مَاذَا يَقصُدُ الحَاكِمُ النِّيسَابُورِيُّ فِي كِتَابِهِ المُستَدرَكِ فِي حُكمِهِ عَلَى الأَحَادِيثِ بِقَولِهِ: إِنَّها عَلَى شَرطِ الشَّيخَينِ، وَلَمْ يُخرِجَاهُ؟

أَحْمَدُ/السُّعُودِيَّةُ/: يَذكُرُ الحَاكِمُ النِّيسَابُورِيُّ فِي المُستَدرَكِ عَلَى الصَّحِيحَينِ عِبَارَةً (عَلَى شَرطِ الشَّيخَينِ أَو عَلَى شَرطِ البُخَارِيّ أَو مُسلِمِ وَلَمْ يُخرِجَاهُ) فَمَا هُوَ شَرطُهُمَا وَمَا قَصدُهُ بِلَمْ يُخرِجَاهُ؟

: اللجنة العلمية

الأَخُ أَحْمَدُ المُحْتَرَمُ:

السَّلامُ عَلَيكُم وَرَحمَةُ ٱللهِ وَبَرَكَاتُهُ:-

نَظَرَاً لِأَهَمِّيَّةِ هَذَا السُّؤَالِ، فَإِنَّ الجَوَابَ عَنْهُ سَيَكُونُ عَلَى مَسَايِلَ ثَلَاثٍ:

المَسأَلَةُ الأُولَى: إِنَّ شُرُوطَ الشَّيخَينِ (البُخَارِيِّ وَمُسلِمٍ) فِي كِتَابَيهِمَا (الصَّحِيحَينِ) مَعرُوفَةٌ لَدَى أَهْلِ العِلمِ، وَسَأَذكُرُهَا بِٱختِصَارٍ فِي نُقَاطٍ أَربَعَ، مَعَ الأَمثِلَةِ التَّوضِيحِيَّةِ:

(1) - أَنْ يَتَوفَّرَ الٱتِّصَالُ فِي أَسَانِيدِ الأَحَادِيثِ الَّتِي يَسُوقَانِهَا فِي كِتَابَيهِمَا مِنْ بِدَايَتُهَا إِلَى نِهَايَتِهَا بأحد وسائل الاتّصال المعروفة بَينَ عُلَمَاءِ الفَنِّ، فَمَثَلَاً: لَو قَالَ البُخَارِيُّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ حَدَّثَنَا يَحيَى عَنْ مُوسَى عَنِ ٱبْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ عَنِ النَّبِيِّ (ص) أَنَّهُ قَالَ: (كَذَا وَكَذَا). فَهُنَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ البُخَارِيُّ فِعلاً سَمِعَ مِنْ شَيخِهِ عَلِيٍّ، وَعَلِيٌّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَ الحَدِيثَ مِنْ يَحيَى، وَهَكَذَا حَتَّى يَنتَهِي الإِسنَادُ إِلَى النَّبِيّ (ص). 

(2) - أَنْ تَتَوَفَّرَ العَدَالَةُ وَالوَثَاقَةُ فِي رُوَاةِ الحَدِيثِ، بِمَعنَى أَنْ يَكُونَ البُخَارِيُّ مَحكُومَاً عَلَيهِ مِنْ قِبَلِ نُقَّادِ الجَرحِ وَالتَّعدِيلِ بأنّه ثِقَةٌ عَادِلٌ، وَهَكَذَا يجب أَنْ يَكُونَ الحُكمُ عَلَى شَيخِهِ عَلِيٍّ، إِلَى أَنْ يَنتَهِيَ الإِسنَادُ إِلَى الصَّحَابِيِّ أَنَسِ عَنِ النَّبِيّ (ص). 

(3) - أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الرُّوَاةُ مِمَّن ٱعْتَمَدَ عَلَيهِما البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ فِي رُوَايَةِ الأُصُولِ مِنَ الأَحَادِيثِ، وَلَيسَ فِي رُوَايَةِ الأَحَادِيثِ الَّتِي تُخَرَّجُ فِي الشَّوَاهِدِ أَوِ المُتَابَعَاتِ.

(4) - أَنْ تَكُونَ الأَحَادِيثُ الَّتِي يَحتجَّانِ بِهَا فِي كِتَابَيهِمَا خَالِيَةً مِنْ كُلِّ شُذُوذٍ وَعِلَّةٍ.

وَأَمَّا المَسأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَإِنَّ المَعرُوفَ بَينَ أَهْلِ العِلمِ أَنَّ البُخَارِيَّ وَمُسلِمَاً لَمْ يَستَوعُبَا جَمِيعَ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةُ فِي كِتَابَيهِما، بلٍ تَرَكَا كَثِيرَاً مِنَ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَمَا نبّه عَلَى ذَلِكَ أَهْلِ العِلمِ عِنْدَ مُنَاقَشَتِهِم لِلحَدِيثِ الصَّحِيحِ, (يُنظَرُ مَثَلَاً: تَدرِيبُ الرَّاوِي لِلسِّيُوطِيِّ - بَابُ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَفِيهِ تَفصِيلٌ لِهَذِهِ المَسأَلَةِ), وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ جَاءَ العُلَمَاءُ مِنْ بَعدِهِما فَٱستَدرَكَا عَلَيهِما مَجمَوعَةً كَبِيرَةً مِنَ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي يُفتَرَضُ أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى شَرطُ البُخَارِيّ وَمُسلمِ، وَبَعضُهُم كَانَ مُوَفَّقَاً فِي هَذَا الإِستِدرَاكِ، وَبَعضُهُم لَمْ يَكُنْ كَذَلِكُ فَمِن هَؤُلَاءِ العُلَمَاءِ الحَاكِمُ النِّيسَابُورِيُّ صَاحِبُ المُستَدرَكُ، فَقَدْ أورد فِي كتابه هَذَا أَحَادِيثَ كَثِيرَة فِي أَبوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَكَانَ يَحكُمُ عَلَى الحَدِيثِ بَعْدَ الإِنتِهَاءِ مِنهُ بِأَنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرطِ الشَّيخَينِ أَو عَلَى شَرطِ أَحَدِهِمَا، لَكِن فِي حَقِيقَةِ الأَمرِ أَنَّ الحَاكِمَ النِّيسَابُورِيَّ لَمْ يَكُنْ مُصِيبَاً فِي ذَلِكَ فِي أَغلَبِ أَحكَامِهِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ غَيرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِمَّن دَرَسَ كِتَابَ المُستَدرَكِ، فَقَدْ قَالَ الزَّيلَعِيُّ فِي كِتَابِهِ (تَخرِيجُ أَحَادِيثِ الهِدَايَةِ) (1/342): قَالَ ٱبْنُ دِحيَة فِي كِتَابِهِ (العِلمُ المَشهُورُ فِي فَضَائِلِ الأَيَّامِ والشُّهُورِ): يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الحَدِيثِ أَنْ يَتَحَفَّظُوا مِنْ قَولِ الحَاكِمِ؛ فَإِنَّهُ كَثِيرُ الغَلَطِ، ظَاهِرُ السَّقطِ، وَقَد غَفَلَ عَنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّن جَاءَ بَعدَهُ، وَقَلَّدَهُ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ العَينِيُّ فِي كِتَابِهِ (البِنَايَةِ) (1/627): قَدْ عُرِفَ تَسَاهِلُهُ وَتَصحِيحُهُ لِلأَحادِيثِ الضَّعِيفَةِ بلْ المَوضُوعَةِ. وَقَالَ اللَّكْنَوِيُّ فِي كِتَابِهِ (الأَجوِبَةُ الفَاضِلَةُ)، فِي الصَّفحَةِ (162): فَكَم مِنْ حَدِيثٍ حَكَمَ عَلَيهِ الحَاكِمُ بِالصَّحَّةِ، وَتَعقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ؛ بِكَونِهِ ضَعِيفَاً أَو مَوضُوعَاً، فَلَا يُعتَمَدُ عَلَى (المُستَدرَكِ) مَا لَمْ يُطَالِعْ مَعَهُ (مُختَصَرَهُ) لِلذَّهَبِيِّ. 

وَالمَسأَلَةُ الثَّالِثَةُ: بَعْدَ أَنْ عَرَفنَا أَنَّ الحَاكِمَ كَانَ مُتَسَاهِلَاً فِي إِطلَاقِ الصَّحِيحِ عَلَى الأَحَادِيثِ وَلَا يُعتَمَدُ عَلَيهِ فِي ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ تَبَيَّنَ لَنَا أَيضَاً أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مصيباً فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَدَّعِيهِ بِأَنَّ البُخَارِيّ وَمُسلِمَ لَمْ يُخَرِّجَاهُ (أَيٍ لَمْ يُخَرِّجَا الحَدِيثَ فِي كِتَابَيهِما)، وَالحَالُ أَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الأَمرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَكَم مِنْ حَدِيثٍ حَكَمَ عَلَيهِ الحَاكِمُ بِأَنَّ البُخَارِيَّ وَمُسلِمَ لَمْ يُخَرِّجَاهُ؛ فَإِذَا هُوَ بَعْدَ التَّدقِيقِ مَوجُودٌ فِي الصَّحِيحَينِ أَو فِي أَحَدِهِمَا، وَبِوِسعِكَ الرُّجُوعُ إِلَى بَحثٍ لَطِيفٍ فِي خُصُوصِ هَذَا المَجَالِ، لِمُؤَلِّفٍ مُعَاصِرٍ، ٱسْمُهُ (مُحَمَّدُ بْنُ محمود بْنِ إِبرَاهِيمَ عَطِيَّة)، وَقَدْ عَنوَنَ كِتَابَهُ بِهَذَا العُنوَانِ الكَبِيرِ: ((الإِنتِبَاهُ لِمَا قَالَ الحَاكِمُ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وهو فِي أَحَدِهِمُا أَو رَوَيَاهُ))، وَالكِتَابُ مَطبُوعٌ بِدَارِ النَّوَادِرِ فِي قَطَرَ.

هَذَا وَقَدْ بَيَّنَا هَذَا الأَمرَ بِهَذَا التَّفصِيلِ؛ لِنُنَبِّهَ عَلَى خُطُورِةِ مَا يَصنَعُهُ بَعضُ البَاحِثِينَ المُعَاصِرِينَ وَغَيرُهُم حِينُ يَعتَمِدُونَ عَلَى تَصحِيحِ الحَاكِمِ مُطلَقَاً، وَلَا يُرَاعُونَ أَقوَالَ العُلَمَاءِ فِي حَقِّهِ. وَفَّقَنَا ٱللهُ وَإِيَّاكُم لِمَا يُحِبُّ وَيَرضَىٰ.

وَدُمْتُمْ سَالِمِينَ