لِمَاذَا لَمْ يُؤَيِّدْ اللهُ (عَزَّ وَجَلَّ) حَمْلَةَ أبرَهَةَ الحَبَشِيِّ؟!!

أبرَهَةُ وَجَيْشُهُ كَانُوا مَسِيحِيِّينَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ يَعْبُدُونَ اللهَ، وَالمَفْرُوضُ أَنَّ دِيَانَتَهُمْ كَانَتْ هِيَ الدِّيَانَةُ الصَّحِيحَةُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لِأَنَّ الإِسْلَامَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا بَعْدُ. بَيْنَمَا الكَعْبَةُ الَّتِي حَاوَلَ أبرَهَةُ تَدْمِيرَهَا كَانَتْ عِبَارَةً عَنْ مَعْبَدٍ لِلأَصْنَامِ ومَمْلُوءَةً بِهِمْ، فَأَيْنَ الخَطَأُ الَّذِي ارْتَكَبَهُ أبرَهَةُ المَسِيحِيُّ عِنْدَ مُحَاوَلَتِهِ لِتَدْمِيرِ تِلْكَ الأَصْنَامِ؟ كَيْفَ يَقِفُ اللهُ مَعَ الوَثَنِيِّينَ ضِدَّ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ (المَسِيحِيِّينَ)؟

: اللجنة العلمية

      الأَخُ المُحْتَرَمُ.. السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

      الإِجَابَةُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ مَوْجُودَةٌ فِي سُورَةِ الفِيلِ نَفْسِهَا، حِينَ قَالَتْ: (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)). فَمَا هُوَ الكَيْدُ فِي اللُّغَةِ؟!!. يَقُولُ أَهْلُ اللُّغَةِ: الكَيْدُ هُوَ الخُبْثُ وَالمَكْرُ، وَإِرَادَةُ مَضَرَّةِ الغَيْرِ خِفْيَةٌ، وَهُوَ مِنْ الخَلْقِ: الحِيلَةُ السَّيِّئَةُ. وَمِنْ اللهِ: التَّدْبِيرُ بِالحَقِّ مُجَازَاةَ أَعْمَالِ الخَلْقِ. [رَاجِعْ: المُعْجَمَ الوَسِيطَ وَالقَامُوسَ المُحِيطَ]. وَعَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ نَتَصَوَّرَ النَّوَايَا الحَسَنَةَ لأبرَهَةَ الحَبَشِيِّ وَجَيْشِهِ فِي إِقْدَامِهِمْ عَلَى هَدْمِ الكَعْبَةِ، وَأَنَّ هَذَا التَّحَرُّكَ كَانَ لِأَغْرَاضٍ دِينِيَّةٍ كَمَا يُرِيدُ أَنْ يُصَوِّرَهُ لَنَا صَاحِبُ السُّؤَالِ، بَلْ كَانَ الغَرَضُ مِنْ التَّحَرُّكِ المَذْكُورِ هُوَ فَرْضَ السَّيْطَرَةِ وَالنُّفُوذِ لَا غَيْرَ، فَرَاجِعْ تَمَامَ القِصَّةِ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ وَغَيْرِهِ.

     يَقُولُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ (تَفْسِيرُ سُورَةِ الفِيلِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ):

      هَذِهِ مِنْ النِّعَمِ الَّتِي امْتَنَّ اللهُ بِهَا عَلَى قُرَيْشٍ، فِيمَا صَرَفَ عَنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الفِيلِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى هَدْمِ الكَعْبَةِ وَمَحْوِ أَثَرِهَا مِنْ الوُجُودِ، فَأَبَادَهُمْ اللهُ، وَأَرْغَمَ آنَافَهُمْ، وَخَيَّبَ سَعْيَهُمْ، وَأَضَلَّ عَمَلَهُمْ، وَرَدَّهُمْ بِشَرِّ خَيْبَةٍ. وَكَانُوَا قَوْمًا نَصَارَى، وَكَانَ دِينُهُمْ إِذْ ذَاكَ أَقْرَبَ حَالًا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ... وَأَرْسَلَ أبرَهَةُ يَقُولُ للنَّجَاشِيِّ: إِنَّي سَأَبْنِي لَكَ كَنِيسَةً بِأَرْضِ اليَمَنِ لَمْ يُبْنَ قَبْلَهَا مِثْلُهَا. فَشَرَعَ فِي بِنَاءِ كَنِيسَةٍ هَائِلَةٍ بِصَنْعَاءَ رَفِيعَةِ البِنَاءِ، عَالِيَةِ الفَنَاءِ، مُزَخْرَفَةِ الأَرْجَاءِ، سَمَّتْهَا العَرَبُ القليس لِارْتِفَاعِهَا; لِأَنَّ النَّاظِرَ إِلَيْهَا تَكَادُ تَسْقُطُ قُلُنْسُوَتُهُ عَنْ رَأْسِهِ مِنْ ارْتِفَاعِ بِنَائِهَا. وَعَزَمَ أبرَهَةُ الأشرم عَلَى أَنْ يَصْرِفَ حَجَّ العَرَبِ إِلَيْهَا كَمَا يَحُجُّ إِلَى الكَعْبَةِ بِمَكَّةَ، وَنَادَى بِذَلِكَ فِي مَمْلَكَتِهِ، فَكَرِهَتْ العَرَبُ العدْنَانيَّةُ والقَحطَانيَّةُ ذَلِكَ، وَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ لِذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، حَتَّى قَصَدَهَا بَعْضُهُمْ، وَتَوصَّلَ إِلَى أَنْ دَخَلَهَا لَيْلًا. فَأَحْدَثَ فِيهَا وَكَرَّ رَاجِعًا. فلَمَّا رَأَى السَّدَنَةُ ذَلِكَ الحَدَثَ رَفَعُوا أَمْرَهُمْ إِلَى مَلِكِهِمْ أبرَهَةَ وَقَالُوا لَهُ: إِنَّمَا صَنَعَ هَذَا بَعْضُ قُرَيْشٍ غَضَبًا لِبَيْتِهِمْ الَّذِي ضَاهَيْتَ هَذَا بِهِ، فَأَقْسَمَ أبرَهَةُ لَيَسِيرَنَّ إِلَى بَيْتِ مَكَّةَ، وَلَيُخَرِّبَنَّهُ حَجَرًا حَجَرًا (انْتَهَى) [تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ ج4 ص 587]. 

      فَهَذَا النُّصُّ يُوضِّحُ لَنَا الأَسْبَابَ وَالدَّوَافِعَ لِتَحَرُّكِ أبرَهَةَ نَحْوَ بَيْتِ اللهِ فِي مَكَّةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا عَنْ رَغْبَتِهِ فِي هَدْمِ الأَصْنَامِ وَمَا شَابَهُ، وَكَوْنُهُ عَلَى الدِّيَانَةِ المَسِيحِيَّةِ لَا يَعْنِي أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ، بَلْ كَانَتْ دِيَانَتُهُ أَقْرَبَ حَالًا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي النُّصِّ أَعْلَاهُ. هَذَا فَضْلًا عَنْ القَاعِدَةِ الَّتِي تَقُولُ مِنْ لُزُومِ حَمْلِ فِعْلِ المَعْصُومِ عَلَى الصِّحَّةِ إِذَا جَهِلْنَا الوَجْهَ فِيهِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ مَعْصُومٌ عَنْ الخَطَأِ فَيُحْمَلُ فِعْلُهُ فِي إِبَادَةِ جَيْشِ أبرَهَةَ عَلَى الصِّحَّةِ جْزَمًا، اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا كُنْتَ تُنْكِرُ الأُلُوهيَّةَ أَوْ لَا تُؤْمِنُ بِعِصْمَةِ الخَالِقِ، فَهَذَا لَهُ بَحْثٌ آخَرُ وَحِوَارٌ آخَرُ، فَهُنَا عَلَيْكَ أَنْ تَطْرَحَ مَبَاحِثَ الأُلُوهيَّةِ قَبْلَ طَرْحِ مَبَاحِثِ العَدْلِ الإِلَهِيِّ; لِأَنَّ الأَفْعَالَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ الذَّوَاتِ.

      وَدُمْتُمْ سَالِمِينَ.