الإِلَهُ الَّذِي تُثْبِتُهُ الحَوَاسُّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا.

إِيهَابٌ الهِنْدِيُّ / عَدَمُ وُجُودِ أَيِّ دَلِيلٍ حِسِّيٍّ عَلَى وُجُودِ إِلَهٍ، وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا فَلِمَاذَا لَا نَرَاهُ؟

: اللجنة العلمية

     صِيغَةُ السُّؤَالِ تُوهِمُ المُسْتَمِعَ بِوُجُودِ سُؤَالٍ جَادٍّ يَبْحَثُ عَنْ إِجَابَةٍ عِلْمِيَّةٍ لِشُبْهَةٍ حَقِيقِيَّةٍ، إِلَّا أَنَّ التَّدْقِيقَ يَكْشِفُ عَنْ مُغَالَطَاتٍ وُضِعَتْ بِشَكْلٍ مُمَوَّهٍ، وَالهَدَفُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ حَرْفُ ذِهْنِ المُسْتَمِعِ عَنِ التَّفْكِيرِ ضِمْنَ النَّسَقِ المَنْطِقِيِّ الَّذِي يَتَنَاسَبُ مَعَ عُنْوَانِ الإِشْكَالِ، فَالفِكْرُ الإِنْسَانِيُّ يُحَدِّدُ خَيَارَاتِهِ الفِكْرِيَّةَ وِفْقًا لِلمَوْضُوعِ المُفَكَّرِ فِيهِ، وَبِالتَّالِي يَخْتَلِفُ نَسَقُ التَّفْكِيرِ مِنْ مَوْضُوعٍ إِلَى آخَرَ، فَمَنْ يَبْحَثُ عَنْ حَلِّ مُعَادَلَةٍ رِيَاضِيَّةٍ مَثَلًا لَا يُفَكِّرُ فِي حَلِّهَا بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي تُحَلُّ فِيهَا مَسَائِلُ الفِيزِيَاءِ، وَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُحَقِّقَ فِي جَرِيمَةٍ جِنَائِيَّةٍ لَا يَسْتَخْدِمُ الأَدَوَاتِ المُسْتَخْدَمَةَ فِي التَّحْقِيقِ عَنْ أَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ البِيئِيَّةِ، وَهَكَذَا لِكُلِّ مَوْضُوعٍ أَدَوَاتُهُ الخَاصَّةُ الَّتِي تُنَاسِبُهُ. وَهَذَا مَا غَفَلَ عَنْهُ صَاحِبُ الإِشْكَالِ عَنْ قَصْدٍ أَوْ بِدُونِ قَصْدٍ، المُهِمُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي مُغَالَطَةٍ مَفْضُوحَةٍ; لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ مَوْضُوعٍ بِأَدَوَاتِ مَوْضُوعٍ آخَرَ، حَالُهُ حَالُ الأَعْمَى الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ الأَلْوَانِ بِحَاسَّةِ اللَّمْسِ.

     وَمِنَ الوَاضِحِ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ مَوَّجَهٌ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِوُجُودِ اللهِ، وَكُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِوُجُودِهِ لَا يُؤْمِنُ بِوُجُودٍ حِسِّيٍّ لَهُ، فَلِمَنْ وَجَّهَ السَّائِلُ هَذَا السُّؤَالَ؟! طَالَمَا لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يَتَبَنَّى وُجُودَ إِلَهٍ يُدْرَكُ بِالحَوَاسِّ، وَعَلَيْهِ يُمْكِنُنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ مَا طُرِحَ لَا يَصْلُحُ لِلسُّؤَالِ نَاهِيكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ إِشْكَالًا; لِأَنَّ السُّؤَالَ هُوَ اسْتِفْسَارٌ عَنِ المَوْضُوعِ، أَمَّا الإِشْكَالُ فَهُوَ إِثْبَاتُ تَنَاقُضٍ فِي التَّصَوُّرِ الكُلِّيِّ لِلمَوْضُوعِ.

     وَإِذَا رَجَعْنَا لِلسُّؤَالِ نَجِدُ أَنَّهُ خَلْطٌ وَاضِحٌ لِحُقُولِ المَعْرِفَةِ وَلِطَبِيعَةِ التَّفْكِيرِ عِنْدَ الإِنْسَانِ، فَإِذَا كَانَتِ الحَوَاسُّ أَدَوَاتٍ لِلتَّوَاصُلِ مَعَ المَحْسُوسَاتِ، فَإِنَّ العَقْلَ وَالإِسْتِنْبَاطَ وَالبُرْهَانَ أَدَوَاتٌ أُخْرَى لِإِثْبَاتِ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ حُدُودِ الحَوَاسِّ، وَإِذَا كَانَ صَاحِبُ السُّؤَالِ لَا يُؤْمِنُ بِوُجُودِ أَدَوَاتٍ غَيْرِ الحِسِّ حِينَهَا يَكُونُ نِقَاشُنَا مَعَهُ حَوْلَ نَظَرِيَّةِ المُعَرِفَةِ وَأَدَوَاتِ الفِكْرِ عِنْدَ الإِنْسَانِ، وَهَذَا نِقَاشٌ مُتَقَدِّمٌ جِدًّا عَنْ مَوْضُوعِ إِثْبَاتِ وُجُودِ اللهِ، وَمَا فَعَلَهُ لَيْسَ أَكْثَرَ مِنْ مُخَادَعَةٍ حَيْثُ أَوْحَى أَنَّ الْحِسَّ هُوَ السَّبِيلُ الوَحِيدُ لِإِثْبَاتِ الحَقَائِقِ ثُمَّ طَالَبَنَا بِالدَّلِيلِ الحِسِّيِّ، وَهَذِهِ مُصَادَرَةٌ وَتَسْطِيحٌ وَإِلْزَامُ الخَصْمِ بِمَا لَا يَلْتَزِمُ بِهِ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ قَبُولُهُ.

     وَإِذَا حَاوَلْنَا أَنْ نُعِيدَ صِيَاغَةَ مَا طَرَحَهُ فِي شَكْلِ بُرْهَانٍ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: (عَدَمُ وُجُودِ أَيِّ دَلِيلٍ حِسِّيٍّ عَلَى وُجُودِ إِلَهٍ)، مُبْتَنٍ عَلَى حَصْرِ الدَّلِيلِيَّةِ فِي الدَّلِيلِ الحِسِّيِّ، وَهُوَ أَمْرٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ بِهِ، وَالدَّلِيلُ لَا يَكُونُ دَلِيلًا إِلَّا إِذَا كَانَ مُسَلَّمًا بِهِ عِنْدَ الجَمِيعِ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ مَا طَرَحَهُ مُخَالِفٌ لِأُصُولِ البُرْهَانِ، فَإِذَا فَكَّكْنَا كَلَامَهُ، سَوْفَ نَخْلُصُ لِهَذَا الشَّكْلِ مِنَ القِيَاسِ، الكُبْرَى هِيَ: (الحَوَاسُّ هِيَ الدَّلِيلُ الحَصْرِيُّ عَلَى وُجُودِ الأَشْيَاءِ) الصُّغْرَى: (لَيْسَ هُنَاكَ أَيُّ دَلِيلٍ حِسِّيٍّ عَلَى وُجُودِ اللهِ) حِينَهَا تُصْبِحُ النَّتِيجَةُ (لَا وُجُودَ للهِ)، وَكَمَا هُوَ وَاضِحٌ أَنَّ كُبْرَى القِيَاسِ جَدَلِيَّةٌ وَلَيْسَتْ يَقِينِيَّةً، وَعَلَيْهِ يَكُونُ القِيَاسُ بَاطِلًا.

     أَمَّا المَقْطَعُ الآخَرُ مِنْ كَلَامِهِ (وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا فَلِمَاذَا لَا نَرَاهُ؟) وَفِي هَذَا المَقْطَعِ حَصَرَ الدَّلِيلِيَّةَ فِي الرُّؤْيَةِ فَقَطْ وَتَنَازَلَ عَنْ بَقِيَّةِ الحَوَاسِّ، مِمَّا جَعَلَ المُغَالَطَةَ أَكْثَرَ وُضُوحًا، فَإِذَا فَكَّكْنَا هَذَا الكَلَامَ عَلَى شَكْلِ بُرْهَانٍ فَإِنَّ النَّتِيجَةَ هِيَ: كُبْرَى القِيَاسِ (الرُّؤْيَةُ هِيَ الدَّلِيلُ الحَصْرِيُّ لِإِثْبَاتِ وُجُودِ الأَشْيَاءِ)، الصُّغْرَى (اللهُ لَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ) النَّتِيجَةُ (اللهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ)، وَكَمَا هُوَ وَاضِحٌ أَنَّهُ ارْتَكَزَ عَلَى كُبْرَى كَاذِبَةٍ، فَهَلْ الرُّؤْيَةُ هِيَ الطَّرِيقُ الوَحِيدُ لِلإِثْبَاتِ؟!

     وَالخُلَاصَةُ: أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ مُغَالَطَةٌ كُبْرَى، وَلَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا إِذَا أَثْبَتَ أَوَّلًا كَوْنَ الحَوَاسِّ هِيَ طَرِيقُ المَعْرِفَةِ الحَصْرِيَّةِ لِلإِنْسَانِ، وَهَذَا يَتَطَلَّبُ نِقَاشًا مُوَسَّعًا حَوْلَ نَظَرِيَّةِ المَعْرِفَةِ، وَقَدْ صُنِّفَتْ كُتُبٌ مُتَعَدِّدَةٌ حَوْلَ طُرُقِ المَعْرِفَةِ، وَقَامَتِ البَرَاهِينُ عَلَى وَجْهِ القَطْعِ وَاليَقِينِ عَلَى أَنَّ مَعَارِفَ الإِنْسَانِ أَوْسَعُ مِنَ المَعْرِفَةِ الحِسِّيَّةِ المُبَاشِرَةِ، وَهَذَا مَا يَشْهَدُهُ كُلُّ عَاقِلٍ حَيْثُ يَجِدُ أَنَّ الكَثِيرَ مِنْ مَعَارِفِهِ غَيْرُ حِسِّيَّةٍ.

     كَمَا أَنَّ الحَوَاسَّ بِطَبْعِهَا عَاجِزَةٌ عَنْ إِدْرَاكِ الكَثِيرِ مِنَ الحَقَائِقِ المَوْجُودَةِ فِي عَالَمِ الخَلْقِ وَالشُّهُودِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهَا إِدْرَاكُ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ عَالَمِ الخَلْقِ وَالشُّهُودِ؟ وَالإِلَهُ الَّذِي يَعْتَقِدُ بِهِ المُؤْمِنُ لَيْسَ مِنْ سِنْخِ المَخْلُوقَاتِ; لِأَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ مِنْ سِنْخِهَا فَهُوَ مِنْهَا، وَبِالتَّالِي الإِلَهُ الَّذِي تُثْبِتُهُ الحَوَاسُّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا.

     قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (103 الأَنْعَامُ).

     وَمَعْرِفَةُ اللهِ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ أَمْرًا بُرْهَانِيًّا فَهِيَ حَقِيقَةٌ فِطْرِيَّةٌ يَجِدُهَا الإِنْسَانُ فِي عُمْقِ شُعُورِهِ وَوِجْدَانِهِ، وَلَا نَقْصِدُ أَنَّهُ مُجَرَّدُ شُعُورٍ نَفْسِيٍّ، وَإِنَّمَا إِحْسَاسٌ وُجُودِيٌّ يُعَبِّرُ عَنْ عُمْقِ الحَاجَةِ الوُجُودِيَّةِ لَدَى الإِنْسَانِ; فَوُجُودُهُ الَّذِي يَشْعُرُ بِهِ وَفِي الوَقْتِ نَفْسِهِ لَا يَمْتَلِكُهُ، يَجْعَلُهُ فِي حَالَةٍ مِنَ الإِحْسَاسِ الدَّائِمِ بِمَدَى الحَاجَةِ وَالإِضْطِرَارِ لِذَلِكَ المُوجِدِ المَالِكِ لِوُجُودِهِ، فَمَهْمَا بَلَغَ الإِنْسَانُ مِنْ غُرُورٍ لَا يُمْكِنُهُ الشُّعُورُ أَنَّهُ أَوْجَدَ نَفْسَهُ، أَوْ مُمْسِكٌ بِزِمَامِ وُجُودِهِ، فَالفَقْرُ الَّذِي يُلَازِمُهُ، وَالحَاجَةُ الَّتِي تُرْهِقُهُ، تَجْعَلُهُ مَدِينًا فِي أَصْلِ وُجُودِهِ لِمَنْ أَوْجَدَهُ، وَمَا يَمْتَلِكُهُ الإِنْسَانُ مِنْ كَمَالَاتٍ مِثْلِ القُدْرَةِ، وَالعِلْمِ، وَالإِرَادَةِ، وَالسَّمْعِ، وَالبَصَرِ، وَغَيْرِهَا مِنْ كَمَالَاتٍ، وَالَّتِي قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِاعْتِدَادِهِ بِذَاتِهِ وَفَخْرِهِ بِنَفْسِهِ، هِيَ ذَاتُهَا وَبِالتَّأَمُّلِ فِيهَا تَجْعَلُ الإِنْسَانَ فِي حَالَةٍ مِنَ العِشْقِ الأَبَدِيِّ وَالإِمْتِنَانِ السَّرْمَدِيِّ لِمَنْ أَوْجَدَهَا فِيهِ.

     وَعَلَيْهِ فَإِنَّ حَبْسَ العَقْلِ فِي حُدُودِ الحِسِّ جَرِيمَةٌ فِي حَقِّ العَقْلِ وَفِي حَقِّ الإِنْسَانِ، فَقِيمَةُ العَقْلِ فِي إِدْرَاكِ عُمْقِ الحَيَاةِ لَا فِي مَعْرِفَةِ ظَاهِرِهَا، وَقِيمَةُ الإِنْسَانِ بِأَنْ يَعِيشَ فِي ذَلِكَ العُمْقِ لَا فِي ظَاهِرِ السَّطْحِ، وَالغَيْبُ لَيْسَ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ عُمْقِ الحَقِيقَةِ وَلُبِّ المَعْنَى.

     وَدُمْتُمْ سَالِمِينَ.