لِمَاذَا لَا نَرَى اللهَ؟

: اللجنة العلمية

لَا بُدَّ أَنْ نُشِيرَ إِلَى أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ يَأْتِي بَعْدَ الْإيمَانِ بِوُجُودِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنَ السُّؤَالِ الرُّؤْيَةُ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ الرُّؤْيَةُ فِي الْآخِرَةِ، وَحَتَّى تَكونَ الْإِجَابَةُ كَامِلَةً لَابُدَّ أَنْ نُشِيرَ وَبِشَكْلٍ مُوجَزٍ لِكَلا الْاِحْتِمَالَيْنِ.

أجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَدَمِ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنَّهُم اِخْتَلَفُوا بَيْنَ مَنْ يَجْعَلُ ذَلِكَ أَمْرَاً مُسْتَحِيلاً فِي نَفْسِهِ، وَبَيْنَ مَنْ يَجعلُهُ أَمْرًا مَعْقُولًا وَجَائِزًا ؛ إِلَّا أَنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَرَاهُ أحَدٌ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ حَدَثَ هَذَا الْاِخْتِلَاَفُ بِسَبَبِ وُجُودِ رِوَايَاتٍ عِنْدَ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ تَقَولُ بِوقوعِ الرُّؤْيَةِ حَتْمًا فِي الْآخِرَةِ، مِمَّا جَعَلَهُمْ يَقُولونَ بِإِمْكَانِيَّةِ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَمِنْ هُنَا لَابُدَّ مِنْ مُنَاقَشَةِ إِمْكَانِيَّةِ الرُّؤْيَةِ عَقْلًا وَمِنْ ثُمَّ مُنَاقَشَةِ مَنْ يَقُولُ بِالْجَوَازِ فِي الآخِرَةِ.

إِمْكَانِيَّةُ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا:

إِنَّ الرُّؤْيَةَ الْحِسِّيَّةَ مُحَالٌ وَلَا تَجوزُ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْئِيُّ جِسْمًا لَهُ كَثَافَةٌ وَلَوْنٌ حَتَّى تَتِمَّ الرُّؤْيَةُ، فَمِنْ مُسْتَلْزَمَاتِ الرُّؤْيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَرْئِيُّ جِسْمًا تَنْعَكِسُ مِنْهُ الْأَشِعَّةَ، وَأَنْ يَكُونَ فِي مُقَابِلِ الرَّائِي، وَأَنْ تَكونَ هُنَاكَ مَسَافَةٌ بَيْنَ الرَّائي وَالْمَرْئِيِّ بِالْإضَافَةِ إِلَى سَلَاَمَةِ الْحَاسَّةِ، وَبِهَذِهِ الشُّرُوطِ يَكُونُ اللهُ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ ِ جِسماً لَهُ لَوْنٌ وَيَكُونُ مَحْدُودَاً بِمَكَانٍ وَجِهَةٍ وَهَذَا مُحَالٍ.

وَقَدْ جَاءَ هَذَا الدَّليلُ فِي رِوَايَاتِ أهْلِ الْبَيْتِ (عَلَيْهِمُ السَّلامُ)، كَتَبَ أَحَمَدُ بْنُ إسحاقَ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَسْأَلُهُ عَنِ الرُّؤْيَةِ وَمَا فِيهِ النَّاسُ، فَكَتَبَ عَلِيهِ السَّلامُ:( لَا تَجُوزُ الرُّؤيَةُ مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الرَّائِي وَالْمَرْئِيِّ هَوَاءٌ يُنَفِّذُهُ الْبَصَرُ، فَإِذَا اِنْقَطَعَ الْهَوَاءُ وَعُدِمَ الضِّيَاءُ بَيْنَ الرَّائِي وَالْمَرْئِيِّ لَمْ تَصُحِ الرُّؤْيَةُ وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْاِشْتِبَاهُ، لِأَنَّ الرَّائِيَّ مَتى سَاوَى الْمَرْئِيَّ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ بَيْنَهُمَا فِي الرُّؤْيَةِ وَجَبَ الْاِشْتِبَاهُ وَكَانَ فِي ذَلِكَ التَّشْبِيهُ، لَانَ الْأَسْبَابَ لَابُدَّ مِنْ اِتِّصَالِهَا بِالْمُسَبِّبَاتِ).

الرُّؤْيَةُ فِي الآخرَةِ:

قَالَ أهْلُ السَّنَةَ بِرُؤْيَةِ اللهِ تَعَالَى فِي الآخِرَةِ وَاِحْتَجُّوا بِمَجْمُوعَةٍ مِنَ الْمروِيَّاتِ كَمَا جَاءَ فِي صِحَاحِهِمْ، فَعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَنَّا جُلُوسَاً عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ:( إِنَّكُمْ سَتَرَونَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوُنَ هَذَا الْقَمَرَ، لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اِسْتَطَعْتُم أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَاِفْعَلُوا.

ثُمَّ قَرَأَ:( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ).

وغَيرُ ذلكَ مِنْ عَشراتِ الأحاديثِ الّتي حَفلَتْ بها مَصادرُهُم، يَقولُ إِبنُ حَجَرٍ حَولَ أحاديثِ الرُّؤيَةِ: (جَمَعَ الدّارقطنيُّ الأَحاديثَ الوارِدَةَ في رُؤيتِهِ تَعالى في الآخِرَةِ فَزادَتْ عَلى العِشرينَ، وتَتبَّعَها إِبنُ القَيِّمِ في حادي الأرْواحِ فبَلَغَتْ الثَّلاثينَ وأكثرُها جِيادٌ، وأسنَدَ الدّارقطنيُّ عَنْ يَحيى بنِ مُعينٍ قالَ: عِندي سَبعةَ عَشَرَ حَديثاً في الرُّؤيَةِ صِحاحٌ) (1).

وبِهذهِ الأحاديثِ الَّتي زَعَموا صِحَّتَها بَنَوا إعتقادَهُم بِرؤيَةِ اللهِ تَعالى يَومَ القِيامَةِ حَتَّى تَطرَّفَ إمامُ الحَنابلَةِ وكَفَّرَ كُلَّ مَنْ يُخالِفُ هذا الإعتِقادَ، ولَمْ يَقِفوا عِندَ هذا الحَدِّ بَلْ جَوَّزوا إمكانِيَّةَ رُؤيَتِهِ في الدُّنيا. قالَ الاسفرائينيُّ: (أجمَعَ أهلُ السُّنَّةِ على أنَّ اللهَ تَعالى يَكونُ مَرئيّاً لِلمُؤمنينَ في الآخِرةِ، وقالوا بِجَوازِ رُؤيتِهِ في كُلِّ حالٍ، ولِكُلِّ حَيٍّ مِنْ طَريقِ العَقلِ وَوُجوبِ رُؤيتِهِ لِلمُؤمنينَ خاصَّةً في الآخِرةِ مِنْ طَريقِ الخَبَرِ)(2) . وفي قِبالِ هذهِ المَرويّاتِ هناكَ أحاديثٌ مُتواترَةٌ عَنْ أهلِ البَيْتِ (عَليهِمُ السَّلامُ) تَمنَعُ مِنْ رُؤيَةِ اللهِ في الدُّنيا والآخِرَةِ.

الأدِلَّةُ العَقليَّةُ على رُؤيَةِ اللهِ:

قَدْ حاوَلَ الأَشاعِرَةُ الإستِدلالَ على الرُّؤيَةِ في الآخِرَةِ بِأدِلَّةٍ عَقلِيَّةٍ مِثلِ قَولِهِم: عَدَمُ المُمانَعَةِ العَقليَّةِ في إمكانِ الرُّؤيَةِ البَصَريَّةِ، لأنَّ هذا الإمكانَ لا يَقتَضي إثباتَ مَحذورٍ أو مُحالٍ عَقليٍّ عَلى اللهِ تَعالى

1ـ فَليسَ في جَوازِ الرُّؤيَةِ إثباتُ حُدوثِهِ، لأنَّ المَرئِيَّ لا يَكونُ مَرئيّاً لأنَّهُ مُحدَثٌ وإلاّ لَكانَ مِنَ اللاّزِمِ أن يُرى كُلُّ مُحدَثٍ.

2ـ ولَيسَ في الرُّؤيَةِ إثباتُ حُدوثِ مَعنىً في المَرئيّ، لأنَّ الألوانَ مَرئيّاتٌ ولا يَجوزُ حُدوثُ مَعنىً فيها لأنَّها أعراضٌ.

3ـ ولَيسَ في إثباتِ الرُّؤيَةِ للهِ تَعالى تَشبيهُ البَاري تَعالى، وَلا تَجنيسُهُ ولا قَلبُهُ عَنْ حَقيقَتِهِ، لأنَّ السَّوادَ والبَياضَ لا يَتجانَسانِ وَلا يَشتَبهانِ بِوقوعِ الرُّؤيَةِ عَليهِما.

... ونُلاحِظُ على هذا الإِدِّعاءِ الآتي:

على الأوَّلِ نَقولُ: صَحيحٌ أنَّ الحُدوثَ ليسَ شَرطاً كافِياً في الرُّؤيَةِ، بَلْ لا بُدَّ مِنْ إنضِمامِ شُروطٍ أخرى، كَالمَسافَةِ المُناسِبَةِ والكَثافَةِ الَّتي تَسمَحُ بإنعِكاسِ الضَوءِ، وعَدَمُ تَوفُّرِها في بَعضِ المُحدَثاتِ يَسمَحُ بِعَدَمِ رُؤيَتِها. ولكنَّ الرُّؤيَةَ بِنَفسِها تَستلزِمُ الجِهَةَ (لِلمُقابلَةِ)، والجِسميَّةَ (لِلكثافَةِ) فهيَ تَستلزِمُ الحُدوثَ، فَكُلُّ مَرئيٍّ مُحدَثٌ، لا العَكسُ.

ونَقولُ عَنِ الثّاني (ولَيسَ في الرُّؤيَةِ إثباتُ حُدوثِ مَعنى...): إنَّ المَعنى يَحدُثُ بإتِّصالِ الضَّوءِ والمُقابَلَةِ، وإنْ لمْ يَكُنْ إتّصالُ ضَوءٍ ولا مُقابَلةٌ لمْ تَكُنْ رُؤيَةٌ بَصَرِيَّةٌ.

ونَقولُ عَنِ الثّالثِ: إنَّها مُجَرَّدُ دَعوىً فالتَّشبيهُ مُتحَقِّقٌ لا مَفَرَّ مِنهُ فإنَّ حَقيقَةَ الرُّؤيَةِ قائِمَةٌ بالمُقابَلَةِ، والمُقابَلَةُ لا تَنفكُّ عَنْ كَونِ المَرئيّ في جِهَةٍ وَمَكانٍ، ولَيسَ أظهَرُ مِنْ هكذا تَشبيهٍ، حَيثُ الجِهَةُ والجِسميَّةُ، وتَعالى لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ.

في الخِتامِ: نُؤكِّدُ عَلى أنَّ رُؤيَةَ اللهِ أمْرٌ مُستحيلٌ تَحَقُّقهُ في الدُّنيا والآخِرَةِ؛ لأنَّ الرُّؤيَةَ تَتَعلَّقُ بِعالَمِ الشُّهودِ والمادَّةِ واللهُ سُبحانَهُ ليسَ جُزءاً مِنْ خَلقِهِ، فَكُلُّ شَيءٌ تَصُحُّ رُؤيتُهُ فَهُوَ مَخلوقٌ مَربوبٌ، واللهُ سُبحانَهُ وتَعالى مُنَّزهٌ أنْ يَكونَ مِثلَ خَلقِهِ، قالَ تَعالى: (لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (103 البقرة).

والمُطالبَةُ بِرؤيَةِ اللهِ كَدليلٍ حَصريٍّ لإثباتِ وجودِهِ كَما هُوَ حالُ المَلاحِدَةِ المادّيينَ، مُطالبَةٌ تَتجاوَزُ كُلَّ الشُّروطِ المَعهودَةِ عِندَ العُقَلاءِ في تَحصيلِ العِلمِ والمَعرفَةِ؛ لأنَّ الوُجودَ ليسَ مَحصُوراً في المُبصِراتِ والمَحسوساتِ، وكَثيرٌ مِنَ الحَقائِقِ الَّتي يَعترِفُ الإنسانُ بِوجودِها ومَعَ ذلكَ لا يُدرِكُ وجودَها بِحواسِّهِ، مِثلِ القِيَمِ والمَباديء والأَفكارِ والعَقائِدِ وغَيرِ ذلكَ، كما أنَّ أدَواتِ المَعرفَةِ ليسَتْ مَحصورةً أيضاً في الحَواسِّ وإنَّما لِكُلِّ مَوضوعٍ ما يُناسِبُهُ مِنْ أدَواتٍ مَعرفيَّةٍ، والعَقلُ الإنسانِيُّ هُوَ المَسؤولُ عَنْ تَحصيلِ العِلمِ سواءٌ كانَ ذلكَ العِلمُ بِواسِطَةِ الحَواسِّ أو بِواسِطَةِ البُرهانِ والإستِدلالِ، فالبَرهَنَةُ والإستِدلالُ والإستِنباطُ أوسَعُ مِنْ أنْ تُحصَرَ في الحَواسِّ الخَمسَةِ، فالعّقلُ يَستَعينُ بالحَواسِّ لِلكَشفِ عَنْ ما هُوَ حِسِّيٌّ أمّا ما لَيسَ بِحِسِّيٍّ فإنَّ العَقلَ يَتعرَّفُ عَليهِ مِنْ خِلالِ القَواعِدِ المَعمولِ بِها في التَّفكيرِ والإستِنباطِ، وقَد فُصِّلَ هذا الأَمرُ في البُحوثِ المُتعلِّقَةِ بِنظريَّةِ المَعرِفَةِ. 

_________________

  (1) فتحُ الباري، في شَرحِ صَحيحِ البخاري ج13 ص371. 

  (2) الفرقُ بين الفِرق ص5.