مَا هُوَ الدِّينُ فِي نَظَرِ الْمُؤْمِنِ؟

الْمُشكِلَةُ فِي الْإيمَانِ بِالْغَيْبِ بِشَكْلٍ خاصٍّ، وَالْإيمَانِ بِالدِّينِ بِشَكْلٍ عَامٍ أَنَّهُ مَلِيءٌ بِعَفَارِيتَ مُرْعِبَةٍ وَشُخُوصٍ غَابِرَةٍ، وَأشْبَاحٍ لَا أحَدَ يَعَرِفُ عَنْهَا شَيئَاً سِوَى مَا تَوَارَثْنَاهُ مِنْ أُنَاسٍ، لَمْ يَعرِفُوا عَنْهَا شَيْئًا.

: اللجنة العلمية

الْأَمْرُ الْمُؤْسِفُ أَنَّ كَثِيراً مِنَ الْمَفَاهِيمِ الْمَغْلُوطَةِ عَنِ الدِّينِ نَجِدُها قَدْ عَشعَشتْ فِي أَذهانِ الْبَعْضِ، وَمَعَ ذَلِكَ يُرْسِلُونَهَا إِرْسَالَ الْمُسَلَّمَاتِ بِوَصْفِهَا حَقَائِقَ لَا نِقَاشَ فِيهَا، وَالرَّاصِدُ لِحَرَكَةِ الْمُلْحِدِينَ الْعَرَبِ يَجِدُ أَنَّ مُعْظَمَهُمْ يَنْطَلِقُ إِلَى الْإلْحَادِ مِنْ خَلْفِيَّاتٍ غَيْرِ دِينِيَّةٍ، وَكُلُّ مَا يَعرفُونَهُ عَنِ الدِّينِ مُسْتَمَدٌّ مِنَ السَّمَاعِ الْعُرْفِيِّ وَمِنْ خِلَالِ تَجَارِبِهِمُ الْاِجْتِمَاعِيَّةِ، وَعَنْدَما يَتَعَرَّفُونَ عَلَى الْأَفْكَارِ الْإلْحَادِيَّةِ يُقَارِنُونَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ تَصَوُّرَاتٍ مَغْلُوطَةٍ مَعَ الْأَفْكَارِ الْإلْحَادِيَّةِ الْجَدِيدَةِ، وَلِذَا كَانَ مِنَ السَّهْلِ عَلَيْهِمُ التَّخلّي عَنِ الدِّينِ الَّذِي لَيْسَ إِلَّا خُزَعْبَلَاتٍ وَخُرَافَاتٍ سَمِعُوهَا مِنْ حِكَايَاتِ جَدَّاتِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ يَتَصَوَّرُونَ بِجَهْلِهِمْ أَنَّ مَعَارِفَهُمُ الدِّينِيَّةَ هِي عَيْنُ الْحَقِيقَةِ وَالْوَاقِعِ وَأنّهَا مُشَابِهَةٌ لِما عِنْدَ اللآخَريْنَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.

بالتّالي الْمُغَالَطَةُ الْكُبْرَى الَّتِي يَرْتَكِبُهَا الْمُلْحِدُونَ هِي مُهَاجَمَةُ الدِّينِ مِنْ وَاقِعِ خَلْفِيَّاتِهِمُ الثَّقَافِيَّةِ، فَالْعَفَارِيتُ والأشباحُ الَّتِي تَحَدَّثَ عَنْهَا لَا وُجُودَ لَهَا إِلَّا فِي تَفْكِيرِهِمُ الطُّفُولِيِّ.

وَالْوُقُوفُ عَلَى فَلْسَفَةِ الدِّينِ وَغَايَاتِهِ الْكُبْرَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَصَادِرِهِ الطَّبِيعِيَّةِ، لَا مِنْ بَعْضِ الْمَوروثَاتِ غَيرِ المَوْثُوقِ بِهَا، كَمَا أَنَّ عَمَلِيَّةَ فَهْمِ النُّصُوصُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُنْضَبِطَةً بِالْمَنْهَجِيَّاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَلَيْسَ بِإِسْقَاطِ مَفَاهِيمَ مُشَوَّهَةٍ لَا عِلاقَةَ لَهَا بِالنُّصُوصِ.

وَإِذَا كَانَتْ تَصَوُّرَاتُ الْمُلْحِدِينَ لِلدِّينِ تَصَوُّرَاتٍ مُشَوَّهَةٍ بِشَكْلٍ مُتَعَمَّدٍ، لَنْ نُكَلِّفَ أَنَفُسَنَا بِالرَّدِّ عَلَى إِشْكَالَاتٍ غَيْرِ مَوْجُودَةٍ إِلَّا فِي تَصَوُّرَاتِهِمُ الْخَرِبَةِ، وَإِنَّمَا نَسْعَى لِبَيَانِ مَا نَعْتَقِدُ بِهِ وَمَا نُؤمِنُ بِهِ، فَالْاِعْتِقَادُ بِالْغَيْبِ وَالْإيمَانُ بِالْإِسْلَامِ كَدِينٍ فِي قَنَاعَاتِنَا كَمُؤْمِنِينَ قَائِمٌ عَلَى رُؤْيَةٍ مَعْرِفِيَّةٍ تَمْتَلِكُ كُلَّ الْمُبَرِّرَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْمَعْرِفِيَّةِ، وَمِنْ هُنَا يُمْكِنُنَا أَن نُشِيرَ إِلَى زَاوِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِي الْجَانِبُ الْقِيَمِيُّ وَالْحَضَّارِيُّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْإِشْكَالِ حَاوَلَ أَنْ يُصَوِّرَ الدِّينَ كَخُرَافَةٍ لَا تَنْسَجِمُ مَعَ تَطَلُّعَاتِ الْإِنْسَانِ الْحَضَاَرِيَّةِ.

وَبِشَكْلٍ مُخْتَصَرٍ يُمْكِنُنَا أَنْ نَقُولَ إِنَّ قِمَّةَ الْهَرَمِ الْقِيَمِيِّ عِنْدَنَا تَتَجَلَّى مِنَ الْغَيْبِ وَالْإيمَانِ بِاللهِ، بِوَصْفِهِ الْكَمَالَ الْمُطْلَقَ الَّذِي يَسْتَمِدُّ مِنْهُ الْإِنْسَانُ الْقِيَمَ وَالْمُثُلَ الَّتِي يَنْبَعِثُ بِهَا الْإِنْسَانُ مَكَانًا عَلِيًّا، وَالْمَادَّةُ الْعَمْيَاءُ لَا يُمكِنُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَراً لِلْمُثُلِ الَّتِي يَطْمَحُ لَهَا الْإِنْسَانُ، وَالْإيمَانُ هُوَ الَّذِي يُمَثِّلُ حَلْقَةَ الْوَصْلِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْخَلْقِ، وَمِنَ الْإيمَانِ تَجْرِي رَوَافِدُ الْقِيَمِ، لِأَنَّ الْإيمَانَ فِي وَاقِعِهِ هُوَ التَّسْلِيمُ لِلَحَقِّ، وَفِي الْبَدْءِ التَّسْلِيمُ لِلْحَيّ الْقَيُّومِ الَّذِي بِهِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأرْضُ، ثُمَّ التَّسْلِيمُ لأسْمَائِهِ الْحُسْنَى الَّتِي تَتَجَلَّى فِي الْخَلِيقَةِ سُنَناً، وَفِي الشَّرِيعَةِ تَتَجَلَّى حِكَماً وَقِيَماً ؛ فَإِذَا نَظَرْنَا لِحَقِيقَةِ الْإيمَانِ، نَجِدُ أَنَّهُ فِي الْوَاقِعِ تَعْبِيرٌ عَنِ الْاِعْتِرَافِ بِالْحَقِّ، وَأَنَّ الْعَقْلَ هُوَ مَصْدَرُ إيمَانِنَا بِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ الَّذِي يَثِقُ بِذاتهِ حِينَ يَكشِفُ عَنْ حَقِيقَةٍ لَا يُرْتَابُ فِيهَا، وحينئذٍ يَتَحَقَّقُ الْاِعْتِرَافُ بِوُجُودِهَا، وَالْاِعْتِرَافُ بِمَا لَهُ مِنْ أَبْعَادٍ وَاِمْتِدَادَاتٍ، فَحِينَ تُؤمِنُ بِوُجُودِ شَخْصٍ لَا بُدَّ أَنْ تَعْتَرِفَ بِحَقِّهِ فِي الْحَيَاةِ، وَحَقُّهُ فِي أَنْ يَشْغَلَ حَيِّزًا مِنَ الْأرْضِ، وَحَقُّهُ فِي أَنْ يَتَنَفَّسَ  وَأَنْ يُفَكِّرَ وَأَنْ يَنْطِقَ..هَكَذَا أَيْضًا حِينَ نَعْتَرِفُ بِاللهِ وبأسمائهِ، وَبِالْشَّمْسِ وَالْأرْضِ وَالْحَيَاةِ... ، فَنَشْرَعُ فِي بِنَاءِ الْحُقوقِ الْمَوْضُوعِيَّةِ، وَيُعْتَبَرُ هَذَا الْاِعْتِرَافُ بَذرَةَ الْحَقِّ فِي أرْضِ الْقَانُونِ، فَكُلُّ شَيْءٍ مَوْجُودٍ فَوْقَ هَذَا الْكَوْكَبِ يُعْتَبَرُ ذَا حَقٍّ، لِأَنَّنَا نَعْتَرِفُ بِهِ، وَبِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَوُجُودُهُ حَقٌّ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَكَيَّفَ مَعَ هَذَا الْمَوْجُودِ.

وبالتّالي يُصْبِحُ الْإيمَانُ هُوَ قِيمَةَ الْقِيَمِ، وَعَنْدَمَا نَقُولُ الْإيمَان فَإِنَّنَا نَقْصِدُ كِلا جَانِبِيهِ، الْإيمَانُ بِالْغَيْبِ، وَالْإيمَانُ بِالشُّهُودِ، أَوْ حُقوقِ اللهِ وَحُقوقِ النَّاسِ، أَمَّا حَقُّ اللهِ فَهُوَ الَّذِي يُضْفِي عَلَى الْإِنْسَانِ قِيمَ التّسامي وَالطُّمُوحِ نَحْوَ الْكَمَالِ، أَمَّا حُقوقُ النَّاسِ فَهِي الَّتِي تَخلُقُ الْاِنْسِجَامَ مَعَ الْآخَرِ، بِحَيْثُ تُصبِحُ حَرَكَةُ التَّكَامُلِ صِفَةً جَمَاعِيَّةً لَا يُعيقُها تَصَادُمُ الْإِرَادَاتِ الْبَشَرِيَّةِ.

وَالْإلْحَادُ لَيْسَ إِلَّا كُفْراً وَعَدَمَ اِعْتِرَافٍ بِالْخَلْقِ وَبِالْخَالِقِ، فَمَنْ يُنكِرُ الْخَالِقَ كَيْفَ يُمْكِنُهُ الْإيمَانُ بِالْمَخْلُوقِ، وبالتّالي هُوَ نَظْرَةٌ مَعْكُوسَةٌ وَمُشَوَّهَةٌ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَبْنِيَ لِلْإِنْسَانِ رُؤْيَةً مُتَكَامِلَةً تُحَقِّقُ لَهُ تَطَلُّعَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ وَالْمَادِّيَّةِ، وَتِلْكَ الْعَفَارِيتُ لَيْسَتْ إِلَّا تَعْبِيراً عَنِ الْاِضْطِرَابِ النَّفْسِيِّ الَّذِي يُعَانِيهِ الْمُلْحِدُ.