الإيمانُ بالغيبِ.

يقولُ توماس جفرسون (tnomas Jetterson) أحدُ مؤسِّسي الدَّولةِ الأمريكيَّةِ: (إنَّ الكلامَ في أمورٍ غيرِ ماديَّةٍ - أيْ غيبيَّةٍ - هوَ كلامٌ عنْ لا شيءٍ، فالقولُ بأنَّ الرُّوحَ الإنسانيَّةَ والملائكةَ واللهَ غيرُ ماديِّينَ القولُ بأنّهمْ لا شيءَ، بمعنى أنَّهُ ليسَ هُناكَ روحٌ ولا ملائكةٌ ولا إلهٌ). ويضيفُ جفرسون: (لا أستطيعُ التَّفكيرَ بغيرِ ذلكَ، وبدونِ الغوصِ في متاهاتٍ لا يُسبَرُ غورُها، أوْ في هاويةِ التَّخيُّلِ، فأنا سعيدٌ بما أشغلُ نفسِي بِهِ بدونِ الغيبيّاتِ التي رُبَّما تكونُ موجودةً، ولكنْ ليسَ لدَيَّ دليلٌ على وجودِها). [دوكنز، ريتشارد: وهم الإله، ص 57، ترجمة بسام البغدادي، الطبعة العربية الثانية، 2009م]

: اللجنة العلمية

هذِهِ ليستْ مقولةً خاصَّةً بتوماس جفرسون، وإنَّما مقولةٌ لكلِّ التوجُّهاتِ المادِّيَّةِ في المعرفةِ، وليسَ لقائلِها خصوصيَّةٌ معرفيَّةٌ سواءٌ أكانَ مساهماً في تأسيسِ الدَّولةِ الأمريكيَّة أوْ لمْ يكنْ، إلّا أنَّ دوكنز اعتمدَ في كتابِهِ (وهْمِ الإلهِ) على فنتازيا إعلاميَّةٍ أكثرَ منِ اعتمادِهِ على المناقشةِ العلميَّةِ. والصِّراعُ المعرفيُّ بينَ المدارسِ ذاتِ التَّوجُّهاتِ المادِّيَّةِ الحِسِّيَّةِ، وبينَ المدارسِ العقليَّةِ صراعٌ لمْ يبدأْ بتوماس جفرسون، ولنْ ينتهيَ بِهِ، ومنْ هُنا فالنِّقاشُ في نظريَّةِ المعرفةِ يعتمدُ على التَّأسيسِ المعرفيِّ لكلِّ نظريَّةٍ، لا على الشُّخوصِ المؤيِّدةِ لهذِهِ النَّظريَّةِ أوْ تلكَ.

وما نعتقدُ بِهِ ودلَّنا عليْهِ العقلُ الصَّحيحُ هوَ وجودُ الغيبِ، ولا يستقيمُ فهمُنا للشُّهودِ إلّا إذا سبقَهُ إيمانٌ بالغيبِ. والغيبُ لا يعني العدمَ في ذاتِهِ، وإنَّما يعني عدمَ معرفتِنا التَّفصيليَّةِ بِهِ، فإذا كانَ هُناكَ شيءٌ لا نعرفُهُ أوْ لا نمتلكُ القدرةَ على الإحاطةِ بِهِ، فإنَّنا سنؤمنُ بوجوده ما دامتْ له أثارٌ وعلاماتٌ تشهدُ على وجودِهِ، وكلُّ ما في الكونِ هوَ علاماتٌ وآياتٌ شاهدةٌ على وجودِ حقيقةٍ فوقَ هذا الخلقِ هيَ التي أوجدتْهُ بالشَّكلِ الذي هوَ عليْهِ. فنظامُهُ يدلُّ على علمِ صانِعِهِ، وغاياتُهُ دليلٌ على حِكمتِهِ، وإتقانُهُ دليلٌ على لطفِهِ وقدرتِهِ، وهكذا كلُّ ما في الوجودِ يدلُّ على وجودِهِ، فكيفَ بعدَ ذلكَ نصدِّقُ قولَ توماس جفرسون أوْ غيرِهِ ونكفرُ بعقولِنا التي دلَّتْنا على وجودِهِ، وكيفَ نتنكَّرُ لأروحِنا التي نشعرُ بِها ولا تفارِقُنا إلّا في الموتِ أوْ ما يشبِهُ الموتَ. معَ أنَّ توماس لمْ ينكرْ وجودَها، وإنَما أنكرَ احساسَهُ بِها عندَما قالَ: (رُبَّما تكونُ موجودَةً)، فإذا لمْ يكنْ يمتلكُ الدَّليلَ عليْها فالآخرونَ يمتلكونَ هَذا الدَّليلَ، والأمرُ ليسَ أكثرَ منَ القبولِ والرَّفضِ (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ). وإذا كانَ توماس يرى السَّعادةَ في الاكتفاءِ بالمادَّةِ والعيشِ في وَحَلِ الدُّنْيا كذلكَ الذي يقولُ: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ)، فإنَّ قُبالةَ هؤلاءِ هُناكَ نفوسٌ متطلِّعةٌ إلى الكمالِ، لا تقبلُ لنفسِها إلّا التَّساميَ عنْ عالَمِ المادَّةِ، وتتطلَّعُ دائماً إلى الحياةِ الأبديَّةِ، وهمُ الذينَ يقولونَ: (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النّارِ). وعليْهِ فإنَّ التَّفكيرَ المادِّيَّ يحرمُ الإنسانَ منْ معرفةِ اللهِ، والاتِّصالِ بِهِ، والتقرُّبِ إليْهِ، بلْ يجعلُ هذِهِ الدُّنيا ونعيمَها الزّائلَ أقصى ما يطمحُ إليْهِ الإنسانُ، قالَ تعالى: (وَقالُوا ما هِيَ إِلّا حَياتُنا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إنْ هُمْ إِلّا يَظُنُّونَ) [سورة الجاثية: 24]. وقدْ تحدَّثْنا في أجوبةٍ سابقةٍ عنِ الإيمانِ بالغيبِ فراجعْ.