هل اللاأدرية تنزيه لله؟

عقيلٌ الجبوريٌّ: الإلحادُ علَّةٌ فلسفيَّةٌ، وأغلبُ الملحدينَ همُ لا أدريَّةٌ، وأصحابُ دعوى عُقلائيَّةٍ، ويؤمنونَ بوجودِ قوَّةٍ وراءَ هذا الكونِ العظيمِ، لكنَّ مشكلتَهمْ معَ المتديِّنينَ الذين يصفونَ اللهَ بصفاتٍ، وهذِهِ الصِّفاتُ مختلفة ومتطوِّرةٌ على مدى العصورِ، وخصوصاً الرِّسالاتِ السَّماويَّةَ منْ إبراهيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - إلى خاتمِ المرسلينَ، فنجدُ كلَّ طائفةٍ منْ طوائفِ الأديانِ يعرِّفونَ الإلهَ بشكلٍ مختلفٍ، أصلاً الشِّيعةُ مختلفون في معرفةِ الإلهِ، فالعُرفاءُ والفلاسفةُ والأخباريُّونَ والأصوليُّونَ يختلفُ إلهُ أحدِهمْ عنْ إلهِ الآخرِ، بلْ حتّى الرِّواياتُ التي عنِ الأئمَّةِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - مختلفةٌ في وصفِهِ. فلا تنتقصوا الملحدينَ الذَّينَ أوصلَهُمْ دليلُهم إلى اللاأدريَّةِ، بلْ حاوِلوا أنْ تقدِّموا لهمُ الأدلَّةَ على دعواكمْ. لكنْ هيهاتَ؛ فانتمْ مختلفون فيما بينَكمْ. أخيراً أقولُ: إنَّ اللهَ قدْ تعالى عمّا تصفونَهُ، سبحانَهُ ربِّي وربِّ السَّماواتِ والأرضِ وما فيهِنَّ وما بينَهنَّ عمّا تصفونَ وتشركونَ منْ حيثُ تعلمونَ أوْ لا تعلمونَ، والعاقبةُ للمتَّقينَ.

: اللجنة العلمية

هناكَ حِيَلٌ متعدِّدةٌ يمارسُها الإلحادُ لاختراقِ السّاحةِ الإسلاميَّةِ، فتارةً يرفعُ شِعارَ الإنسانِ والانتصارِ لقيمِ الحرِّيَّةِ والتقدُّمِ، وتارةً يرفعُ شِعارَ العلمِ والمعرفةِ، وهكذا يناورُ دائماً في حدودِ الإنسانِ. أمّا أنْ ينصِّبَ نفسَهُ مدافعاً عنِ اللهِ ضدَّ المتديِّنينَ فتلكَ هيَ الأحدوثةُ الكبرى. فالإلحادُ في ظنِّ هذا المتكلِّمِ ليسَ إلّا عقيدةً إيمانيَّةً قائمةً على اللاأدريَّةِ، وهي في وصفِهِ تنزيهٌ جديدٌ للهِ يتعالى على تنزيهِ المتديِّنينَ، وهذا خطابٌ شبيهٌ بخطابِ المعطِّلةِ والمرجئةِ الذينَ زعموا أنَّهمْ ينزِّهونَ اللهَ بنفيِ الصِّفاتِ عنْهُ. ويبدو أنَّ الإلحادَ هذِهِ المرَّةَ أرادَ أنْ يرتديَ ثيابَ الواعظينَ ثمَّ يقومَ فينا خطيباً ليؤدِّيَ دورَ النّاصحينَ.

ومنْ أجلِ أنْ نرفعَ اللبسَ الذي وقعَ فيهِ نقولُ: إنَّ الاختلافَ بينَ المدارسِ والأديانِ حولَ معرفةِ اللهِ وصفاتِهِ إنَّما هوَ اختلافٌ ينطلقُ منْ مسلَّمةٍ عليْها إجماعُ المسلمين، وهيَ الإيمانُ بوجودِ اللهِ الواحدِ الأحدِ الذي خلقَ كلَّ شيءٍ منَ العدمِ. وهذا خلافُ موقفِ الإلحادِ وخلافُ موقفِ اللاأدريَّةِ أيضاً، فبأيِّ منطقٍ تساوي بينَ الإلحادِ الذي يتَّخذُ موقفاً عقيديّاً بعدمِ وجوِد سلطةٍ غيبيَّةٍ، وبين اللاأدريَّةِ التي لا تجزمُ بوجودِ هذه السلطةِ الغيبيَّةِ؟ ثُمَّ بأيِّ منطقٍ تجعلُ اللاأدريَّةَ حالةً منَ الإيمانِ العُقلائيِّ بوجودِ إلهٍ أعظمَ منْ إلهِ المتديِّنينَ؟ ومعَ أنَّكَ لا تمتلكُ أيَّ مبرِّرٍ منطقيٍّ نجدُكَ ترسلُ كلامَكَ إرسالَ المسلَّماتَ وتقولُ: (وأغلبُ الملحدينَ همْ لا أدريَّةٌ)، أقمتَ بعملِ إحصاءٍ علميٍّ استخلصتَ منْهُ هذِهِ النَّتيجةَ؟ أمْ هوَ منَ الإطلاقِ العبطيِّ الذي يقطعُ بالحقيقةِ منْ ملاحظةٍ جزئيَّةٍ؟ فإنْ كانَ عندَكَ إحصاءٌ علميٌّ فمِنَ الجيِّدِ نشرُهُ ليستفيدَ منْهُ الجميعُ، وإنْ لمْ يكنْ عندَكَ فلا تتحدَّثْ باسْمِ العُقلائيَّةِ؛ لأنَّ التَّعميمَ وإطلاقَ الأحكامِ بدونِ مبرِّراتٍ منطقيَّةٍ ليسَ منْ عملِ العُقلاءِ.

أمّا قولُكَ: (مشكلتهمْ معَ المتديِّنينَ الذَّينَ يصفونَ اللهَ بصفاتٍ، وهذِهِ الصِّفاتُ مختلفةٌ ومتطوِّرةٌ ...) فهوَ انتقالٌ منْ فكرةٍ إلى أخرى بدونِ إيِّ رابطٍ منطقيٍّ بينَ الفكرتينِ، فلوْ سلَّمْنا معَكَ جدلاً بأنَّ أكثرَ الملحدينَ لاأدريُّونَ، فهلْ يعني هذا أنَّ اللاأدريَّةَ لها مشكلةٌ معَ المتديِّنينَ في موضوعِ الصِّفاتِ؟ هلْ لكَ قاموسٌ فلسفيٌّ خاصٌّ؟ أمْ منْ أينَ تستقي هذِهِ المعلوماتِ؟ ولوْ سلَّمْنا بوجوِد هذِهِ المشكلةِ فكيفَ تمكَّنْتَ منْ حصرِها في موضوعِ الصِّفاتِ فقط؟ وما يعرفُهُ الجميعُ أنَّ اللاأدريَّةَ هيَ حالةٌ منَ الشَّكِّ والتردُّدِ، لا يجزمونَ بالنَّفيِ ولا بالإثباتِ، وعليْهِ فلا يتحدَّثونَ عنِ اللهِ كحقيقةٍ لها صفةٌ أوْ ليستْ لها صفةٌ، فالأمرُ لا يعنيهمْ ما دامَ غيرَ ثابتٍ عندَهمْ، فكيفَ بعدَ ذلكَ تفترضُ وجودَ مشكلةٍ بينَهمْ وبينَ المتديِّنينَ في موضوعِ الصِّفاتِ؟ وإذا تجاوَزْنا كلَّ ذلكَ فماذا تعني بالصِّفاتِ المختلفةِ والمتطوِّرةِ؟ فإذا كنتَ تقصدُ التَّبايُناتِ حولَ معرفةِ اللهِ بينَ المدارسِ والمذاهبِ والأديانِ، فهيَ اختلافاتٌ في دائرةِ الإيمانِ باللهِ تعالى، وخلافُ الإلحادِ واللاأدريَّةِ معَهمْ في أصلِ وجودِ اللهِ تعالى، وهوَ خلافٌ متقدِّمٌ على مبحثِ الصِّفاتِ، وكلُّ ما يطلبُهُ المؤمنُ منَ الملحدِ هوَ عدمُ الكفرِ بالعقلِ الذي يجزمُ بضرورةِ وجودِ صانعٍ لهذا الكونِ. أمّا الخلافُ الذي بينَ المتديِّنينَ فهوَ أمرٌ متأخِّرٌ رتبةً، ويتمُّ حسمُهُ ضمنَ الدّائرةِ الدينيَّةِ، ولا دخلَ للإلحاد بِهِ. والأمرُ الذي لا يمكنُ استيعابُهُ كيفَ أصبحتْ هذِهِ الاختلافاتُ تطوَّراً في الصِّفاتِ؟ معَ أنَّ هذِهِ الاختلافاتِ هيَ تبايُناتٌ في الفهمِ الذي يُعدُّ أمراً متأصِّلاً في البشرِ. ولذا نعتقدُ بضرورةِ وجودِ أئمَّةٍ معصومينَ يمثِّلونَ الضَّمانَ في معرفةِ اللهِ بالشَّكلِ الذي يخرجُهمْ منَ التَّشبيهِ. 

أمّا قولُكَ: (أصلاً الشِّيعةُ مختلفون في معرفةِ الإلهِ، فالعُرفاءُ والفلاسفةُ والأخباريُّونَ والأصوليُّونَ يختلفُ إلهُ أحدِهمْ عنْ إلهِ الآخرِ، بلْ حتّى الرِّواياتُ التي عنِ الأئمَّةِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - مختلفةٌ في وصفِهِ)، فكلُّ هذا يمثِّلُ موضوعاتٍ يتمُّ طرحُها داخلَ الدّائرةِ الإسلاميَّةِ، واللاأدريَّةُ لا تُعدُّ حلّاً سحريّاً للقضاءِ على هذِهِ الاختلافاتِ في مستوى الوعيِ والفهمِ بينَ البشرِ. أمّا أهلُ البيتِ - عليهِمُ السَّلامُ - فهُمُ الجهةُ المعصومةُ التي يمكنُ الوثوقُ بِها في كلِّ ما لهُ عَلاقةٌ بالمعرفةِ الحقَّةِ باللهِ تعالى، ولمْ يقعْ بينَهمُ اختلافٌ أوْ تباينٌ في ما لهُ عَلاقةٌ بصفاتِ اللهِ، وما جاءَ منْ رواياتٍ عنْهمْ ينسجمُ معَ الفطرةِ والعقلِ السَّليمِ.

أمّا قولُكَ: (فلا تنتقصوا الملحدينَ الذين أوصلَهمْ دليلُهمْ إلى الاأدريَّةِ)، عجيبٌ أمرُكَ، كيفَ ترتِّبُ الكلامَ، فإذا كانتِ اللاأدريَّةُ تعني اللادليلَ على وجودِ الله أوْ على عدمِهِ، فكيفَ بعدَ ذلكَ يكونُونَ قدْ أوصلَهمُ الدَّليلُ؟ فهمْ يصرِّحونَ بأنفسِهمْ بأنَّهُمْ ليسَ لهمْ دليلٌ، ثمَّ تأتي أنتَ لتقولَ: أوصلَهمُ الدَّليلُ؟ فهمْ يا سيِّدي يعيشونَ حالةً منَ الحَيْرةِ والرِّيبةِ، (لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ ، وَلَمْ يَلْجَؤوا إِلى رُكْنٍ وَثِيقٍ)، ولذا ننتقصُهمْ؛ لأنَّهمْ في حالةٍ من التَّيَهانِ في الفراغِ والعدمِ. 

ثمَّ تختمُ كلامَكَ بعباراتٍ زادتْنا حَيْرةً في أمرِكَ، وكأنَّنا إزاءَ كاتبٍ لا يعي ما يقولُ، فبعدَ أنْ كانتِ انطلاقتُكَ هيَ الدِّفاعَ عنِ الإلحادِ، ثمَّ أخذتَ بتصويرِ اللاأدريَّةِ على أنَّها موقفٌ عُقلائيٌّ معَ أنَّها اللاعُقلائيَّةُ بعَينِها، وبعدَ ذلكَ تشنُّ هجوماً على المتديِّنينَ لا في سلوكِهِمْ العمليِّ، وإنَّما في اعتقادِهمْ باللهِ، ثمَّ تأتي لتختمَ كلامَكَ بقولِ المؤمنِ العابدِ العارفِ بربِّهِ فتقولَ: (أخيراً أقولُ: إنَّ اللهَ قدْ تعالى عمّا تصفونَهُ، سبحانَهُ ربِّي وربِّ السَّماواتِ والأرضِ وما فيهِنَّ وما بينَهنَّ عمّا تصفونَ وتشركونَ منْ حيثُ تعلمونَ أوْ لا تعلمونَ، والعاقبةُ للمتَّقينَ)، ولا أدري أيُّ عاقبةٍ للمتَّقينَ تتحدَّثُ عنْها؟ واللاأدريَّةُ لا يؤمنونَ بمبدأٍ، ولا يؤمنونَ بعاقبةٍ.