العِلَاقَةُ بَيْنَ الدِّينِ وَالعَقْلِ وَالعِلْمِ.

لَيْثٌ لَفِيفٌ /فِلَسْطِينُ/: فِي الوَاقِعِ أَنَّ الدِّينَ ضِدَّ العَقْلِ وَالتَّقَدُّمِ العِلْمِيِّ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؟

: اللجنة العلمية

     الكَثِيرُ مِنَ الفَلَاسِفَةِ وَالمُفَكِّرِينَ اعْتَبَرُوا الدِّينَ حَالَةً غَيْرَ عَقْلِيَّةٍ، حَيْثُ يَبْدَأُ الدِّينُ بِالتَّشَكُّلِ مِنَ النُّقْطَةِ الَّتِي يَنْتَهِي عِنْدَهَا العَقْلُ، وَتُؤَيِّدُ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ التَّوَجُّهَاتُ الإِلْحَادِيَّةُ الَّتِي تَصِفُ الدِّينَ بِكَوْنِهِ مُجَرَّدَ خُرَافَةٍ.

     وَالتَّفْكِيكُ بَيْنَ الدِّينِ وَالعَقْلِ لَا يَرْتَكِزُ عَلَى ضَرُورَةٍ عَقْلِيَّةٍ وَاضِحَةٍ، وَكُلُّ التَّبْرِيرَاتِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُسَاقَ مُتَأَثِّرَةٌ بِالبِيئَةِ الثَّقَافِيَّةِ الَّتِي انْطَلَقَ مِنْهَا الفَيْلَسُوفُ الغَرْبِيُّ عِنْدَ مُقَارَبَتِهِ لِلدِّينِ، فَالظَّرْفُ الَّذِي تَوَلَّدَتْ فِيهِ هَذِهِ الفِكْرَةُ كَانَ ظَرْفًا خَاصًّا تَشْهَدُ فِيهِ أَوْرُبَّا وِلَادَةً جَدِيدَةً، وَفِي المُقَابِلِ مَوْقِفُ الكَنِيسَةِ الَّذِي كَانَ مُنَاهِضًا لِهَذَا المَشْرُوعِ، فَكُلُّ ذَلِكَ وَلَّدَ تَيَّارًا مُعَارِضًا لِلدِّينِ فِي أَوْسَاطِ العُلَمَاءِ وَالمُفَكِّرِينَ، فَمِنَ الطَّبِيعِيِّ أَنْ لَا تَكُونَ مُقَارَبَاتُهُمْ لِلدِّينِ إِيجَابِيَّةً فِي ظِلِّ تَعَنُّتِ وَتَحَجُّرِ الكَنِيسَةِ، فَكَانَ مَشْرُوعُهُمْ الثَّقَافِيُّ هُوَ زَعْزَعَةَ الثِّقَةِ فِي الكَنِيسَةِ وَفِي اللهِ وَفِي الدِّينِ بِشَكْلٍ عَامٍّ، وَمِنْ هُنَا كَانَ الفَصْلُ بَيْنَ الدِّينِ الكَنَسِيِّ المُتَحَجِّرِ، وَبَيْنَ العِلْمِ وَالعَقْلِ خُطْوَةً ضَرُورِيَّةً تُعَبِّرُ عَنْ تِلْكَ المَرْحَلَةِ.

     أَمَّا تَأْسِيسُ رُؤْيَةٍ سَلْبِيَّةٍ تَتَّسِمُ بِالثَّبَاتِ وَالدَّيْمُومَةِ اتِّجَاهَ كُلِّ الأَدْيَانِ، أَقَلُّ مَا يُقَالُ عَنْهَا بِأَنَّهَا غَيْرُ عِلْمِيَّةٍ وَتَفْتَقِدُ لِأَهَمِّ الشُّرُوطِ المَوْضُوعِيَّةِ، فَاخْتِلَافُ الظَّرْفِ وَاخْتِلَافُ الدِّينِ يُحَفِّزُ العَقْلَ الفَلْسَفِيَّ لِلقِيَامِ بِمُقَارَبَاتٍ جَدِيدَةٍ، وَلَا يَكْتَفِي بِمُقَارَبَاتٍ سَابِقَةٍ لَهَا ظَرْفُهَا الثَّقَافِيُّ وَالنَّفْسِيُّ الخَاصُّ، وَلِذَلِكَ لَيْسَ مِنَ العَقْلِ فِي شَيْءٍ تَعْمِيمُ مُقَارَباتِ فَلَاسِفَةِ عَصْرِ النَّهْضَةِ فِيمَا يَخُصُّ الأَدْيَانَ، وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا كَحَقِيقَةٍ جَازِمَةٍ غَيْرِ قَابِلَةٍ لِلنِّقَاشِ، وَمِنْ هُنَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُشِيرَ إِلَى الخَطَأِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ بَعْضُ المُفَكِّرِينَ العَرَبِ حِينَمَا أَسْقَطُوا تِلْكَ النَّتَائِجَ عَلَى الدِّينِ الإِسْلَامِيِّ.

     لَا يُمْكِنُ التَّسْلِيمُ بِوُجُودِ تَعَارُضٍ بَيْنَ الدِّينِ وَالعَقْلِ; لِأَنَّ الدِّينَ لَيْسَ إِلَّا خِطَابٌ لِلإِنْسَانِ بِوَصْفِهِ عَاقِلًا، وَبِالتَّالِي هُوَ خِطَابٌ خَاصٌّ لِلعَقْلِ لَيْسَ إِلَّا، وَمَعَ ذَلِكَ لَا نَمْنَعُ مِنْ حُدُوثِ هَذَا التَّعَارُضِ بَيْنَ أَفْهَامِ النَّاسِ لِلدِّينِ وَبَيْنَ العَقْلِ، بَلْ مِنَ الطَّبِيعِيِّ حُدُوثُ مِثْلِ هَذَا التَّعَارُضِ، لِأَنَّ مَسْؤُولِيَّةَ الفَهْمِ عِنْدَ الإِنْسَانِ لَيْسَتْ مَسْؤُولِيَّةً عَقْلِيَّةً مُجَرَّدَةً، وَإِنَّمَا تَتَدَاخَلُ عَوَامِلُ كَثِيرَةٌ فِي عَمَلِيَّةِ الفَهْمِ عِنْدَ الإِنْسَانِ، فَالمَصَالِحُ وَالأَهْوَاءُ وَالشَّهَوَاتُ وَغَيْرُهَا لَهَا القُدْرَةُ عَلَى مُقَارَبَةِ الأَشْيَاءِ بِالشَّكْلِ الَّذِي يُخَالِفُ الوَاقِعَ، هَذَا مُضَافًا لِلأَخْطَاءِ الَّتِي تَنْشَأُ مِنَ الطُّرُقِ وَالمَنْهَجِيَّاتِ الَّتِي تُقَدِّمُ الأَشْيَاءَ لِلعَقْلِ بِصُورَةٍ غَيْرِ مُكْتَمِلَةٍ أَوْ مَغْلُوطَةٍ، فَيَحْكُمُ العَقْلُ بِنَاءً عَلَى مَا قُدِّمَ لَهُ مِنْ مُعْطَيَاتِ الخَارِجِ، فَلَيْسَتْ مُشْكِلَةُ المَعْرِفَةِ عَقْلِيَّةً، وَإِنَّمَا نَفْسِيَّةٌ وَمَنْهَجِيَّةٌ مَعًا.

    كَمَا يَجِبُ الإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ العَقْلَ الَّذِي أُرِيدَ لَهُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَارِضًا مَعَ الدِّينِ، هُوَ العَقْلُ الوَضْعِيُّ أَوْ العَقْلُ التَّجْرِيبِيُّ; وَبِمَا أَنَّ الدِّينَ فِي أُصُولِهِ العَقَائِدِيَّةِ يَرْتَكِزُ عَلَى حَقِيقَةٍ غَيْبِيَّةٍ فَمِنَ الطَّبِيعِيِّ أَنْ لَا يَكُونَ خَاضِعًا لِلعَقْلِ التَّجْرِيبِيِّ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ لَمْ تَكُنْ مُجْحِفَةً فِي حَقِّ الدِّينِ فَقَطْ وَإِنَّمَا أَجْحَفَتْ فِي حَقِّ العَقْلِ أَيْضًا عِنْدَمَا اخْتَصَرَتْ دَوْرَهُ فِي حُدُودِ التَّجْرِبَةِ; فَالعَقْلُ كَمَا لَهُ القُدْرَةُ عَلَى الإِحَاطَةِ عِلْمًا بِمَا هُوَ حِسِّيٌّ وَشُهُودِيٌّ، لَهُ القُدْرَةُ أَيْضًا عَلَى العُبُورِ مِنَ الشُّهُودِ إِلَى الغَيْبِ، وَإِذَا كَانَ العَقْلُ فِي مَا هُوَ مَادَّةٌ يَحْتَاجُ إِلَى التَّجْرِبَةِ وَالمُخْتَبَرِ، فَهُوَ فِي مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ حُدُودِ المَادَّةِ يَحْتَاجُ إِلَى البَرْهَنَةِ وَالإِسْتِنْتَاجِ وَالإِسْتِنْبَاطِ، وَالعَقْلُ الَّذِي يَثِقُ فِي نَتِيجَةِ التَّجْرِبَةِ إِذَا اكْتَمَلَتْ شُرُوطُهَا الطَّبِيعِيَّةُ، هُوَ ذَاتُهُ العَقْلُ الَّذِي يَثِقُ فِي الإِسْتِنْبَاطِ وَالإِسْتِنْتَاجِ وَالبَرْهَنَةِ إِذَا اكْتَمَلَتْ شُرُوطُهَا العُقَلَائِيَّةُ، وَإِذَا كَانَ نِظَامُ التَّصْدِيقِ بِالحَقِيقَةِ فِي الأُمُورِ الحِسِّيَّةِ هُوَ المُطَابَقَةُ مَعَ الوَاقِعِ، فَإِنَّ نِظَامَ التَّصْدِيقِ بِالحَقِيقَةِ الغَيْرِ حِسِّيَّةٍ، هُوَ مُطَابَقَتُهَا مَعَ مَا أَوْدَعَهُ اللهُ فِي فِطْرَةِ الإِنْسَانِ مِنْ حَقَائِقَ; وَهَذِهِ الحَقَائِقُ الفِطْرِيَّةُ لَهَا مِنَ الوُضُوحِ وَالظُّهُورِ أَكْثَرُ مِمَّا لِلحِسِّ مِنْ ظُهُورٍ، فَالبَدِيهِيَّاتُ الَّتِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا العَقْلُ التَّجْرِيبِيُّ أَكْثَرُ ظُهُورًا مِنَ التَّجْرِبَةِ نَفْسِهَا، وَإِذَا اعْتَرَفَ الإِنْسَانُ بِهَذِهِ البَدِيهِيَّاتِ فَمِنَ السَّهْلِ عَلَيْهِ الإِعْتِرَافُ بِوُجُودِ حَقَائِقَ فِطْرِيَّةٍ تُمَثِّلُ أُصُولَ الغَيْبِ فِي نَفْسِ الإِنْسَانِ. "فَهَلْ هُنَاكَ بُنْيَةٌ ذِهْنِيَّةٌ تَزْرَعُ فِي العَالَمِ شُعُورَ الإِنْسَانِ بِاللَّامَحْدُودِ وَاللَّانِهَائِيِّ وَالكُلِّيِّ القُدْرَةِ وَالعَظِيمِ وَالمَرْهُوبِ، وَتَجْعَلُ هَذِهِ كُلَّهَا شُعُورًا غَامِضًا بِالقَدَاسَةِ؟ رُبَّمَا تُوجَدُ مِثْلُ هَذِهِ البُنْيَةِ فِي العَوَاطِفِ الإِنْسَانِيَّةِ، لِمَ لَا؟! الوَاضِحُ أَنَّ افْتِرَاضَ وُجُودِهَا يُفَسِّرُالكَثِيرَ"(1).  وَمِنْ هُنَا كَانَ تَحْجِيمُ العَقْلِ فِي إِطَارٍ ضَيِّقٍ هُوَ الَّذِي يُوْحِي بِحَتْمِيَّةِ التَّعَارُضِ بَيْنَ الدِّينِ وَالعَقْلِ، وَلَوْلَا هَذَا التَّكَامُلُ بَيْنَ العَقْلِ وَالدِّينِ لِمَا أَمْكَنَ أَبَدًا تَصْدِيقُ الأَنْبِيَاءِ فِيمَا يَدَّعُونَ.

     وَالمُقَارَبَةُ المَتَفَهِّمَةُ لِلعِلَاقَةِ الجَدَلِيَّةِ بَيْنَ الرُّوحِ وَالبَدَنِ فِي الإِنْسَانِ، هِيَ ذَاتُهَا المُقَارَبَةُ الَّتِي تَتَفَهَّمُ جَدَلِيَّةَ العِلَاقَةِ بَيْنَ الدِّينِ وَالعِلْمِ، فَمَا يُحَقِّقُهُ العِلْمُ لِلإِنْسَانِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُحَقِّقَهُ الأَدْيَانُ، وَالعَكْسُ صَحِيحٌ، لَيْسَ لِأَنَّ العِلْمَ وَالدِّينَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا لِأَنَّ كِلَيْهِمَا يَخْدُمَانِ الإِنْسَانَ المُرَكَّبَ مِنْ رُوحٍ وَمَادَّةٍ، فَمُحَاكَمَةُ الأَدْيَانِ بِآلِيَّاتِ العِلْمِ، أَوْ مُحَاكَمَةُ العِلْمِ بِأَدَوَاتِ الأَدْيَانِ، هُوَ الَّذِي يُحْدِثُ ذَلِكَ التَّبَايُنَ بَيْنَهُمَا.

     وَمِنْ هُنَا كَانَتِ المُقَارَبَةُ المَطْلُوبَةُ هِيَ الَّتِي تَرْسُمُ نِقَاطَ الإِلْتِقَاءِ بَيْنَ الدِّينِ وَالعِلْمِ، وَلَا يَتمُّ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ جَعْلِ مَقُولَاتِ الدِّينِ مَقُولَاتٍ مَعْرِفِيَّةً عَقْلِيَّةً، وَإِنَّمَا بِجَعْلِ غَايَاتِ العِلْمِ أَيْضًا غَايَاتٍ دِينِيَّةً، وَالَّذِي يُمَيِّزُ الدِّينِيَّ عَنِ اللَّا دِينِيِّ لَيْسَ مُجَرَّدَ نِسْبَتِهِ إِلَى المُقَدَّسِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُمَيِّزُهُ كَوْنُهُ قِيمَةً أَوْ لَيْسَ بِقِيمَةٍ، وَالمُقَدَّسُ نَفْسُهُ لَا يَكُونُ مُقَدَّسًا إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا يَحْمِلُهُ مِنْ قِيَمٍ، وَالإِنْسَانُ لَمْ يَتَطَلَّعْ إِلَى الغَيْبِ إِلَّا لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا يَسْتَلْهِمُ مِنْهُ قِيَمَ الحَقِّ وَالجَمَالِ، فَقِيمَةُ العُلُومِ بِمَا تَحْمِلُهُ مِنْ قِيَمٍ وَمَكَاسِبَ حَيَاتِيَّةٍ لِلإِنْسَانِ، وَقِيمَةُ الدِّينِ فِي دَعْوَتِهِ لِتِلْكَ القِيَمِ.

وَالَّذِي يَحْكُمُ كُلَّ هَذِهِ المُعَادَلَةِ هُوَ الإِنْسَانُ بِوَصْفِهِ مِحْوَرًا لِلدِّينِ وَمِحْوَرًا لِلعُلُومِ أَيْضًا، وَأَهَمِّيَّةُ الدِّينِ تَعَوُّدُ إِلَى تَذْكِيرِ الإِنْسَانِ بِالقِيَمِ الَّتِي تَجْعَلُ مِنْهُ كَائِنًا لَهُ قِيمَةٌ، وَمِنْ نَفْسِ هَذِه الزَّاوِيَةِ يَكُونُ الدِّينُ مُهِمًّا فِي مَجَالِ تَطَوُّرِ العُلُومِ لِأَنَّهُ يُشَكِّلُ الضَّمَانَةَ الأَخْلَاقِيَّةَ لِذَلِكَ التَّطَوُّرِ، وَهَكَذَا تَكُونُ اللَّحْظَةُ الَّتِي نَتَسَاءَلُ فِيهَا عَنْ أَهْدَافِ العُلُومِ وَغَايَاتِهِ هِيَ اللَّحْظَةُ الَّتِي تُقَرِّبُنَا مِنَ الدِّينِ، وَاللَّحْظَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الإِنْسَانُ مُتَدَيِّنًا يَكُونُ فِيهَا قَرِيبًا مِنَ الحَيَاةِ; لِأَنَّ القِيَمَ لَا يَكُونُ لَهَا مَعْنًى إِلَّا مِنْ خِلَالِ تَفَاعُلِهَا مَعَ الوَاقِعِ الحَيَاتِيِّ لِلإِنْسَانِ.

     فَالنَّظَرُ إِلَى الدِّينِ بِوَصْفِهِ قِيَمًا يَنْتَهِي إِلَى العِلْمِ، لِأَنَّ القِيَمَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَرْتَبِطَ بِالوَاقِعِ إِلَّا إِذَا اسْتَعَانَتْ بِالعُلُومِ، وَالنَّظَرُ إِلَى العُلُومِ بِوَصْفِهَا قِيَمًا يُقَرِّبُهَا مِنَ الدِّينِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَكُونُ مَفْهُومًا إِذَا كَانَ هَدَفُ الأَدْيَانِ هُوَ إِعْمَارُ الحَيَاةِ وَتَطْوِيرُ الإِنْسَانِ فِي إِطَارِ القِيَمِ، كَمَا هُوَ حَالُ الإِسْلَامِ الَّذِي أَكَّدَ عَلَى ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ عِنْدَمَا يَدْعُو إِلَى الحَيَاةِ وَإِلَى العِلْمِ وَإِلَى التَّعَقُّلِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً﴾. وَقَالَ: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾. وَقَالَ: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾.

     فَالدِّينُ هُوَ الَّذِي يُعَزِّزُ مَسِيرَةَ العِلْمِ، وَالعِلْمُ هُوَ الَّذِي يُعَزِّزُ مَسِيرَةَ الإِنْسَانِ، وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ الدِّينَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ نَفْهَمَهُ لاَبُدَّ أَنْ يَكُونَ إِطَارًا تَنْتَظِمُ فِيهِ كُلُّ قِيَمِ الكَمَالِ وَالجَمَالِ، كَمَا أَنَّ العُلُومَ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَسُودَ هِيَ العُلُومُ الَّتِي تُرَاعِي تِلْكَ القِيَمَ، وَإِلَّا أَصْبَحَ ضَرَرُهُ أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهِ كَمَا هُوَ وَاقِعُ الحَالِ اليَوْمَ.

     يَقُولُ أينشتين: "لَا أَتَصَوَّرُ العِلْمَ دُونَ إِيمَانٍ عَمِيقٍ، وَيُمْكِنُ تَشْبِيهُ المَوْقِفِ بِصُورَةٍ مُجَسَّدَةٍ :العِلْمُ دُونَ الدِّينِ أَعْرَجُ، وَالدَّينُ دُونَ العِلْمِ أَعْمَى"(2).

     يَقُولُ البِرُوفِيسُورُ هوستن سميث أُسْتَاذُ الفَلْسَفَةِ وَعُلُومِ الأَدْيَانِ فِي العَدِيدِ مِنَ الجَامِعَاتِ الأَمْرِيكِيَّةِ:" تَعُودُ أَسْبَابُ الأَزْمَةِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا العَالَمُ وَهُوَ يَدْخُلُ الأَلْفِيَّةَ الجَدِيدَةَ إِلَى أُمُورٍ أَعْمَقَ مِنْ طُرُقِ تَنْظِيمِ الحَيَاةِ السِّيَاسِيَّةِ وَالإِقْتِصَادِيَّةِ. إِنَّ الشَّرْقَ وَالغَرْبَ يُعَانِيَانِ - كُلٌّ بِطَرِيقَتِهِ - مِنْ أَزْمَةٍ وَاحِدَةٍ مُشْتَرَكَةٍ سَبَبُهَا الحَالَةُ الرُّوحِيَّةُ لِلعَالَمِ الحَدِيثِ، فَقَدْ اتَّسَمَتْ هَذِهِ الحَالَةُ الرُّوحِيَّةُ بِفِقْدَانِ اليَقِينِ الدِّينِيِّ وَفِقْدَانِ الإِيمَانِ بِالسُّمُوِّ وَالتَّعَالِي عَلَى الوُجُودِ المَادِّيِّ بِآفَاقِهِ الرَّحْبَةِ الوَاسِعَةِ، وَطَبِيعَةُ هَذَا الفِقْدَانِ غَرِيبَةٌ، لَكِنَّهَا - فِي النِّهَايَةِ - مَنْطِقِيَّةٌ وَمُتَوَقَّعَةٌ، مَعَ تَدْشِينِ عَصْرِ النَّظْرَةِ العِلْمِيَّةِ البَحْتَةِ، وَبَدَأَ إِحْسَاسُ البَشَرِ بِأَنَّهُمْ أَصْبَحُوا يَمْتَلِكُونَ أَسْمَى المَعَانِي فِي العَالَمِ وَيَعْرِفُونَ مَقَايِيسَ وَمَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ، بَدَأَتِ المَعَانِي فِي الإِنْحِسَارِ، وَأَخَذَتْ مَكَانَةُ الإِنْسَانِيَّةِ تَتَضَاءَلُ، لَقَدْ فَقَدَ العَالَمُ بُعْدَهُ الإِنْسَانِيَّ وَبَدَأْنَا نَفْقِدُ السَّيْطَرَةَ عَلَيْهِ"(3).

     وَمَا يَحْتَوِيهِ هَذَا الطَّرْحُ مِنْ تَبْسِيطٍ لَا يَتَجَاهَلُ حَجْمَ التَّعْقِيدِ الَّذِي يَكْتَنِفُهُ المَوْضُوعُ، إِلَّا أَنَّهُ تَبْسِيطٌ يُعِيدُ القَضَايَا لِحَجْمِهَا الطَّبِيعِيِّ، بَعِيدًا عَنِ المُحِيطِ الثَّقَافِيِّ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ التَّبَايُنُ وَالجِدَالُ بَيْنَ العِلْمِ وَالدِّينِ، وَهَذَا الجَدَلُ التَّارِيخِيُّ مَرَّ بِمَحَطَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَضَافَتْ تَعْقِيدَاتِهَا الخَاصَّةَ، فَطَبِيعَةُ هَذَا النِّقَاشِ قَبْلَ عَصْرِ النَّهْضَةِ تَخْتَلِفُ عَنْ مَا بَعْدَهَا، وَهِيَ بِدَوْرِهَا تَخْتَلِفُ عَنْ مَا بَعْدَ الحَدَاثَةِ، وَيَخْتَلِفُ كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا عَلَيْهِ الوَضْعُ فِي عَالَمِنَا الإِسْلَامِيِّ، وَالتَّفْكِيرُ فِي عِلَاقَةِ العِلْمِ بِالدِّينِ بَعِيدًا عَنْ كُلِّ هَذِهِ الظُّرُوفِ يَقُودُنَا إِلَى تَكَامُلِيَّةٍ فِي الْفَهْمِ يَكُونُ فِيهَا الدِّينُ وَالعِلْمُ الجَنَاحَيْنِ الَّتِي يُحَلِّقُ بِهِمَا الإِنْسَانُ.

     وَعَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ نَتَصَوَّرَ أَنَّ حَيَاةَ الإِنْسَانِ تَسْتَقِيمُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا دُونَ الإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى، وَبِالتَّالِي الخُرَافَةُ هِيَ أَنْ يَدَّعِيَ الإِنْسَانُ أَنَّ هَذَا الكَوْنَ قَائِمٌ بِدُونِ إِلَهٍ، وَأَنَّ الإِنْسَانَ بِوَحْدِهِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَصْنَعَ لِنَفْسِهِ حَيَاةً أَبَدِيَّةً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 - العلمانية والدين، عزمي بشارة، مصدر سابق، ص 251

2- خرافة الالحاد، ص 82

3- لماذا الدين ضرورة حتمية، البروفيسور هوستن سميث، ترجمة سعد رستم، دار الجسور الثقافية، ص 9