كَيْفَ تُثْبِتُونَ أَنَّ الإِيمَانَ بِاللهِ هُوَ أَصْلُ البَدِيهِيَّاتِ؟

: اللجنة العلمية

     البَدِيهِيَّاتُ هِيَ الأُمُورُ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ إِدْرَاكُهَا أَكْثَرَ مِنْ تَصَوُّرِهَا، فَمُجَرَّدُ حُضُورِ صُورَةِ الشَّيْءِ في الذِّهْنِ تَكُونُ وَاضِحَةً، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى أَكْثَرَ مِنَ التَّذْكِيرِ وَالتَّنْبِيهِ، مِثْلِ المَبَادِئِ العَقْلِيَّةِ وَالأَوَّلِيَّاتِ وَالضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إِلَى بَرَاهِينَ لِلتَّسْلِيمِ بِهَا، وَهَذَا بِعَكْسِ الأُمُورِ النَّظَرِيَّةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى مُقَدِّمَاتٍ مُطَوَّلَةٍ لِإِثْبَاتِهَا. وَبِالتَّالِي البَدِيهِيَّاتُ هِيَ أَقْرَبُ إِلَى الإِدْرَاكِ الوِجْدَانِيِّ كَإِدْرَاكِ الإِنْسَانِ لِوُجُودِهِ أَوْ وُجُودِ الأَشْيَاءِ الَّتِي حَوْلَهُ، وَالَّذِي يُمَيِّزُ البَدِيهِيَّاتِ عَنْ غَيْرِهَا هِيَ كَوْنُهَا تُشَكِّلُ أَسَاسًا لِفَهْمِ مَا هُوَ دُونَهَا فِي الوُضُوحِ، وَلِذَا نَجِدُ أَنَّ البَرَاهِينَ العَقْلِيَّةَ تَرْتَكِزُ عَلَيْهَا لِلتَّدْلِيلِ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ، مِثْلِ قَانُونِ العِلَّةِ وَالمَعْلُولِ الَّذِي يُعَدُّ بَدِيهِيَّةً تَقُومُ عَلَيْهَا أَكْثَرُ البَرَاهِينِ العِلْمِيَّةِ، فَالسُّؤَالُ عَنِ السَّبَبِ هُوَ السُّؤَالُ الَّذِي يُرَافِقُ المَعْرِفَةَ الإِنْسَانِيَّةَ فِي كُلِّ خُطُوَاتِهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَتَصَوَّرَ لِلإِنْسَانِ مَعْرِفَةً إِلَّا مِنْ خِلَالِ هَذِهِ البَدِيهِيَّةِ، فَعِنْدَمَا نَبْحَثُ عَنِ الدَّلِيلِ إِنَّمَا نَبْحَثُ عَنْهُ لِكَوْنِهِ العِلَّةَ عَلَى صِدْقِ الفِكْرَةِ أَوْ كَذِبِهَا، وَالفِكْرَةُ لَا تَبْتَنِي عَلَى الفَرَاغِ وَإِنَّمَا لَهَا أَسَاسٌ عِلْمِيٌّ تَرْتَكِزُ عَلَيْهِ.

     وَإِذَا كَانَ قَانُونُ العِلِّيَّةِ هُوَ الأَسَاسُ لِكُلِّ المَعْرِفَةِ الإِنْسَانِيَّةِ، حِينَهَا تَكُونُ أَكْثَرُ الأَشْيَاءِ بَدَاهَةً هِيَ مَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً لِوُجُودِ الإِنْسَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوَّلَ سُؤَالٍ يُمْكِنُ أَنْ يَطْرَحَهُ الإِنْسَانُ هُوَ: مِنْ أَيْنَ أَتَى، وَمَا هِيَ العِلَّةُ الَّتِي أَوْجَدَتْهُ؟ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَتَصَوَّرَ أَنْ هُنَاكَ سُؤَالًا يَجِبُ طَرْحُهُ قَبْلَ هَذَا السُّؤَالِ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ السُّؤَالُ عَنْ عِلَّةِ الوُجُودِ هُوَ بِدَايَةَ انْطِلَاقِ العَقْلِ الإِنْسَانِيِّ فِي تَأْسِيسِهِ المَعْرِفِيِّ، وَمَا يَكُونُ أَسَاسًا لِكُلِّ المَعْرِفَةِ لَابُدَّ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَوَّلَ البَدِيهِيَّاتِ; لِكَوْنِهِ مُفَسِّرًا لِسَبَبِ وُجُودِ الأَشْيَاءِ.

     وَمِنَ المَعْلُومِ أَنَّ العِلَّةَ سَابِقَةٌ لِلمَعْلُولِ وَمُفَسِّرَةٌ لِوُجُودِهَا، وَبِالتَّالِي أَكْثَرُ وُضُوحًا مِنْهَا، فَحَتَّى لَوْ كَانَ إِحْسَاسُ الإِنْسَانِ بِوُجُودِهِ هُوَ أَوَّلَ مَا يَشْعُرُ بِهِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الشُّعُورَ لَا يَكْتَمِلُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ مَصْدَرِ الوُجُودِ، وَعَلَيْهِ يُصْبِحُ إِحْسَاسُ الإِنْسَانِ بِوُجُودِهِ نَاقِصًا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَعَرَّفَ عَلَى خَالِقِهِ، وَعِنْدَهَا يَكُونُ الخَالِقُ أَكْثَرَ ظُهُورًا مِنْهُ لِأَنَّهُ هُوَ المُظْهِرُ لَهُ، يَقُولُ الإِمَامُ الحُسَيْنُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فِي دُعَاءِ عَرَفَةَ: (كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِمَا هُوَ فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْكَ، أَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ مَا لَيْسَ لَكَ، حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهِرَ لَكَ، مَتَى غِبْتَ حَتَّى تَحْتَاجَ إِلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ، وَمَتَى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الآثَارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ، عَمِيَتْ عَيْنٌ لَا تَرَاكَ عَلَيْهَا رَقِيبًا، وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلْ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصِيبًا).

     وَيَقُولُ الإِمَامُ الصَّادِقُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فِي رِوَايَةٍ طَوِيلَةٍ نَقْطَعُ مِنْهَا مَحَلَّ الشَّاهِدِ (قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَعْرِفُهُ وَتَعْلَمُ عِلْمَهُ، وَتَعْرِفُ نَفْسَكَ بِهِ، وَلَا تَعْرِفُ نَفْسَكَ بِنَفْسِكَ مِنْ نَفْسِكَ، وَتَعْلَمُ مَا فِيهِ لَهُ وَبِهِ).

     فَمَعْرِفَةُ اللهِ هِيَ أَكْثَرُ ظُهُورًا مِنْ مَعْرِفَةِ الإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ الإِنْسَانَ يَعْرِفُ نَفْسَهُ بِاللهِ وَلَا يَعْرِفُ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ. وَمِنْ هُنَا لَا تَحْتَاجُ مَعْرِفَةُ اللهِ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ تَنْبِيهِ الغَافِلِ وَتَذْكِيرِهِ.