّصُّ بِمَا لَا يَدَعُ مَجَالَاً لِلشَّكِ بِأنَّ صَاحِبَهُ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِقَوَاعِدِ الإسْتِدْلَالِ العَقْلِيِّ، فَحَالَةُ التَّعْمِيْمِ الَّتِي تَنْطَلِقُ مِنْ شَوَاهِدَ جُزْئِيَّةٍ تَكْشِفُ عَنْ عَقْلِيَّةٍ مُتَهَالِكَةٍ فِكْرِيَّاً، فَالَّذِي يَحْتَرِمُ عَقْلَهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَمِّمَ النَّتَائِجَ إعْتِمَادَاً عَلَى عَيِّنَاتٍ مَحْدُوْدَةٍ، فَحَتَّى لَو سَلَّمْنَا بِوُجُوْدِ حَالَاتِ نِفَاقٍ عِنْدَ بَعْضِ العُلَمَاءِ فَهَذَا لَا يَدُلُّ حَتْمَاً وَيَقِيْنَاً عَلَى أَنَّهُ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ تَسْرِي عَلَى الجَمِيْعِ، فَمِنَ المَعْلُوْمِ أَنَّ الإسْتِقْرَاءَ النَّاقِصَ لَا يُفِيْدُ إِلَّا ظَنَّاً وَإِنَّمَا الإسْتِقْرَاءُ الكَامِلُ هُوَ الَّذِي يُفِيْدُ العِلْمَ.