هلِ الأزَلِيَّة تَتَعارَضُ معَ مَنطِقِ العَقلِ؟

إنَّ أوَّلَ صِفاتِ الخَالِقِ، الأَزَلِيًّةُ، وهِي بِبَسًاطةٍ شًديدةٍ: اللَّابِدايةُ. إِنَّ الخَالِقَ قَديمٌ قِدَمَ الأَزَلِ، لا بِدايةَ لهُ،لَمْ يَكن حادِثاً ،وَلَمْ يأتِي مِنْ عَدَمِ، هذا المًعنىٰ يُشَكِّلُ صُعوبةً كبيرةًعلى الفِهْمِ مَعنىٰ الأَزَلِيَّة:- ما مَعنىٰ أَنَّ الشَّيءَ لا بِدايةً لهُ؟ كيفَ يَستطِيعُ العقلُ البَشريُ تَصوُّرً أمرٍ كهذا؟!! أًمَّا أنْ نَقِفَ عندَ شيءٍ ونقولُ إِنَّ "الخالقَ" لَم يَسبِقْهُ شيءٌ، فهذا لا يَتناسَبُ وَمَنطِقي، بل أًرَىٰ أًنَّ قِدَمَ ظَواهِرِ الكًونِ وتَسَلسُلِهًا اللَّابِدائِي، لَهُوَ مَنطِقٌ يُناسِبُني ويُناسِبُ تَصوُّراتي أكثرَ بكثيرٍ!! ما مَعنىٰ أنْ نَقولَ إِنَّ الخالقَ كانَ مَوجواً قَبلَ أنْ يُوجَدً أيُ شيءٍ؟؟ مَعنىٰ هذا أنَّ ٱللهَ نَفسَهُ كانً خارِجَ الوجودِ، وهذا شيءٌ يَستحيلُ تَصَوُّرُهُ. وأَجِدُ عَقليَ يَتساءَلُ: ما الَّذِي كانَ يَفعلُهُ الخَالقُ فِي لحظاتِ اللابِداية؟؟ تُرَى مَا الَّذِي كانَ يَشغلُهُ؟! مُعنَى أَنَّهُ لا بِدايةَ لَهٌ، أَنَّ أَفعالًهُ أَيضَاً لا بِدايةَ لَهَا، فَمَا هي هذهِ الأًفعالُ يا تُرَى؟؟ وأَسئِلةٌ كثيرةٌ وكثيرةً، أَجِدُ إجابَتًها تَستَحيلُ على عَقلي!!

: اللجنة العلمية

كثيرٌ مِنَ الأَسئلةِ الَّتِي تَدورُ حَولَ مَفهومِ الأَزلِيَّةِ، ويَرَى المُعترِضُ أَنَّ القولَ بِأَنَّ هُناكَ إلهَاً أزليَّاً أَوجَدَ الأَشياءَ لا يَستَقيمُ مَعَ المنْطِقِ، بِخِلافِ القولِ إِنَّ الأَشياءَ بنفسِها أَزَليةٌ، حَيثُ يَجِدُ بِحَسبِ مَنطِقِهِ أَنَّها تَنسَجِمُ أكثرَ مَعَ العقلِ. 

سَأَدخُلُ مُباشَرةً في تحليلِ هذهِ الأَسئلةِ والإِجابةِ عَلَيهَا دُونَ الحاجَةِ إِلَى مُقدمَةٍ مُطوَّلَةٍ عَن مَفهومِ الأَزليَّةِ، وَسَأُناقِشُ الَأمْرَ بِحَسَبِ مَنطِقِهِ الَّذِي رَسَمَهُ في هذهِ الأَسئِلةِ.

فقولهُ: (إِنَّ الخالقَ قديمٌ قِدَمَ الأَزَلِ، لا بِدايةَ لهُ، لَم يكن حَادِثاً ولَم يأتِ مِن عَدَمٍ، هذا المعنى يُشَكِّلُ صُعوبةً كبيرةً على الفَهمِ ... مَعنَىٰ الأَزليَّةِ).

فِي حقيقةِ الَأمرِ الَّذِي يُشَكِّلُ صُعوبَةً فِي الفَهمِ هُو كيفَ يُمكنُ أنْ تكونً المادًّةُ أَزليَّةً، وعليهِ فإِنَّ التَّسلسُلَ المًنطِقِيَّ لِلتًّفكيرِ يَجبُ أَنْ يَنطَلقَ مِنِ السُّؤالِ عَنِ الخَلقِ لا عَنِ الخَّالقِ، فالأَمرُ الَّذِي نُسَلِمُ بهِ جَميعاً أًنَّ هُناك عَالَمَاً نُحنُ نعيش فيهِ، والسُّؤالُ المًنطقيُّ مِنْ أًينَ أَتَى هذا العَالًمُ؟، هكذا يَجِبُ أَنْ تكونَ البِدايَةُ بِخِلافِ مَا بَدًأً بهِ المُعتَرِضُ، وإِذا أَعُدنا كِتابةَ مَا كَتَبَهُ، فإِنَّ الشَّكلَ الصَّحيحَ سيكونُ كالتًّالي: (أَنْ نَقولَ:- أَنْ يكونَ الكونُ قديمَاً لا بِدايةَ لهُ، ولَم يَكنْ حادِثاً، ولَم يَأتِ مِنْ عَدَمٍ، هذا المَعنى يُشَكِّلُ صُعوبَةً كبيرةً على الفَهْمِ)، هذهِ هي الصِّياغَةُ الصَّحيحةُ لِمَا قَدَّمَهُ المُعتَرِضُ، وهذا ما قادَ المُؤمِنُ إِلى الإِيمانِ بشيءٍ ليسَ بمادَّةٍ ولا مُحتاجٍ لِمِثْلَ المادًّةِ، والخَالقُ المُستَغنِي عَن غَيرِهِ لابُدَّ أَنْ يكونَ

 أًزَليَّاً، وعليهِ فإِنَّ أَزَلِيةَ ٱللهِ هِي الَّتِي تَنسَجِمُ مَعَ المَنْطِقِ، بِخلافِ أَزلِيَّةِ المادَّةِ العاجِزَةِ والفقيرةِ والمُحتاجةِ إِلى غيرِها.

أَمَّا قولهُ: (ما مَعنى أَنَّ الشَّيءَ لا بِدايةَ لهُ؟ كيفَ يَستطيعُ العَقلُ البًشري تَصَوُّرَ أَمرٍ كهذا؟!!) وهذا القولُ يُحسبُ عليه وليس له، وهو اعترافٌ بأَنَّ العقلَ لا يُمكنُ أَنْ يَتصوَّرَ أَنْ تكونَ هذه الدُّنيا لا بِدايةَ لَهَا، وذلكَ؛ لِكونِها ناقِصةً غيرَ تامَّةٍ، ومُحتاجًةً غيرَ كامِلةٍ، وعاجِزةً غيرَ قادِرةٍ، وفقيرةً غيرَ غَنِيَّةٍ، وجاهلةَ غيرَ عالِمةٍ، و و و و وغير ذلكً مِنْ عًلاماتِ الحاجةِ الَّتِي نَراها في عالمِ الدُّنيا، والمِنطقُ السَّليمُ يَقودُنا إِلى القولِ أَنَّ كُلَّ مَخلوقٍ لا بُدَّ لهُ مِنْخَالق،ٍ وكُلَّ معلولٍ لا بُدَّ لهُ مِنْ عِلَّةٍ، وهكذا نَصِلُ إِلى مَوجودٍ كاملٍ بِذاتِهِ لا نَقْصَ ولا فَقْرَ ولا حَاجًةَ فِيه؛ بل هُو مُطْلَقُ الكَمَالِ والجَمَالِ والاسْتِغناءِ؛ لِكونِهِ قُدرةً لا عَجزَ فيهِ، وعِلمَاً لا جَهْلَ فيهِ، ووجُودَاً لا عَدَمَ فيهِ، وعندَها يَقِفُ العقلُ خاشِعاً أَمَامَ هذهِ العَظمةِ، ويَخِرُّ سَّاجِداً أَمَامَ هذا الكِبرياءِ، ويَقِرُّ مُعترِفاً بأَنَّهُ هُو الأَزَلُ ولا أَزَلَ غَيرُهُ، إِذْ كيفَ لا يكونُ هُو الأَزَلَ ولَمْ يَستَمِدْ وجودَهُ مِنْ وَجُودِ شَيءٍ قَبلَهُ؟. وعليهِ فإِنَّ الَّذِي يَنسجِمُ مَعَ ضَرُورةِ العقْلِ والبُرهانِ هُو الإِيمانُ بَأَزَلِ مَنْ لا يكونُ هُناكَ شَيءٌ قَبلَهُ، بخِلافِ المَخلوقِ الَّذِي لا يكونُ إِلَّا مُحتاجاً إِلى غَيرِهِ، فَكيفَ والحالُ هذا يُصدِّقُ العاقلُ بأًنَّ هذا المَخلوقَ أَزَلِيٌّ؟

أَمَّا قولهُ: (أَمَّا أَنْ نَقِفَ عندَ شيءٍ نقولُ إِنَّ "الخَالقَ" لَم يَسبقْهُ شيءٌ، فهذا لا يَتناسبُ مَعَ مَنطِقي، بل أَرَى أَنَّ قِدَمَ ظواهرِ الكونِ وتَسلسلِها اللَّآبدائِي لَهُوَ مَنطِقٌ يُناسِبُني ويُناسِبُ تصوُّراتِي أَكثرَ بكثيرٍ!!).

لأَنَّ التَّفكيرَ المَنطقيَّ يقودُ الإِنسانَ حَتماً إِلى الإِيمانِ بٱللهِ، فَنَجِدُ المُلحِدَ دَائِماً يَهرُبُ مِنَ المَنطقِ إِلى اللَّامَنطقِ، ومِنَ الحقيقةِ إلى الوَهم،ِ مَعَ أَنَّ مُواجهةَ الحقيقةِ والاعْترافِ بها قد يكونُ أَسهلَ مِنَ الهُروبِ إِلى السَّفسَطَةِ، فَصَاحِبُ المًنطقِ الأَعوجِ لا يكونُ إِلَّا أَعوجَ يَتنكَّبُ الطَّريقَ وحدَهُ، وعليهِ فإِنَّ الكُفرَ بٱللهِ هُو كُفرٌ بالعُقلِ قَبلَ أَنْ يكونَ كفراً بٱللهِ، فَمَنطقُ العُقلاءِ قد أَجمعَ عَلَى أَنَّ ما كانَ بالعَرَضِ لا بُدَّ أنْ يعودَ إِلى ما بالذَّاتِ،  وأَنَّ المَعلولَ دائِماً في حَاجةٍ إِلى العِلَّةِ، وأَنَّ الخّلقَ لا بدَّ لهُ مِنْ خالقٍ غيرِ مَخلوقٍ، وكذلكَ أَجمعَ العُقلاءُ عَلَى بُطلانِ التسلسلِ؛ لأَنَّ هذهِ السِّلسلةَ مَهمَا طالتْ لا بُدَّ لهَا مِنْ عِلَّةٍ تُوجِدُها وإِلا تكونُ وُجِدَتْ مِنَ الفَراغِ وهذا هُو اللَّامَنطقُ بعيِنِهِ، وما يَهمُّنا هوَ الأَمرُ الَّذِي يَنسجِمُ مَعَ مَنطقِ العُقلاءِ، أَمَّا مَا يَنسجمُ مَعَ المًنطقَ الأَعوجِ فَلَسْنَا مَسؤولينَ عنهُ. 

أَمَّا قولهُ: (ما مَعنى أًنْ نقولَ إِنَّ الخالقَ كانَ موجودَاً قبلَ أَنْ يُوجَدَ أيُّ شَيءٍ؟؟). المَعنى واضحٌ وبَسيطٌ ولا يَحتاجُ إِلى عَقلٍ خارقٍ حَتَّى يُفْهمً أَنَّ الخالقَ غيرُ الخَلقِ، والواجبَ غيرُ المُمكنِ، فَيُمكنُ أَنْ يكونَ هناكَ خالقٌ وليسَ معهُ خَلقٌ، لكن لا يُمكنُ أَنْ يكونَ هناكَ خَلقٌ مِن دُونِ أَنْ يَسبِقَ وجودُهُ وجودَ الخَالقِ، وقد قَلَبَ المُعترِضُ المُعادَلةَ عندَما سَأَلَ عَنِ الخالقِ كيفَ يكونُ مِن دُونِ خَلقٍ، في حين أَنَّ المُعادلةَ تَقتَضي أَنْ يَسألَ عَنِ الخَلقِ كيفَ يكونُ مِن دُونِ خَالقٍ؟؟؟ هذا هِيَ طبيعةُ التَّفكيرِ المَنطقيّ، إِلَّا أَنَّ المُلحدِينَ دائِماً يُحَوِّلُونَ مَسَارَ المَنطقِ إِلى الاتِّجاهِ العَكسِي، ويقولُ (مَعنى هذا أَنَّ اللهَ نفسَهُ كانَ خارجَ الوجودِ، وهذا شَيءٌ يَستحيلُ تصوُّرُهُ) وهُو يَتعمَّدُ بذلكَ الخلطَ بينَ الوُجودِ الواجبِ والوُجودِ المُمكِنِ، فٱللهُ خارجٌ عَنِ الوُجودِ المُمكِنِ لكنَّهُ واجبُ الوجودِ بِذاتهِ، أَمَّا المُمكِنُ فَلَمْ يَكُنْ موجودَاً ثُمًّ ٱللهُ أَوجَدَهُ. فيَسقِطُ بذلكَ كُلُّ مَا قال. 

أَمَّا قولهُ: (واجِدٌ عَقليٌ يَتساءَلُ: ما الَّذِي كانَ يفعلُهُ الخالقُ فِي لحظاتِ اللَّابدايةِ؟؟ تُرَى ما الَّذِي كانَ يَشغلُهُ؟)

ليسَ كُلُّ اسْتفهامٍ يُعَدُّ سُؤالاً؛ لأَنَّ لِلسُّؤالِ قواعِدَ وضَوابطَ، فإِذا كانَ السُّؤالُ هُو طريقٌ إِلى المُعرفةِ فلا بُدَّ حينَها أَنْ يكونَ السُّؤالُ ضِمنَ حُدُودِ المَعرفةِ المُمكنةِ للعقلِ، أَمَّا ما يًقعُ خارجَ حُدودِ الدَّائرةِ الإِدراكيَّةِ فلا يُفكِّرُ فيهِ العقلُ، ناهِيكَ أَنْ يَسألَ عنهُ، وعندَما نقولُ: إِنَّ العقلَ يدُلُّ على وجودِ ٱللهِ لا نَعني أَنَّ العقلَ يُحيطُ عِلمَاً بٱللهِ، وإِنَّما يُثَبِّتُ وجودَهُ ويُخرجِهُ مِنَ الحَدَّينِ حَدِّ التَّعطيلِ وحَدَّ التَّشبيهِ، أَمَّا كُنْهُهُ وذاتُهُ فخارِجَانِ عن حُدودِ إِدراكِهِ، فالقَولُ ماذا كانَ يفعلُ الخالقُ قبلَ الخلقِ سُؤالٌ مُوَجَّهٌ إِلى العقلِ، وحتَّى يَتمكَّنَ العقلُ مِنَ الإِجابةِ عَن هذا السُّؤالِ لا بُدَّ أَنْ يعرفَ أَوَّلاً كيفَ كانَ يُفكِّرُ العقلُ قبلَ أَنْ يُوجَدَ؟ فإِنْ كانتِ الإِجابةُ عِنْ هذا السُّؤالِ مُستحيلةً، فإِنَّ الإجابةَ عن ذلكَ السُّؤالِ مُستحيلةٌ أَيضَاً؛ لأَنَّ ٱللهَ عِندًمَا كانَ أَزليَّاً لَمْ يكُن معهُ إِنسانٌ كي يَعرفَ ماذا كانَ يَفعَلُ قبلَ الخلقِ. والأَمرُ الآخرُ إِنَّ الغَنيَ بذاتِهِ ليسَ في حاجةٍ إِلى الفعلِ كي نَفترِضً انْشِغالَهُ بالفعلِ بشكلٍ دائمٍ، وإِنَّما الحاجةُ إِلى الفعلِ مِنْ علاماتِ النَّاقصِ المُحتاجِ. 

أَمَّا قولهُ: (مَعنى أَنَّهُ لا بدايةَ لهُ، أَنَّ أَفعالَهُ أَيضَاً لا بدايةَ لهَا، فما هِي هذه الأَفعال يا تُرَى؟؟)

لا وجودَ لِلتَّلازمِ بينَ وجودِهِ في الأَزَلِ وبينَ فعلهِ، فهوَ ليسَ مُضطراً للفعلِ وإِنَّما هو فاعلٌ مُرِيدٌ إِذا شاءَ فَعَلَ وإِذا لمْ يشءْ لم يفعلْ.