الغَيْبُ بَيْنَ الحَوَاسِّ وَالوِجْدَانِ.

خَلِيلٌ كَامِلٌ/ الأَرْدُن:/ الغَيْبِيَّاتُ مُجَرَّدُ أَوْهَامٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا.

: اللجنة العلمية

     سَمِيُّ الغَيْبُ غَيْبَاً لِأَنَّهُ غَائِبٌ عَنْ حَوَاسِّ الإِنْسَانِ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ غَائِبًا عَنْ شُعُورِهِ وَإِحْسَاسِهِ بِهِ، لِأَنَّ الشُّعُورَ بِالمُقَدَّسِ مَلَكَةٌ رُوحِيَّةٌ أَوْ مُكَوِّنٌ أَسَاسِيٌّ مِنْ مُكَوِّنَاتِ الوَعْيِ البَشَرِيِّ، كَمَا أَنَّهُ فِي الوَقْتِ ذَاتِهِ مُكَوِّنٌ أَسَاسِيٌّ مِنْ مُكَوِّنَاتِ الدِّينِ.

     فَالحَقَائِقُ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:

     الأَوَّلُ: الشُّهُودُ; وَهُوَ مَا نَشْهَدُهُ وَنُدْرِكُهُ بِحَوَاسِّنَا الخَمْسَةِ.

     وَالثَّانِي: الغَيْبُ; وَهُوَ الحَقَائِقُ المَوْجُودَةُ خَارِجَ إِطَارِ الحَوَاسِّ وَالمَادَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ نَجِدُهُ حَاضِرًا فِي وِجْدَانِ كُلِّ إِنْسَانٍ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الَّذِي يُحَاوِلُ مَعْرِفَةَ الغَيْبِ بِالحَوَاسِّ لَا يُمْكِنُهُ مَعْرِفَتُهُ، وَإِذَا افْتَرَضْنَا إِمْكَانِيَّةَ ذَلِكَ لَكَانَ الغَيْبُ شُهُودًا وَلَيْسَ غَيْبَاً، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الغَيْبَ المُدْرَكَ بِالحَوَاسِّ مُجَرَّدُ وَهْمٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، أَمَّا الغَيْبُ الَّذِي يُمَثِّلُ تَطَلُّعَ الإِنْسَانِ إِلَى المُقَدَّسِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ مَاثِلَةٌ أَمَامَ نَاظِرِي كُلِّ إِنْسَانٍ.

    إِنَّ تَفْسِيرَ الكَوْنِ وَالإِنْسَانِ بِرُؤْيَةٍ تَجْرِيبِيَّةٍ أُحَادِيَّةٍ نَوْعٌ مِنْ الإِفْرَاطِ، يُؤَدِّي إِلَى تَفْرِيطٍ فِي جَانِبٍ آخَرَ تَضِيعُ مَعَهُ الكَثِيرُ مِنْ الحَقَائِقِ.

     فَهَلْ كُلُّ الظَّوَاهِرِ وَبِخَاصَّةٍ الإِنْسَانِيَّةُ مِنْهَا خَاضِعَةً لِلتَّجْرِبَةِ؟

     أَلَمْ يَعْجَزْ العِلْمُ بِالفِعْلِ أَمَامَ كَثِيرٍ مِنْ الظَّوَاهِرِ الإِنْسَانِيَّةِ؟

     فَمِنْ الضَّرُورِيِّ فَتْحُ مَسَارِ العِلْمِ أَمَامَ العَقْلِ التَّحْلِيلِيِّ وَالتَّأَمُّلِيِّ، فَمَظَاهِرُ الحَيَاةِ وَالوُجُودِ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ تُحِيطَ بِهَا مُخْتَبِرَاتُ التَّجْرِبَةِ، وَالأَدْيَانُ وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ البَعْضِ تُعَدُّ مُقَارَبَاتٍ فَوْقِيَّةً إِلَّا أَنَّهَا أَيْضًا تُمَثِّلُ حَاجَةً أَصِيلَةً لِلإِنْسَانِ لَا يَصِحُّ إِهْمَالُهَا بِالمَرَّةِ، وَالقَوَانِينُ الحَتْمِيَّةُ الَّتِي اعْتَمَدَهَا رِجَالُ العِلْمِ تُغَطِّي بَعْضَ الجَوَانِبِ، وَتَبْقَى كَثِيرٌ مِنْ الجَوَانِبِ تَتَحَكَّمُ فِيهَا الإِحْتِمَالِيَّةُ، الأَمْرُ الَّذِي يُمْكِنُ فَهْمُهُ فِي إِطَارِ وُجُودِ قُوَّةٍ خَارِجَ الطَّبِيعَةِ لَهَا إِرَادَةٌ وَتَدَخُّلٌ، فَالعِلْمُ "مُنْذُ صَدْرِ القَرْنِ العِشْرِينَ بَدَأَ يَرَى أَنَّ الحَتْمِيَّةَ غَيْرُ ضَرُورِيَّةٍ، وَأَنَّ القَانُونَ الَّذِي يَحْكُمُ العَالَمَ هُوَ قَانُونُ الإِحْتِمَالَاتِ، وَبِذَلِكَ انْفَسَحَ المَجَالُ لِلقَوْلِ بِقُوَّةٍ عُلْيَا تُسَيِّرُ العَالَمَ خَارِجَ نَفْسِهِ"(1).

     وَالتَّرْكِيزُ عَلَى الجَانِبِ المَادِّيِّ دُونَ المَعْنَوِيِّ فِيهِ ضَيَاعٌ لِإِنْسَانِيَّةِ الإِنْسَانِ; لِأَنَّ الإِنْسَانَ لَيْسَ مَادَّةً فَقَطْ وَإِنَّمَا هُوَ رُوحٌ أَيْضًا، وَقِيمَةُ الإِنْسَانِ بِالقِيَمِ الَّتِي تَتَحَلَّى بِهَا رُوحُهُ وَتَسْمَى بِهَا نَفْسُهُ، وَبِالتَّالِي لَا يُمْكِنُ الكَلَامُ عَنْ قِيَمٍ مُثْلَى فِي حَيَاةِ الإِنْسَانِ مَعَ إِهْمَالِ الكَلَامِ عَنْ الرُّوحِ، وَلَا يُمْكِنُ الكَلَامُ عَنْ الرُّوحِ مَعَ إِهْمَالِ الكَلَامِ عَنْ الغَيْبِ، وَمِنْ هُنَا لَا يُمْكِنُ قَبُولُ أَيِّ تَصَوُّرٍ ثَقَافِيٍّ يُهْمِلُ رُوحَ الإِنْسَانِ لِصَالِحِ البَدَنِ; لِأَنَّهُ تَصَوُّرٌ نَاقِصٌ لَا يُعَبِّرُ عَنْ حَقِيقَةِ الإِنْسَانِ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّا دِينَ ثَقَافَةٌ نَاقِصَةٌ اهْتَمَّتْ بِالجَسَدِ عَلَى حِسَابِ الرُّوحِ.

     وَالرُّوحُ كَحَقِيقَةٍ أَصِيلَةٍ فِي الإِنْسَانِ هِيَ الَّتِي تَعْشَقُ الكَمَالَ وَتَسْمُو إِلَيْهِ، فَكَمَالُ الرُّوحِ فِي العِلْمِ، وَالمَعْرَفَةِ، وَالحُرِّيَّةِ، وَالكَرَامَةِ، وَالعِزَّةِ، وَالشَّرَفِ، وَكُلِّ الفَضَائِلِ وَالقِيَمِ، أَمَّا البَدَنُ فَكُلُّ مَا يَحْتَاجُهُ هُوَ المَأْكَلُ، وَالمَشْرَبُ، وَالمَسْكَنُ، وَمَا يُحَافِظُ عَلَى وُجُودِهِ وَبَقَائِهِ وَاسْتِمْرَارِيَّتِهِ.

     وَإِذَا كَانَتْ المَادَّةُ وَالحَيَاةُ الدُّنْيَا هِيَ الَّتِي تُوَفِّرُ لِلبَدَنِ مَا يَحْتَاجُهُ، وَقَدْ وَفَّرَتْ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى عِنْدَمَا كَانَ الإِنْسَانُ بِدَائِيًّا لَا يَمْتَازُ كَثِيرًا عَنْ الحَيَوَانِ، فَمِنْ أَيْنَ يُمْكِنُ أَنْ تَجِدَ الرُّوحُ هَذِهِ القِيَمَ؟

     فَلَوْ اعْتَبَرَنَا مَثَلًا قِيمَةَ العِلْمِ وَالقُدْرَةِ مِنْ القِيَمِ الَّتِي يَسْتَمِدُّهَا الإِنْسَانُ مِنْ المَادَّةِ، إِذًا لِتَحَوَّلَ عِلْمُهُ جَهْلًا وَقُدْرَتُهُ عَجْزًا; لِأَنَّ المَادَّةَ جَاهِلَةٌ وَعَاجِزَةٌ وَفَقِيرَةٌ، وَفَاقِدُ الشَيْءِ لَا يُعْطِيهِ كَمَا قِيلَ.

     وَإِنْ كَانَ الإِنْسَانُ مَفْطُورًا بِطَبْعِهِ عَلَى حُبِّ الكَمَالِ وَالجَمَالِ وَيَعْشَقُ القِيَمَ وَالمِثَالَ، فَإِنَّ الفِطْرَةَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ هِيَ ذَاتُهَا دَالَّةٌ عَلَى اللهِ المَالِكِ لِهَذَا الكَمَالِ، فَالقَوْلُ إِنَّ الإِنْسَانَ مَفْطُورٌ عَلَى حُبِّ الكَمَالِ مُسَاوٍ لِلقَوْلِ إِنَّ الإِنْسَانَ مَفْطُورٌ عَلَى حُبِّ اللهِ مَصْدَرِ ذَلِكَ الكَمَالِ.

     صَحِيحٌ أَنَّ هَذِهِ القِيَمَ وُجِدَتْ مَعَ الإِنْسَانِ، إِلَّا أَنَّهَا فِي حَاجَةٍ دَائِمَةٍ إِلَى الكَمَالِ، وَهَذَا مَا يُفَسِّرُ سَعْيَ الإِنْسَانِ الحَثِيثَ لِكَسْبِ المَزِيدِ، فَمِنْ أَيْنَ عَرَفَ هَذَا الإِنْسَانُ المَحْبُوسُ بِجُدْرَانِ المَادَّةِ أَنَّ هَذِهِ القِيَمَ حَقَائِقُ كَامِلَةٌ وَمُطْلَقَةٌ؟

    وَمِنْ الوَاضِحِ أَنَّ الإِطْلَاقَ صِفَةٌ لَا وُجُودَ لَهَا فِي المَادَّةِ النَّاقِصَةِ وَالمَحْدُودَةِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ لِزَامًا عَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَتَحَرَّرَ مِنْ سِجْنِ المَادَّةِ، وَيُحَلِّقَ بِرُوحِهِ بَعِيدًا بَحْثًا عَنْ اللهِ المُطْلَقِ فِي كَمَالِهِ وَجَمَالِهِ.

     وَبِذَلِكَ يُمْكِنُنَا الجَزْمُ بِأَنَّ هُنَاكَ إِلَهًا فِي وِجْدَانِ كُلِّ إِنْسَانٍ يُمَثِّلُ مُطْلَقَ الكَمَالِ وَالجَمَالِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا تَطَلَّعَ الإِنْسَانُ وَتَسَامَى بِرُوحِهِ لِذَلِكَ الكَمَالِ، وَاللهُ هُوَ الَّذِي تَجَلَّى بِأَسْمَائِهِ الحُسْنَى فِي هَذَا الوُجُودِ، وَكُلَّمَا تَفَكَّرَ الإِنْسَانُ وَجَدَ جَمَالَهُ وَكَمَالَهُ ظَاهِرًا فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْ زَاوِيَةِ وُجُودِهِ وَحَيَاتِهِ، فَكُلُّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الحُسْنَى هِيَ فِي الوَاقِعِ قِيمَةٌ كَمَالِيَّةٌ لِلإِنْسَانِ.

     فَالَّذِي يَكْسِبُ جَسَدَهُ عَلَى حِسَابِ رُوحِهِ حَتْمًا ضَاعَتْ مِنْهُ إِنْسَانِيَّتُهُ، وَبِالتَّالِي الكُفْرُ بِاللهِ هُوَ كُفْرٌ بِإِنْسَانِيَّةِ الإِنْسَانِ.

     وَعَلَيْهِ عِنْدَمَا نَبْحَثُ عَنْ الغَيْبِ لَا نَبْحَثُ عَنْهُ كَمَا نَبْحَثُ عَنْ مَوْضُوعٍ قَابِلٍ لِلفَحْصِ وَالتَّشْرِيحِ; لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ نِطَاقِ الإِحَاطَةِ الحِسِّيَّةِ، وَإِنَّمَا نَبْحَثُ عَنْ الغَيْبِ بِوَصْفِهِ انْعِكَاسًا عَلَى الفَرْدِ وَالمُجْتَمَعِ، وَمَنْ يَرْفُضُ وُجُودَ الغَيْبِ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ تَبْرِيرًا عِلْمِيًّا وَمُخْتَبَرِيًّا يَكْشِفُ فِيهِ السِّرَّ وَرَاءَ وُجُودِ هَذِهِ القِيَمِ وَالمُثُلِ العُلْيَا، وَكَيْفَ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ وَهُوَ لَا يُؤْمِنُ بِالغَيْبِ؟ وَنَحْنُ لَا نَجِدُ تَفْسِيرًا لِهَذِهِ القِيَمِ إِلَّا إِذَا تَمَّ رَبْطُهَا بِالغَيْبِ; فَمَحْدُودِيَّةُ الإِنْسَانِ تَفْرِضُ عَلَيْهِ عَدَمَ الإِيمَانِ بِالإِطْلَاقِيَّةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا هَذِهِ القِيَمُ، فَمَثَلًا: العِلْمُ كَحَقِيقَةٍ مُطْلَقَةٍ، أَوْ العَدْلُ، أَوْ القُدْرَةُ، أَوْ الرَّحْمَةُ، وَغَيْرُهَا مِنْ قِيَمِ الكَمَالِ، تَتَضَمَّنُ إِطْلَاقًا لَا يَجِدُهُ الإِنْسَانُ فِي عَالَمِ المَادَّةِ وَلَا يَلْمَسُهُ فِي وَاقِعِ الشُّهُودِ، وَفِي الوَقْتِ نَفْسِهِ يُؤْمِنُ بِاللَّا مَحْدُودِيَّةِ لِهَذِهِ القِيَمِ، فَلَا يَفْهَمُ الإِنْسَانُ هَذَا الإِطْلَاقَ إِلَّا إِذَا تَعَلَّقَ بِاللهِ وَآمَنَ بِهِ، فَارْتِبَاطُ هَذِهِ القِيَمِ بِاللهِ عَبْرَ أَسْمَائِهِ الحُسْنَى يَجْعَلُ المَعْرِفَةَ الإِنْسَانِيَّةَ لَا تَكْتَمِلُ إِلَّا بِاللهِ.

     وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الغَيْبَ حَقِيقَةٌ لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهَا، كَمَا أَنَّهُ حَاجَةٌ لِلإِنْسَانِ لَا تَسْتَقِيمُ حَيَاتُهُ إِلَّا بِالإِيمَانِ بِهِ.

_____________

  1- العلم والدين في الفلسفة المعصرة، إميل بوترو، ترجمة احمد فواد الاهواني، الهيئة المصرية العامة للكتب 1973م، ص 4