هَلِ الأَمْرُ البَدِيهِيُّ لَا يَكُونُ بَدِيهِيًّا لِاخْتِلَافِ الثَّقَافَاتِ؟

إِنْ كَانَتْ فِكْرَةُ اللهِ فِكْرَةً بَدِيهِيَّةً وَاضِحَةً عِنْدَ البَعْضِ فَهِيَ فِكْرَةٌ شَدِيدَةُ الغُمُوضِ عِنْدَ البَعْضِ الآخَرِ - مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ نَفْيٌ أَوْ إِثْبَاتٌ لِوُجُودِ اللهِ - وَالأَمْرُ مَرْهُونٌ بِثَقَافَةِ هَذَا البَعْضِ أَوْ ذَاكَ وَمُسْتَوَاهُ العَقْلِيِّ وَالعِلْمِيِّ وَنُمُوِّهِ النَّفْسِيِّ.

: اللجنة العلمية

     نَفْيُ البَدَاهَةِ اسْتِنَادًا عَلَى اخْتِلَافِ الثَّقَافَاتِ فِيهِ مُغَالَطَةٌ وَاضِحَةٌ، فَالأَمْرُ البَدِيهِيُّ فِي نَفْسِهِ يَظَلُّ بَدِيهِيًّا حَتَّى وَإِنْ أَنْكَرَهُ البَعْضُ أَوْ تَغَافَلَ عَنْهُ، بِالتَّالِي المِقْيَاسُ فِي البَدَاهَةِ لَيْسَ هُوَ اتِّفَاقَ النَّاسِ عَلَيْهِ فَحَسْبٌ، فَقَدْ يَتَّفِقُ النَّاسُ عَلَى قَضِيَّةٍ عِلْمِيَّةٍ مُرَكَّبَةٍ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بَدِيهِيَّةً فِي نَفْسِهَا، وَفِي المُقَابِلِ قَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي الأَمْرِ البَدِيهِيِّ مَعَ كَوْنِهِ بَدِيهِيًّا، فَمَثَلًا قَدْ تَبَنَّتْ بَعْضُ التَّوَجُّهَاتِ الفَلْسَفِيَّةِ مَوْقِفًا مُشَكِّكًا فِي وُجُودِ العَقْلِ عِنْدَ الإِنْسَانِ، بَلْ جَنَحَتْ بَعْضُ الفَلْسَفَاتِ إِلَى التَّشْكِيكِ فِي أَصْلِ الوُجُودِ وَالمَوْجُودِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَوْضَحِ البَدِيهِيَّاتِ، وَهَكَذَا فَقَدْ تَجِدُ مَنْ يُجَادِلُكَ فِيمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ وَوَاضِحٌ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَعْنِي أَنَّهُ أَصْبَحَ غَيْرَ بَدِيهِيٍّ، فَمَثَلًا اجْتِمَاعُ المُتَنَاقِضَيْنِ مَحَالٌ وَهُوَ مِنَ البَدِيهِيَّاتِ، وَمَعَ ذَلِكَ تَجِدُ فَلْسَفَاتٍ قَامَتْ عَلَى اجْتِمَاعِ المُتَنَاقِضَيْنِ مِثْلِ المَارِكِسِيَّةِ. وَعَلَيْهِ فَإِنَّ البَدِيهِيَّ هُوَ الأَمْرُ الَّذِي إِذَا الْتَفَتَ إِلَيْهِ الإِنْسَانُ الطَّبِيعِيُّ أَدْرَكَهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَقْبَلَهُ وَإِمَّا أَنْ يَرْفُضَهُ بِحَسَبِ مُيُولِهِ وَاتِّجَاهَاتِهِ، فَلَيْسَ كَوْنُ الشَّيْءِ حَقًّا أَوْ بَدِيهِيًّا كَافِيًا أَنْ يَكُونَ مُلْزِمًا لِلجَمِيعِ، وَذَلِكَ لِوُجُودِ المَصَالِحِ وَالأَهْوَاءِ وَالمُيُولِ الذَّاتِيَّةِ الَّتِي تَتَحَكَّمُ فِي قَنَاعَاتِهِ.

     وَمَعْرِفَةُ اللهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، قَالَ تَعَالَى: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى..)1. فَهَذِهِ الآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الشَّكَّ وَالإِرْتِيَابَ فِي وُجُودِهِ سُبْحَانَهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ وَلَا يَنْبَغِي لِعَاقِلِ ارْتِكَابُهُ; وَذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ صَبَغَ الإِنْسَانَ بِصِبْغَتِهِ وَفَطَرَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَعَرَّفَ نَفْسَهُ لِعِبَادِهِ، فَصَارُوا عَارِفِين بِهِ عِرْفَانًا بَسِيطًا، لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ، فَلَا يَسْتَغْنُونَ عَنْ تَذْكِرَةِ المُذَكِّرِينَ، وَتَنْبِيهِ العَارِفِينَ، فَلَيْسَ اللهُ أَمْرًا مَشْكُوكًا يَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِهِ إِلَى البَرْهَنَةِ وَالإِسْتِدْلَالِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)2 فَالآيَةُ الكَرِيمَةُ تَأْمُرُ بِإِقَامَةِ الوَجْهِ حَنِيفًا مُخْلِصًا، بِخَلْعِ الأَنْدَادِ وَنَفْيِ الأَوْثَانِ وَالتَّوْحِيدِ الخَالِصِ، بِمَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَى وَاقِعِ الفِطْرَةِ وَهِيَ التَّوْحِيدُ.

...............................

1- إبراهيم 10

2- سورة الروم/30.