مَعْنَى (إيَابُ الخَلْقِ إليْكُمْ وَحِسَابُهُمْ عَلَيْكُمْ) في الزِّيارَةِ الجَامِعَةِ.

مَهْدِي: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ.. مَاذَا تَعْنِي هذِهِ العِبَارَةُ في الزِّيَارَةِ الجَامِعَةِ الكَبِيرَةِ: (إيَابُ الخَلْقِ إلَيْكُمْ وَحِسَابُهُمْ عَلَيْكُمْ).. العِبَارَةُ تَقُولُ: (إيَابُ الخَلْقِ) أيْ كُلُّ الخَلْقِ... فإذَا كَانَ كُلُّ الخَلْقِ يَؤُوبُونَ لِآلِ مُحَمَّدٍ فأيْنَ اللهُ؟

: اللجنة العلمية

     الأخُ مَهْدِي المُحْتَرَمُ.. السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

     هَذا المَقْطَعُ مِنْ الزِّيَارَةِ الجَامِعَةِ مَعْنَاهُ أنَّ رُجُوعَ النَّاسِ - الَّذَي هُو مَعْنَى الإيَابِ -  في أخْذِ عُلُومِ الدِّينِ في الدُّنْيَا إنَّمَا هُو إلَيْكُمْ يَا أهْلَ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَأنَّ حِسَابَهُمْ وَمُجَازَاتِهِمْ في الآخِرَةِ عَلَيْكُمْ.

     تَقُولُ: وَلَكِنَّ هَذا يُعَارِضُ قَوْلَهُ تَعَالَى: ( إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) الغَاشِيَةُ 25و26، فَأيْنَ اللهُ مِنْ هَذا الإيَابِ وَالحِسَابِ؟!!

     الجَوَابُ: 

     لَا تُوجَدُ مُنَافَاةٌ بَيْنَ الآيَةِ الكَرِيمَةِ وَالمَقْطَعِ المَذْكُورِ مِنْ الزِّيَارَةِ الجَامِعَةِ، وَقَدْ وُجِدَتْ مِثْلُ هَذِهِ التَّعَابِيرِ - الَّتِي ظَاهِرُهَا التَّعَارُضُ - فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ نَفْسِهِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (الآيَةُ 42)  بَيْنَمَا وَرَدَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} (الآيَةُ 97)، وَكَذَلِكَ وَرَدَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ (ص): {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ المَلَائِكَةُ} (الآيَةُ 27)، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (سُورَةُ السَّجْدَةِ، الآيَةُ 11).

     فَهَلْ يُوجَدُ تَنَافٍ بَيْنَ هَذِهِ التَّعَابِيرِ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ؟

     الجَوَابُ:

     لَا يُوجَدُ تَنَافٍ قَطْعًا، فَالفِعْلُ كَمَا تَصِحُّ نِسْبَتُهُ لِلفَاعِلِ المُبَاشِرِ تَصِحُّ نِسْبَتُهُ للَّذِي كَانَ سَبَبًا فِيهِ أَيْضًا، فَالإِنْسَانُ تَارَةً يَقْتُلُ شَخْصًا بمدية - سِكِّينٌ - بِنَفْسِهِ فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ قَاتِلُ فُلَانٍ، وَأُخْرَى يُعْطِي هَذِهِ السِّكِّينَ لِشَخْصٍ مَا وَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَقْتُلَهُ بِهَا فَيَقْتُلُهُ، وَهُنَا أَيْضًا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ أَنَّهُ قَاتِلٌ فُلَانًا لِأَنَّهُ كَانَ سَبَبًا فِي قَتْلِهِ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِلمُبَاشِرِ بِالقَتْلِ بِأَنَّهُ قَاتِلُ فُلَانٍ لِأَنَّهُ قَامَ بِعَمَلِيَّةِ القَتْلِ مُبَاشَرَةً.

     قَالَ العَلَّامَةُ الشَّنْقِيطِي فِي كِتَابِهِ "أَضْوَاءِ البَيَانِ "عِنْدَ تَفْسِيرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ; لِأَنَّ المَلَائِكَةَ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَتَوَفَّوْا أَحَدًا إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا).

     فَتَحْصَّلَ أَنَّ إِسْنَادَ التَّوَفِّيِ إِلَى مَلَكِ المَوْتِ فِي قَوْلِهِ هُنَا: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)، لِأَنَّهُ هُوَ المَأمُورُ بِقَبْضِ الأَرْوَاحِ، وَأَنَّ إِسْنَادَهُ لِلمَلَائِكَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ) الآيَةُ، وَنَحْوِهَا مِنْ الآيَاتِ; لِأَنَّ لِمَلَكِ المَوْتِ أَعْوَانًا يَعْمَلُونَ بِأَمْرِه، وَأَنَّ إِسْنَادَهُ إِلَى اللهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَائِنًا مَا كَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، وَالعِلْمُ عِنْدَ الله تَعَالَى). انْتَهَى [أَضْوَاءُ الْبَيَانِ 6: 185].

     وَمِنْ خِلَالِ هَذَا البَيَانِ يَرْتَفِعُ الإِشْكَالُ فِي السُّؤَالِ المَذْكُورِ كُبْرَوِيًّا، أَيْ حَوْلَ صِحَّةِ نِسْبَةِ الإِيَابِ وَالرُّجُوعِ دُنْيَا وَآخِرَةٍ لِأَهْلِ البَيْتِ (عَلَيْهِمْ السَّلَامُ) إِذَا كَانَ هَذَا الإِيَابُ وَالرُّجُوعُ بِإِذْنِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ، كَمَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ لِلهِ (عَزَّ وَجَلَّ)، فَلَا تَنَافِيَ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الآيَاتِ الكَرِيمَةِ.

     وَأَمَّا صُغْرَوِيًّا - أَيْ ثُبُوتُ ذَلِكَ الإِيَابِ وَالرُّجُوعِ لِأَهْلِ البَيْتِ (عَلَيْهِمْ السَّلَامُ) فِعْلًا - فَمِنْ حَيْثُ الإِيَابُ فَقَدْ جَعَلَهُمْ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) أَحَدَ الثِّقْلَيْنِ الَّذِينَ أَمَرَ الأُمَّةَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ وَالتَّمَسُّكِ بِهِمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ حَيْثُ قَالَ: {إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، أَحَدَهُمَا أَعْظَمُ مِنْ الآخِرِ: كِتَابَ اللهِ، حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تُخَلِّفُونِي فِيهِمَا} [مُخْتَصَرُ صَحِيحِ الجَامِعِ الصَّغِيرِ للسُّيُوطيِّ وَالأَلْبَانِيِّ، رَقْمُ الحَدِيثِ 1726 – 2458].

     وَقَوْلُهُ (ص): {إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ خَلِيفَتَيْنِ: كِتَابَ اللهِ، حَبْلٌ مَمْدُودٌ مَا بَيْنَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَإنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ} [صَحِيحُ الجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلأَلْبَانِيِّ 1: 482 ].

     وَمِنْ حَيْثُ الحِسَابُ فِي الآخِرَةِ فَقَدْ وَرَدَتْ جُمْلَةٌ مِنْ الرِّوَايَاتِ فِي هَذَا الجَانِبِ يُسْتَفَادُ مِنْهَا أَنَّ أَهْلَ البَيْتِ (عَلَيْهِمْ السَّلَامُ) سَتُوكَلُ لَهُمْ مُهِمَّةُ حِسَابِ الخَلْقِ يَوْمَ القِيَامَةِ.

     فَفِي الكَافِي: عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، قَالَ: (يَا جَابِرُ! إِذَا كَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ جَمَعَ اللهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لِفَصْلِ الخِطَابِ، وَدَعَا رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)، وَدَعَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ). إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ يُصَوَّرَانِ، ثُمَّ يُدْعَى بِنَا فَيُدْفَعُ إِلَيْنَا حِسَابُ النَّاسِ، فَنَحْنُ وَاللهِ نُدْخِلُ أَهْلَ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وَأَهْلَ النَّارِ النَّارَ...) (الحَدِيثُ). [الكَافِي - للكليني 8: 159]. 

     وَفِيهِ أَيْضًا: عَنْ سُمَاعَةَ، قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا مَعَ أَبِي الحَسَنِ الأَوَّلِ وَالنَّاسُ فِي الطَّوَافِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَقَالَ: (يَا سُمَاعَةُ! إِلَيْنَا إِيَابُ هَذَا الخَلْقِ وَعَلَيْنَا حِسَابُهُمْ...) (الحَدِيثُ). [ص 162].

     وَدُمْتُمْ سَالِمِينَ.