هَل بناءُ الكعبةِ اليومَ هوَ كمَا كانَ أوّلَ مرّةٍ؟

عبّاس هلال/: هناكَ أقاويلُ وأراءٌ انتشرَتْ هُنا وهناكَ تنصُّ على أنَّ الكعبةَ المُشرّفةَ لم يكُنْ هذا مكانُها وأنَّ الكعبةَ الموجودةَ اليومَ هيَ كعبةٌ بناهَا عبدُ اللهِ بنُ الزّبيرِ والكعبةُ الحقيقيّةُ كانَت فِي مكانٍ آخرَ، مَا مدى صحّةِ هذا الكلامِ عِلماً أنَّ مِن ضمنِ مَن طرحَ هذا الموضوعَ هوَ السّيّدُ فرقد القزويني؟

: اللجنة العلمية

الأخُ عبّاسٌ المحترمُ، السّلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ 

مكانُ الكعبةِ مِن حيثُ المكانِ هوَ هوَ لَم يتغيّرْ منذُ أوّلِ مرّةٍ بنَتهُ الملائكةُ فيهَا أو بناهَا آدمُ (عليهِ السّلامُ) - على قولٍ - ثمَّ بناءُ إبراهيمَ (عليهَ السّلامُ) لهَا بعدَ الطّوفانِ، ولكِنّ الاختلافَ كانَ فِي تفاصيلِ البناءِ بعدَ حدوثِ الطّواريءِ عليهَا مِن حرقٍ أو هدمٍ ومَا شابهَ ذلكَ فيُعادُ بناؤها بطريقةٍ تختلفُ عَن سابقتِها.

قالَ الفاسيّ فِي "شفاءِ الغرامِ بأخبارِ البلدِ الحرامِ": (لا شكَّ أنَّ الكعبةَ المُعظَّمةَ بُنيَتْ مرّاتٍ، وقَد اختُلِفَ فِي عددِ مرّاتِ بنائهَا، ويتحصَّلُ مِن مجموعِ مَا قيلَ فِي ذلكَ: أنّهَا بُنيَتْ عشرَ مرّاتٍ، منهَا بناءُ الملائكةِ - عليهمُ السّلامُ، ومنهَا بناءُ آدمَ - عليهِ السّلامُ، ومنهَا بناءُ أولادهِ، ومنهَا بناءُ العمالقةِ، ومنهَا بناءُ جُرهُمَ، ومنهَا بناء قُصَيٍّ، ومنهَا بناءُ قريشٍ، ومنهَا بناءُ الخليلِ - عليهِ السّلامُ، ومنهَا بناءُ عبدِ اللهِ بنِ الزّبيرِ بنِ العوّامِ الأسديّ - رضيَ اللهُ عنهمَا، ومنهَا بناءُ الحجّاجِ بنِ يوسفَ الثّقفيّ). انتهَى [شفاءُ الغرامِ بأخبارِ البلدِ الحرامِ 1:175].

هذا، ولكنَّ التّحقيقَ يُشيرُ إلى أنَّ أوّلَ مَن بناهَا هوَ إبراهيمُ الخليلُ (عليهِ السّلامُ)، وهوَ مَا يدلُّ عليهِ ظاهرُ القرآنِ الكريمِ، قالَ تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾. البقرة:127.

قالَ إبنُ كثيرٍ: (فإنَّ ظاهرَ القرآنِ يقتضِي: أنَّ إبراهيمَ أوّلُ مَنْ بناهُ مبتدئاً، وأوّلُ مَنْ أسَّسهُ، وكانَت بقعتهُ معظّمةً قبلَ ذلكَ، مُعتنىً بهَا، مشرَّفةً فِي سائرِ الأعصارِ والأوقاتِ). انتهى. [البدايةُ والنّهايةُ، لابنِ كثيرٍ 2: 298].

وكيفمَا كانَ فطريقةُ بناءِ نبيّ اللهِ إبراهيمَ (عليهِ السّلامُ) للكعبةِ المُشرّفةِ كانَت هكذا: كانَ البناءُ مِنَ الحجارةِ، جَعَلَ إرتفاعَهَا: 9 أذرعٍ - أي: 5.4م، وطولهَا مِنَ الجهةِ الشّرقيّةِ: 32 ذراعاً - أي: 16م، ومنَ الجهةِ الغربيّةِ: 31 ذراعاً - أي: 5ر15م، ومنَ الجهةِ الجنوبيّةِ: 20 ذراعاً - أي: 10م، ومنَ الجهةِ الشّماليّةِ: 22 ذراعاً - أي: 11م، ولم يجعَلْ لها سقفاً، وفتحَ لهَا بابَينِ مُلاصقينِ بالأرضِ منْ دونِ مِصراعٍ يُغلقُ، ونزلَ جبريلُ - عليهِ السّلامُ - بالحجرِ الأسودِ، فوضَعهُ إبراهيمُ - عليهِ السّلامُ - فِي مكانهِ . [أنظُر: تاريخُ الكعبةِ المعظّمةِ، عمارتهَا وكسوتهَا وسدانتهَا: حسينٌ بنُ عبدِ اللهِ باسلامة: ص70-75؛ مكّةُ المكرّمةُ تاريخٌ ومعالمُ، محمود محمّد حمو: ص43].

هذا بالنّسبةِ لبناءِ نبيّ اللهِ إبراهيمَ (عليهِ السّلامُ)، وتذكرُ الرّواياتُ وبعضُ كتبِ التّاريخِ بناءاً آخرَ لهَا مِن قبلِ العمالقةِ ثمَّ مِن قبلِ جُرهُمَ ثمَّ مِن قبلِ قريشٍ، والذي يهمّنَا الإشارةُ إليهِ هُنا هوَ بناءُ قريشٍ للكعبةِ؛ لأنّهُ هوَ محلُّ الكلامِ فِي تغييرِ طبيعةِ بنائها، يذكرُ التّأريخُ بأنَّ سببَ بناءِ قريشٍ للكعبةِ: أنَّ امرأةً ذهبَت تُجمِّرُ الكعبةَ، فطارَت مِن مجمرتهَا شرارةٌ، فاحترقَتْ كِسوةُ الكعبةِ، ثمَّ جاءَ سيلٌ عظيمٌ فدخلَ الكعبةَ، وصدَّعَ جُدرانها، ففزعَتْ قريشٌ مِن ذلكَ، وعزمَتْ على تجديدِ بناءِ الكعبةِ المُشرّفةِ، وكانَ ذلكَ السّنةَ الخامسةَ قبلَ البعثةِ النّبويّةِ، واشترطوا: ألاَّ يُدخِلوا فِي بنائها مالاً حراماً، فقَصرَتْ بهمُ النّفقةُ الطّيّبةُ عَن إكمالِ البناءِ، فأنقصُوا مِن جهةِ الحِجْرِ ستّةَ أذرعٍ وشبراً (أي: 23ر3م) أي: حوالِي ثلاثةَ أمتارٍ وربعاً، وأداروا عليهِ جداراً قصيراً؛ ليطوفَ النّاسُ مِن ورائهِ، وأحدثُوا بعضَ التّغيّراتِ فيهَا، فزادُوا ارتفاعهَا إلى: (18 ذراعاً - أي: 9م)، وسَقَفوهَا، ولم تكُن مِن قبلُ مسقوفةً، وجَعلوا لهَا ميزاباً مِن خشبٍ، وسدُّوا البابَ الغربيَّ، ورفعُوا البابَ الشّرقيَّ عَن مُستوى الأرضِ، حتّى يُدخِلوا فيهَا مَنْ شاءُوا، ويمنعُوا مَنْ أرادُوا، وقَد شاركَهُم رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ فِي هذا البناءِ، فكانَ يحملُ معهمُ الحجارةَ.

ولمَّا انتهَى البناءُ، وأرادُوا وضعَ الحجرِ الأسودِ، وقعَ بينهُم نزاعٌ شديدٌ، كلُّ قبيلةٍ تُريدُ أن تحظَى بشرفِ وضْعِ الحَجَرِ فِي مكانهِ، ورضُوا بأن يَحْكُمَ فيهِم أوَّلُ داخلٍ إلى البيتِ، وكانَ الدّاخلُ هوَ النّبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ، فأخذَ الحَجَرَ ووضَعَه على رداءٍ، وأمَرَ كلَّ قبيلةٍ أن تأخذَ بطرفٍ منهُ فرفعوهُ، وقامَ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ بوَضْعِهِ مكانَهُ، وأنهَى بهذهِ الحكمةِ السّاميةِ نِزاعاً كادَ أن يُمزِّقَ وِحدتَهُم، ويودِي بحياةِ عددٍ كبيرٍ منهُم. [انظُر: تاريخُ الكعبةِ المعظّمةِ: ص87-94؛ مكّةُ المكرّمةُ تاريخٌ ومعالمُ: 44].

فِي هذا البناءِ يوجدُ تغييرٌ عمَّا بناهُ نبيُّ اللهِ إبراهيمُ (عليهِ السّلامُ)، وهوَ مَا يُشيرُ إليهِ النّبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) فِي عدّةِ أحاديثَ رواهَا البُخاريّ وغيرهُ، فقَد أخرجَ البُخاريّ فِي صحيحهِ بسندهِ، عَنِ الأسودِ بنِ يزيدٍ، عَن عائشةَ، قالَت: (سألتُ النّبيّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ، عنِ الجُدُرِ [المُرادُ بهِ حجرُ الكعبةِ الشّريفةِ] أمنَ البيتِ هوَ؟

قالَ: نعم.

فقلتُ: فمَا لهُم لم يدخلوهُ فِي البيتِ؟

قالَ: إنَّ قومكِ قصرَت بهمُ النّفقةُ.

قلتُ: فمَا شأنُ بابهِ مرتفعاً؟

قالَ: فعلَ ذلكَ قومكِ ليُدخلوا مَن شاءُوا ويمنعُوا مَن شاءُوا، ولولا أنَّ قومكِ حديثُ عهدٍ بالجاهليّةِ فأخافُ أن تنكرَ قلوبهُم أن أدخِلَ الجدارَ فِي البيتِ وأن ألصقِ بابهُ فِي الأرضِ). [صحيحُ البخاريّ 2: 190،  1584 كتابُ الحجِّ، بابُ فضلِ مكّةَ وبنيانهَا].

وعندمَا استولى ابنُ الزّبيرِ على الحكمِ فِي مكّةَ أعادَ بناءَ الكعبةِ بعدَ أن ضُربَتْ بالمنجنيقِ.

قالَ إبنُ كثيرٍ فِي "البدايةِ والنّهايةِ": ذِكرُ هدمِ الكعبةِ وبنائها فِي أيّامِ ابنِ الزّبيرِ:

قالَ إبنُ جريرٍ: وفِي هذهِ السّنةِ هدمَ إبنُ الزّبيرِ الكعبةَ، وذلكَ لأنّهُ مالَ جدارُهَا مِن رمي المنجنيقِ فهدمَ الجدارَ حتّى وصلَ إلى أساسِ إبراهيمَ.

وكانَ النّاسُ يطوفونَ ويصلّونَ مِن وراءِ ذلكَ، وجعلَ الحجرَ الأسودَ فِي تابوتٍ فِي سِرقٍ مِن حريرٍ، وادّخرَ مَا كانَ فِي الكعبةِ مِن حليٍّ وثيابٍ وطيبٍ، عندَ الخزّانِ، حتّى أعادَ إبنُ الزّبيرِ بناءهَا على ما كانَ رسولُ اللهِ  يريدُ أن يبنيهَا عليهِ مِنَ الشّكلِ.

وذلكَ كمَا ثبتَ فِي الصّحيحينِ وغيرهِما منَ المسانيدِ والسّننِ، مِن طرقٍ عَن عائشةَ أمِّ المؤمنينَ أنَّ رسولَ اللهِ قالَ: «لولا حدثانُ قومكِ بكفرٍ لنقضتُ الكعبةَ ولأدخلتُ فيهَا الحجرَ، فإنَّ قومكِ قصرَت بهمُ النّفقةُ، ولجعلتُ لهَا باباً شرقيّاً وباباً غربيّاً، يدخلُ النّاسُ مِن أحدهمَا ويخرجونَ منَ الآخرِ، ولألصقتُ بابهَا بالأرضِ فإنّ قومكِ رفعُوا بابهَا ليُدخلُوا مَن شاؤُوا ويمنعُوا مَن شاؤُوا».

فبناهَا إبنُ الزّبيرِ على ذلكَ كمَا أخبرتهُ بهِ خالتهُ عائشةُ أمُّ المؤمنينَ عَن رسولِ اللهِ، فجزاهُ اللهُ خيراً.

ثمَّ لمَّا غلبهُ الحجّاجُ بنُ يوسفَ فِي سنةِ ثلاثٍ وسبعينَ كمَا سيأتِي، هدمَ الحائطَ الشّماليَّ وأخرجَ الحجرَ كمَا كانَ أوّلاً، وأدخلَ الحجارةَ الّتِي هدمهَا فِي جوفِ الكعبةِ فرصّهَا فيهِ، فارتفعَ البابُ وسدَّ الغربيَّ.

وتلكَ آثارهُ إلى الآنَ، وذلكَ بأمرِ عبدِ الملكِ بنِ مروانَ فِي ذلكَ، ولَم يكُن بلغهُ الحديثُ، فلمَّا بلغهُ الحديثُ قالَ: وددنَا أنّا تركناهُ ومَا تولّى مِن ذلكَ. انتهَى [البدايةُ والنّهايةُ 8:275].

هذا وتشيرُ الرّواياتُ عندنَا بأنَّ الإمامَ المهديّ (عليهِ السّلامُ) عندَ ظهورهِ المُباركِ يعيدُ بناءَ الكعبةِ الشّريفةِ وفقَ الأسسِ التي بنيَتْ عليهَا مِن قبلِ نبيِّ اللهِ إبراهيمَ (عليهِ السّلامُ). [انظُر الكافِي للكلينيّ ج4 ص 543]، وبذلكَ يحقّقُ مَا كانَ يريدهُ جدّهُ رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) مِن بناءِ الكعبةِ وفقَ أسسِ إبراهيمَ (عليهِ السّلامُ) ويُلغِي كلَّ بناءٍ وطريقةٍ مُبتدعةٍ فِي بنائهَا مِن قبلِ قريشٍ وغيرهِم كمَا أشارَ إليهِ البُخاريّ فِي أحاديثهِ المُتقدّمةِ. 

ودُمتُم سالِمينَ. 

 

المرفقات