الشَّرُّ رُؤْيَةٌ مَوْضُوعِيَّةٌ.

أَمَلُ المُعَلِّمُ/: إِذَا كَانَ اللهُ عَادِلًا، فَلِمَاذَا تَنْتَشِرُ الأَمْرَاضُ، وَيَسْمَحُ بِوُجُودِ الظُّلْمِ بَيْنَ النَّاسِ.

: اللجنة العلمية

     يَحْتَمِلُ هَذَا الكَلَامُ أَكْثَرَ مِنْ وَجْهٍ، حَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الهَدَفُ مِنْهُ هُوَ التَّشْكِيكَ فِي وُجُودِ إِلَٰهٍ لِهَذَا الكَوْنِ مِنَ الأَسَاسِ، كَمَا يَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ التَّسْلِيمُ بِوُجُودِ إِلَهٍ، إِلَّا أَنَّ وُجُودَ الشُّرُورِ فِي الكَوْنِ جَعَلَهُ لَا يَثِقُ فِي عَدَالَةِ ذَلِكَ الإِلَهِ.

     فَالوَجْهُ الأَوَّلُ يَنْطَلِقُ مِنْ بُعْدٍ إِلحَادِيٍّ، فِي حِينِ يَنْطَلِقُ الوَجْهُ الثَّانِي مِنْ بُعْدٍ لَاهُوتِيٍّ اعْتِقَادِيٍّ، وَلِكُلِّ بُعْدٍ مُعَالَجَاتُهُ الخَاصَّةُ الَّتِي تَتَّسِمُ مَعَ الأُصُولِ الفِكْرِيَّةِ لِكُلِّ تَوَجُّهٍ، وَمَعَ ذَلِكَ هُنَاكَ قَاسِمٌ مُشْتَرَكٌ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا; وَهُوَ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ نُوجِدَ تَفْسِيرًا لِلشُّرُورِ فِي ظِلِّ الإِيمَانِ بِوُجُودِ إِلَهٍ عَادِلٍ؟ وَالإِجَابَةُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ إِطَارًا تَجَاوُزِيًّا لمُدَّعِي الإِلْحَادِ، كَمَا أَنَّهَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ إِطَارًا بِنَائِيًّا لِتَأْسِيسِ إعْتِقَادٍ صَحِيحٍ بِاللهِ.

     وَمِنَ الوَاضِحِ أَنَّ البَحْثَ عَنِ الخَيْرِ وَالشَّرِّ يُعَدُّ بَحْثًا فِي فَلْسَفَةِ الأَخْلَاقِ، وَهِيَ الفَلْسَفَةُ المَسْؤُولَةُ عَنِ البِنَاءِ القِيمِيِّ الَّذِي يَتَحَرَّكُ فِي إِطَارِهِ الإِنْسَانُ، وَبِالتَّالِي هِيَ نَمَطٌ فَلْسَفِيٌّ يَهْتَمُّ بِالجَانِبِ المَعْنَوِيِّ لِلأَشْيَاءِ، الأَمْرُ الَّذِي يَجْعَلُ الإِلْحَادَ فِي وَضْعٍ حَرِجٍ عِنْدَمَا يُطَالَبُ بِتَقْدِيمِ تَصَوُّرِهِ الخَاصِّ لِلأَخْلَاقِ; وَذَلِكَ لِكَوْنِهِ فَلْسَفَةً مَادِّيَّةً قِشْرِيَّةً لَا تَعْتَرِفُ بِوُجُودِ قِيَمٍ أَخْلَاقِيَّةٍ مِنَ الأَسَاسِ، فَالحَقُّ، وَالخَيْرُ، وَالعَدْلُ، وَالإِحْسَانُ، وَالرَّحْمَةُ... وَغَيْرُهَا مِنَ القِيَمِ لَيْسَتْ صِفَاتٍ مَوْجُودَةً فِي المَادَّةِ، بَلْ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ حَتَّى فِي الإِنْسَانِ بِوَصْفِهِ مَادَّةً تُحَرِّكُهُ أَعْصَابٌ غَيْرُ وَاعِيَةٍ، فَمَعَ تَحَكُّمِ هَذِهِ النَّظْرَةِ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ نُوجِدَ تَفْسِيرًا مُخْتَبَرِيًّا وَتَشْرِيحِيًّا لِهَذِهِ القِيَمِ الأَخْلَاقِيَّةِ عِنْدَ الإِنْسَانِ؟

     فَمِنَ المُسْتَحِيلِ ثُبُوتًا وَإِثْبَاتًا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ قِيَمٌ أَخْلَاقِيَّةٌ تَتَّصِفُ بِالإِطْلَاقِ دُونَ الإِيمَانِ بِوُجُودِ إِلَهٍ يَكُونُ مَصْدَرًا لِهَذَا الإِطْلَاقِ، وَهَذَا مَا تَنَبَّهَ إِلَيْهِ الكَثِيرُ مِنْ فَلَاسِفَةِ الإِلْحَادِ، وَقَدْ أَدْرَكَ الفَيْلَسُوفُ الوُجُودِيُّ المُلْحِدُ (جون بول شارتر)، مَبْلَغَ الإِحْرَاجِ الفِكْرِيِّ فِي مَسْأَلَةِ أَصْلِ التَّمْيِيزِ الأَخْلَاقِيِّ بَيْنَ الخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلِذَلِكَ قَالَ: "يَجِدُ الوُجُودِيُّ حَرَجًا بَالِغًا فِي أَلَّا يَكُونَ اللهُ مَوْجُودًا، لِأَنَّهُ بِعَدَمِ وُجُودِهِ تَنْعَدِمُ كُلُّ إِمْكَانِيَّةٍ لِلعُثُورِ عَلَى قِيَمٍ فِي عَالَمٍ وَاضِحٍ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ خَيْرٌ بَدَهِيٌّ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ وَعْيٌ لَا نِهَائِيٌّ وَكَامِلٌ مِنَ المُمْكِنِ التَّفْكِيرُ فِيهِ، لَمْ يُكْتَبْ فِي أَيِّ مَكَانٍ أَنَّ الخَيْرَ مَوْجُودٌ، وَلَا أَنَّ عَلَى المَرْءِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا أَوْ أَلَّا يَكْذِبَ"(1).

     وَمِنْ هُنَا نَجِدُ أَنَّ رِيتْشَارد دوكنز يَتَّسِقُ مَعَ إِلْحَادِهِ وَيَلْتَزِمُ بِمَآلَاتِهِ، فَيَرْفُضُ صِبْغَ الوُجُودِ كَكُلٍّ بِأَيَّةِ صِفَةٍ قِيمِيَّةٍ عَلَى الإِطْلَاقِ، فَيَقُولُ مُقِرًّا بِمُشْكِلَةِ النِّسْبِيَّةِ الأَخْلَاقِيَّةِ: "فِي هَذَا العَالَمِ لَا يُوجَدُ شَرٌّ وَلَا يُوجَدُ خَيْرٌ، لَا يُوجَدُ سِوَى لَامُبَالَاَةٍ عَمْيَاءَ وَعَدِيمَةِ الرَّحْمَةِ".

وَيَقُولُ أَيْضًا: إِنَّهُ مِنَ العَسِيرِ جِدًّا الدِّفَاعُ عَنِ الأَخْلَاقِ المُطْلَقَةِ عَلَى أُسُسٍ غَيْرِ دِينِيَّةِ"(2).

     وَقَدْ أَشَادَ دَاروين نَفْسُهُ بِالدَّوْرِ الفَعَّالِ لِلإِيمَانِ بِالمَعْبُودِ حَيْثُ يَقُولُ: "وَبِالنِّسْبَةِ لِلأَعْرَاقِ الأَكْثَرِ تَمَدُّنًا، فَإِنَّ الإِيمَانَ الرَّاسِخَ بِالوُجُودِ الخَاصِّ بِمَعْبُودٍ مُطَّلِعٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدْ كَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ فَعَّالٌ عَلَى التَّقَدُّمِ الخَاصِّ بِالأَخْلَاقِ"(3).

      وَفِي المُحَصِّلَةِ أَنَّ الأَمْرَ الَّذِي يَجِبُ حَسْمُهُ هُوَ أَنَّ المُلْحِدَ لَا يُمْكِنُهُ الإِعْتِرَاضُ عَلَى أَخْلَاقِيَّةِ الوُجُودِ إِلَّا إِذَا اعْتَرَفَ أَوَّلًا بِوُجُودِ اللهِ; لِأَنَّ الكَلَامَ عَنِ الأَخْلَاقِ يَبْدَأُ بَعْدَ الكَلَامِ عَنْ وُجُودِ اللهِ.

     أَمَّا السُّؤَالُ القَائِلُ: إِذَا كَانَ هُنَاكَ إِلَهٌ; فَلِمَ هَذَا الشَّرُّ فِي الوُجُودِ؟

     يَبْدُو أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ يَقْفِزُ عَلَى التَّرْتِيبِ المَنْطِقِيِّ لِطَرْحِ الأَسْئِلَةِ، لِأَنَّ السُّؤَالَ الَّذِي يَسْبِقُ هَذَا السُّؤَالَ هُوَ، إِذَا كَانَ اللهُ غَيْرَ مَوْجُودٍ فَمِنْ أَيْنَ جَاءَ هَذَا الخَيْرُ; لِأَنَّ الأَصْلَ فِي الوُجُودِ هُوَ الخَيْرُ، أَمَّا الشَّرُّ فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ عَارِضٌ،

 فَكَيْفَ يَكُونُ الإِسْتِثْنَاءُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ وُجُودِ الخَالِقِ، وَلَا يَكُونُ الخَيْرُ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِهِ؟ وَعَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ نَفْهَمَ المَعْنَى الوُجُودِيَّ لِلشَّرِّ (الإِسْتِثْنَاء)، حَتَّى نُقِرَّ بِالمَعْنَى الوُجُودِيِّ لِلخَيْرِ

(الأَصْل)، وَإِذَا تَحَرَّكْنَا مِنَ الخَيْرِ لِفَهْمِ الشَّرِّ حِينَهَا سَنَجِدُ الشَّرَّ مُنْسَجِمًا مَعَ فَلْسَفَةِ الخَيْرِ الحَاكِمَةِ عَلَى الوُجُودِ.

     وَلَا نُرِيدُ أَنْ نُقَدِّمَ شَرْحًا فَلْسَفِيًّا لِطَبِيعَةِ الشَّرِّ وَمَاهِيَّتِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُدْخِلُنَا فِي دَائِرَةٍ مِنَ الجَدَلِ الفَلْسَفِيِّ بَيْنَ التَّوَجُّهَاتِ الفَلْسَفِيَّةِ المُخْتَلِفَةِ، وَإِنَّمَا نُرِيدُ أَنْ نُحَقِّقَ نَوْعًا مِنَ الإِنْسِجَامِ بَيْنَ الشَّرِّ وَالعَدَالَةِ بِوَصْفِهَا إِشْكَالِيَّةً تَعَسَّرَ هَضْمُهَا عِنْدَ بَعْضِ العُقُولِ.

     وَعَلَيْهِ يُمْكِنُنَا القَوْلُ إِنَّ التَّرْتِيبَ المَنْطِقِيَّ لِتَكْوِينِ وَعْيٍ بِفَلْسَفَةِ الوُجُودِ يَبْدَأُ بِفَهْمِ الشَّرِّ فِي إِطَارِ الخَيْرِ، وَمِنْ ثَمَّ فَهْمُ كُلِّ ذَلِكَ فِي إِطَارِ العَدَالَةِ بِوَصْفِهَا الخَيْطَ النَّاظِمَ لِفَلْسَفَةِ الخَلْقِ وَالإِيجَادِ.

      وَحَتَّى نَفْهَمَ العَدَالَةَ لَابُدَّ أَنْ نَفْهَمَ مَعْنَى الحَيَاةِ الدُّنْيَا، لأَنَّ مَعْنَى العَدَالَةِ يَتَحَدَّدُ وِفْقاً لِمَعْنَى الحَيَاةِ، فَلَوْ أَوْجَدَ اللهُ الحَيَاةَ بِوَصْفِهَا الجَنَّةَ الأَبَدِيَّةَ للإِنْسَانِ، ثُمَّ وَعَدَهُ أَنْ لَا يُصِيبَهَ فِيهَا مَكْرُوهٌ، كَمَا وَعَدَ آدَمَ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ) (119 طه). حِينَهَا نَفْهَمُ الْعَدَالَةَ بِالشَّكْلِ الَّذِي يَتَنَاقَضُ مَعَ وُجُودِ الشُّرُورِ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الحَيَاةُ وُجِدَتْ أَسَاسًا كَدَارٍ لِلإِبْتِلَاءِ وَالإِمْتِحَانِ، وَمِنْ ثَمَّ الإِنْسَانُ يَخْتَارُ بِعَمَلِهِ الجَنَّةَ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (2 العَنْكَبُوتُ). حِينَهَا لَا نَفْهَمُ الْعَدَالَةَ إِلَّا فِي إِطَارِ الفِتَنِ وَالمَصَاعِبِ الَّتِي تُؤَهِّلُ الإِنْسَانَ لِدُخُولِ الجَنَّةِ، وَعِنْدَهَا تُصْبِحُ الشُّرُورُ مَجْمُوعَةً مِنْ الإِخْتِبَارَاتِ وَالإِمْتِحَانَاتِ الَّتِي تَتَدَرَّجُ بِالإِنْسَانِ فِي مَرَاتِبِ الكَمَالِ

     وَالتَّفَاوُتُ الَّذِي نَجِدُهُ فِي طَبِيعَةِ هَذِهِ الإِبْتِلَاءَاتِ لَا يَتَعَارَضُ مَعَ العَدَالَةِ; لِأَنَّ كُلَّ مُتَسَابِقٍ فِي سَاحَةِ الحَيَاةِ يَتَسَابَقُ ضِمْنَ حُدُودِ الإِمْكَانَاتِ المُتَاحَةِ لَهُ، وَمِثَالٌ عَلَى ذَلِكَ التَّنَافُسُ الَّذِي يَحْدُثُ بَيْنَ الرِّياَضِيِّينَ فِي الأُولِمْبِيَّاد، فَهُنَاكَ رِيَاضَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ وَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الرِّيَاضَةِ لَهُ إِمْكَانَاتٌ خَاصَّةٌ، إِلَّا أنَّ الفَائِزِينَ مِنْ كُلِّ تِلْكَ الرِّيَاضَاتِ يُمْنَحُونَ جَوَائِزَ مُتَسَاوِيَةً، وَهَكَذَا حَالُ الدُّنْيَا فَالفَقِيرُ وَالغَنِيُّ وَالمَرِيضُ وَالمُعَافَى وَغَيْرُ ذَلِكَ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ امْتِحَانُهُ الَّذِي يُنَاسِبُ وَضْعَهُ ثُمَّ تَكُونُ الجَنَّةُ جَزَاءً لِلجَمِيعِ.

     وَالَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ الشُّرُورَ تَتَعَارَضُ مَعَ العَدَالَةِ يَنْطَلِقُ مِنْ تَصَوُّرٍ خَاطِئٍ لِفَلْسَفَةِ الحَيَاةِ، أَمَّا الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ أَوْجَدَ الدُّنْيَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَأَهَّلَ الإِنْسَانُ لِلحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ.

 

.........................................................

1  - مشكلة الشر ووجود الله، دكتور سامي عامري، http://www.aricr.org/ar/evil

2 - الاخلاق والإلحاد، أسماعيل عرفة، http://midan.aljazeera.net/intellect/philosophy/2017/9/19 

3 - نشأة الإنسان والإنتقاء الجنسي، تشارلس داروين، ترجمة مجدي محمود الملجي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط الأولى 2005، ج3 ص 227