الشبهة: قِصَّةُ مُوسَى مَع الخِضْرِ تُثبِتُ بُطلَانَ عَقَائِدِ الشِّيعةِ!!

قصَّةُ مُوسى(ع) مع الخِضرِ تُثبتُ بُطلانَ عَقائدِ الشِّيعةِ وتُبيِّنُ:      1- أنَّ الأنبِياءَ(ع) لا يَعلمُونَ الغَيبَ ما كانَ وما يَكونُ وما هو كائِنٌ.      2- أنَّ الأنبِياءَ(ع) غيرُ مَعصُومينَ عِصمةً تَامةً، وذلك باعْتِراضِ مُوسى(ع) على الخِضرِ رَغمَ عِلمِه أنَّ ما عَملَه بأمْرِ اللهِ وليس من عندِه.       3- أنَّ الأنبِياءَ(ع) ينسُونَ ويسهُونَ.

: اللجنة العلمية

     الأخُ المحتَرمُ.. السَّلامُ علَيكم ورَحمةُ اللهِ وبرَكاتُه. 

     عَقائدُ الشِّيعةِ بحَمدِ اللهِ تعالى أقوَى منَ الجِبالِ الرَّواسِي لِسَببٍ وَاحدٍ فقط أنَّ أغلَبَها يُمكنُ إثبَاتُه مِن كُتبِ الخُصومِ وبأقوَى الحِججِ، وهذِه مِن أقوَى طُرقِ الإثْباتِ في علمِ الخِلافِ، وهو ما تَنفرِدُ به الشِّيعةُ الإمامِيةُ دونَ الفِرقِ الإسْلامِيةِ كلِّها، التي تُثبتُ مُدعِياتِها من كُتبِها نَفسِها فقط، وهو ما يَلزمُ الدَّورَ في الإسْتِدلالِ، فَيكونُ مِن أضْعفِ حَالاتِ الإسْتِدلالِ، بل لا تُوجدُ فيه دِلالةٌ البتَّةَ.

     وإليك الرَّدُ على مُدعِياتِك مِن كُتبِك نَفسِها حتى تعلَمَ محلَّ جَهلِك بِمصَادرِك وأقْوالِ عُلمائِك.

     قَولك: (إنَّ الأنبِياءَ (ع) لا يَعلمُونَ الغَيبَ ما كانَ وما يَكونُ وما هو كائنٌ).

     الجوَابُ: لقد وردَ في أصحِّ كُتبِك (البخاري ومسلم) أحادِيثُ تقُول: إنَّ النَّبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَعلمُ ما كانَ وما هو كائنٌ إلى يومِ القِيامةِ، وإنَّه علمَّ أصْحابَه بهِذه العُلومِ، وبالتَّالِي يَكونُ الصَّحابةُ أيضاً يَعلمُونَ ما كانَ وما هو كائنٌ بِحَسبِ دِلالةِ هذِه الأحَاديثِ، وإليك نُبذةٌ منها:

     1- أخْرجَ البخاري في صَحيحِه "كتابُ بدءِ الخلق"، بابُ ما جاءَ في قَول اللهِ تعالى: (وهو الَّذي يَبدأُ الْخلقَ ثم يُعيدُه وهو أهْونُ عليه):

3020 – حدَّثنا ‏عمرُ بنُ حفصِ بنُ غياث، حدَّثنا ‏‏أبي، حدثَّنا ‏الأعمشُ، ‏حدَّثنا ‏‏جامعُ بنُ شدادٍ‏، عن ‏صفوانِ بنِ محرزٍ ‏‏أنَّه حدَّثه، عن عمرانِ بنِ حصِين ‏‏(ر) ‏قَال: ‏‏دَخلتُ على النَّبيِّ (ص) ‏وعَقلْتُ نَاقتِي بالبَابِ فَأتاهُ ناسٌ مِن ‏بنِي تميمٍ ‏‏فقال: اقْبلُوا البُشرَى يا ‏‏بنِي تميمٍ، ‏قالُوا: قد بشَّرتَنا فَأعْطِنا مرَّتينِ. ثم دَخلَ عليْه ناسٌ من ‏أهلِ اليَمنٍ، ‏فقَال: اقْبلُوا البُشرَى يا ‏‏أهلَ اليَمنِ ‏إذ لم يَقبلْها ‏ ‏بنُو تميمٍ، ‏قالُوا: قد قَبِلنا يا رسُولَ اللهِ، قالُوا: جِئنَاك نسْألُك عن هذا الأمْرِ، قاَل: ‏كانَ اللهُ ولم يَكنْ شيءٌ غَيرُه، وكانَ عَرشُه على الماءِ، وكَتبَ في الذِّكرِ كلَّ شيءٍ، وخَلقَ السَّمواتِ والأرضَ فنَادَى منادٍ: ذَهبَتْ نَاقتُك يا بنَ الحصِين. ‏فانْطلقْتُ فإذا هي يَقطعُ دونَها السَّرابُ، فو اللهِ لَوددَّتُ أنِّي كُنتُ تَركتُها. ‏ ‏ورَوى ‏ ‏عِيسى‏، عن ‏ ‏رقبَة‏، عن ‏‏قيسِ بنِ مُسلمٍ‏، عن ‏طارقِ بنِ شِهابٍ‏، ‏قَال: سَمِعتُ ‏‏عُمرَ ‏(ر) ‏يقُول: ‏قامَ فينا النَّبيُّ ‏(ص) ‏‏مَقاماً فَأخبَرَنا عن بدءِ الخَلقِ حتى دخلَ أهلُ الجَنةِ مَنازِلَهم وأهلَ النَّارِ مَنازِلَهم، حَفِظَ ذلك مَن حَفِظَه ونَسِيَه مَن نَسِيَه. انتهى. 

     2- أخْرجَ مُسلمٌ في صَحيحِه - كتابُ الفتنِ وأشْراطِ السَّاعةِ - ‏بابُ إخْبارِ النَّبيِّ (ص) فيما يَكونُ إلى قيامِ السَّاعةِ:

2892- وحدَّثنِي ‏ ‏يعقُوبُ بنُ إبراهيمَ الدّورقي، ‏وحجاج بن الشاعر ‏جميعاً، عن ‏‏أبي عاصمٍ، ‏قَال ‏حجَّاج: حدَّثنا‏ ‏أبو عاصم، أخبَرَنا عزرة بنُ ثابتٍ، أخبَرَنا ‏علباءُ بن أحْمر، حدَّثني ‏أبو زيدٍ يعني عمْرو بن أخْطب، ‏قَال: ‏ صلَّى بنا رسُولُ اللهِ ‏ (ص) ‏ ‏الفجْرَ وصَعدَ المنْبرَ فخَطَبنا حتى حَضرتْ الظُّهرُ فَنزلَ فصلَّى، ثم صَعدَ المنْبرَ فخَطًبنا حتى حَضرتْ العَصرُ، ثم نزلَ فصلَّى، ثم صَعدَ المنْبرَ فخَطَبنا حتى غَربتْ الشَّمسُ فأخبَرَنا بما كانَ وبما هو كائنٌ فأعْلمَنا أحفظُنا. انتهى.

     3- وجاءَ في صَحيحِ مُسلمٍ - كتابُ الفتنِ وأشْراطِ السَّاعةِ، بابُ إخْبارِ النَّبيِّ (ص) فيما يَكونُ إلى قيامِ السَّاعةِ:

 2891- وحدَّثنا ‏عثمانُ بنُ أبي شيْبةَ، ‏وإسحاقُ بنُ إبراهيمَ، ‏قَال عثمانُ: حدَّثنا. ‏وقَال ‏إسحاقُ: أخبَرَنا ‏جرير، عن ‏‏الأعْمش‏، عن ‏شقيقٍ‏، عن‏ ‏حُذيفةَ، قال: ‏قامَ فينا رسُولُ اللهِ (ص) ‏‏مقاماً ما تركَ شَيئاً يَكونُ في مقَامِه ذلك إلى قيامِ السَّاعةِ إلا حدَّثَ به، حَفِظَه من حَفِظَه ونَسِيَه من نَسِيَه، قد علَّمَه أصْحابِي هؤلاءِ وإنَّه ليَكونُ منه الشيءُ، قد نَسيتُه فأرَاه فأذْكُرُه كما يَذكرُ الرَّجلُ وجهَ الرَّجلِ إذا غابَ عنه، ثم إذا رآه عَرفَه، وحدَّثناه ‏أبو بكر بنِ أبي شَيبةَ، حدَّثنا ‏وكيع‏، عن‏ ‏سفيانَ‏، عن ‏‏الأعْمشِ ‏‏بهذا الإسْنادِ ‏إلى قَوله: ونَسيَه من نَسيَه، ولم يَذكُرْ ما بَعده. انتهى.

      فهذِه أحَادِيثُ صَرِيحةٌ في علمِ النَّبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بما كانَ وبما يَكونُ إلى يومِ القيَامةِ، فهي تَتحدَّثُ عن بدءِ الخَلقِ إلى أشْراطِ السَّاعةِ، وقد أملَاها رسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) على الصَّحابةِ (حَفظَ ذلك من حَفظَه ونَسيَه مَن نَسيَه).

     فهل عَرفتَ محلَّ جَهلِك بِكُتبِك وأحَادِيثُك حتى جِئتَ مُهَرولاً تُريدُ إبْطالَ عَقائدِ الشِّيعةِ بما له أصلٌ صَحيحٌ وصَريحٌ في كُتبِك؟!!!

     نعم، قد يَجهلُ بعضُ الأنبِياءِ بعضَ العُلومِ، كما في قصَّةِ مُوسى (عليه السلام) والخِضرِ (عليه السلام)، ولكن هذا لا يَعنِي التَّعمِيمُ بأنَّ كلَّ الأنبِياءِ يَجهلُونَ كذلِك وإلا جَعلتَ الخِضرَ (عليه السلام) أفْضلَ من سيِّد الأنبِياءِ (عليه أفضل الصلاة والسلام)، وهذا لا يقُول به مُسلمٌ قط، فتَنبَّهْ لِمُدَّعِياتِك!!

     قَولك: (إنَّ الأنبِياءَ(ع) غيرُ مَعصُومينَ عِصمةً تامَّةً، وذلك باعْتِراضِ مُوسى(ع) على الخِضرِ رغمَ عِلمِه أنَّ ما عَمِلَه بأمْرِ الله وليس مِن عندِه).

     الجَوابُ: كانَ مُوسى (عليه السلام) يَتعامَلُ مع ظَواهرِ الأشْياءِ حَسبَ الشَّرِيعةِ التي أرْسلَه اللهُ بها، ولم يَكنْ يَملِكُ العِلمَ البَاطنَ الذي يَملِكُه الخِضرُ (عليه السلام)، وعندَما رأى أمَامَه مُخالفَاتٍ ظَاهِريةً، وهي التَّصرُّفُ في مِلكِ الغَيرِ بِغَيرِ إذْنِهم (خرق السفينة)، وقتلُ النَّفسِ المُحتًرمةِ بدُونِ ذنبٍ ظاهرٍ (قتل الغلام)، وتَصرُّفٌ غيرُ مَنطِقي (إقامةُ جدارٍ لأنَاسِ لم يَحترِمُوهُم ولم يُضيِّفُوهم)، كانَ مِن تَمامِ عِصمَتِه وتَكلِيفِه أنْ يَستفسِرُ منَ الخِضرِ عن تَصرُّفاتِه هذِه المُخالِفةِ لظَواهرِ الشَّرِيعةِ التي أرْسلَه اللهُ بها.

     قَال ابنُ كثيرٍ في تفسيره ج3 ص 101: ( ( إنَّك لن تَستطِيعَ معيَ صَبراً ) أي: أنتَ لا تَقدِرُ أنْ تُصاحِبَني لما تَرى [مني] منَ الأفْعالِ التي تُخالِفُ شَريِعتَك؛ لأنِّي على علمِ مِن علمِ اللهِ ما علَّمَكه اللهُ، وأنت على علمٍ مِن علمِ اللهِ ما علَّمنِيه اللهُ، فكلٌّ منا مُكلَّفٌ بأمُورٍ منَ اللهِ دونَ صَاحبِه، وأنت لا تَقدرُ على صُحبَتي (وكيفَ تَصبِرُ على ما لم تُحطْ به خُبراً) فأنَا أعْرِفُ أنَّك سَتنْكرُ عليَّ ما أنت مَعذورٌ فيه، ولكن ما اطَّلعتَ على حِكمَتِه ومَصلَحتِه البَاطِنةِ التي اطَّلعتُ أنا عليْها دونَك). انتهى.

     وقَال القُرطبِي في تفسيره ج11 ص 17: ( {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} أي إنَّك يا مُوسى لا تُطيقُ أنْ تَصبِرَ على ما تَراه من عِلمِي؛ لأنَّ الظَّواهِرَ التي هي عِلمُك لا تُعطِيه، وكيف تَصبِرُ على ما تَراه خطأً ولم تُخبَرْ بوَجهِ الحِكمةِ فيه ولا طَريقِ الصَّوابِ، وهي مَعنى قَوله تعالى: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} والأنبِياءُ لا يُقرُّونَ على مُنكرٍ، لا يَجوزُ لهم التَّقرِيرُ. أي لا يَسعُك السُّكوتَ جَرْياً على عَادتِك وحُكمِك). انتهى.

     فكما تَرى من بيَانَاتِ عُلماءِ أهلِ أنْفسِهِم أنَّ مُوسى (عليه السلام) لم يُخالِفْ عِصمَتَه في اعْتِراضِه على الخِضرِ (عليه السلام) بل كانَ مِن تَمامِ تَكلِيفِه الشَّرعيِّ أنْ يَسألَ الخِضرَ عما يَراه مُخالِفاً لظَاهرِ الشَّرِيعةِ التي أرْسلَه اللهُ بها، وهو مُقتَضى تَكلِيفِه كما بيَّنَه العَلمَانِ هنا: (ابنُ كثيرٍ والقُرطبِي)، فَتدبَّرْ أقْوالَ عُلمَائِك قبلَ إبْطالِ عَقائِدِ غَيرِك !!

     قولك: (إنَّ الأنبِياءَ(ع) يَنسُونَ ويَسهُونَ) 

     الجواب: يُوجدُ للنِّسيَانِ مَعنَيانِ: عَدمُ الحِفظِ، والتَّركُ، وهو ما سَيُوضِّحُه لنا إمامُ المُفسِّرينَ عندَ أهلِ السُّنةِ ابنُ جريرِ الطَّبري، فقد قَال عند تَفسِيرِه لقَوله تعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (طـه: 115) (إنَّ النِّسْيانَ على وجْهينِ: أحَدُهما على وَجهِ التَّضيِيع منَ العبدِ والتَّفرِيطِ، والآخرُ على وَجهِ عجزِ النَّاسِي عن حِفظِ ما اسْتُحفظَ ووُكِّلَ به، وضَعفُ عَقلِه عن احْتمالِه.

      فأما الذي يَكونُ منَ العبدِ على وَجهِ التَّضيِيعِ منه والتَّفريطِ، فهو تَركٌ منه لِما أُمِرَ بفِعلِه. فذلِك الذي يُرَغِّبُ العبدَ إلى اللهِ (عز وجل) في تَركِه مُؤاخَذتَه به، وهو "النِّسيانُ" الذي عَاقبَ اللهُ (عز وجل) به آدمَ صَلواتُ اللهِ عليْه، فأخْرَجه منَ الجَنةِ، فقَال في ذلِك: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) [سورة طه: 115]، وهو النِّسيانُ الذي قَال جلَّ ثنَاؤه: (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا) [سورة الأعراف: 51]). انتهى. [جَامعُ البيَانِ في تأويلِ القُرآنِ لأبي جَعفر الطَّبرِي، طبْعةُ مُؤسَّسةِ الرِّسالةِ، ج6، ص133].

      وبهذا المَعنى من تَفسيرِ النِّسيانِ بالتَّركِ فسَّرَ الآيةَ الكَرِيمةَ القُرطُبيُّ والجَلالين (السيوطي والمحلي) وغَيرُهم.

   وكذلِك تُحمَلُ بَقيةُ الآيَاتِ الكَرِيمةِ التي وَردَ فيها نِسبةُ النِّسيانِ للأنبِياءِ (عليهم السلام)، مثلُ قَوله تعالى: (نَسِيتُ الحُوتَ)، أي تَركْتُه وفَقدتُّه. [راجِع: الكشفَ والبيانَ عن تَفسيرِ القُرآنِ للثَّعلَبي، طبْعةُ دارِ إحياءِ التُّراثِ العَربي، ج6، ص182)، ومَعالمَ التَّنزيلِ في تَفسيرِ القُرآنِ للبغوي، طبْعةُ دارِ إحياءِ التُّراثِ العَربي، ج3، ص204].

ومثلُ قَوله تعالى: (لا تُؤاخِذْني بما نَسِيتُ)، أي بما تَركْتُ. [راجِع: مداركَ التَّنزيلِ وحقَائقَ التَّأويلِ المشهُورُ بتَفسِيرِ النسفي، طبْعةُ دارِ الكلِم الطيِّب، ج2، ص312)، وأنْوارَ التَّنزيلِ وأسْرارَ التَّأويلِ المَشهُورُ بتَفسِيرِ البيضاوي، طبْعةُ دارِ إحياءِ التُّراثِ العرَبي، ج3، ص288)].

     ودُمتُم سَالِمينَ.