هل يسمع ويرى الميت اهله عند زيارة قبره؟

:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : لا شكَّ في أنَّ الميّتَ يسمعُ كلامَ مَن تكلّمَ معَه سواءٌ كانَ المُتكلّمُ معَه أهلُه أم غيرُهم وسواءٌ كانَ الميّتُ مؤمِناً أم كافِراً، فقد وردَ ذلكَ في كثيرٍ منَ الأخبارِ التي سأتعرّضُ إلى ذكرِها في الخِتام. وفي الحقيقةِ سيتّضحُ الجوابُ أكثر لو فهِمنا حقيقةَ الموت.  فهل الموتُ نهايةُ الإنسانِ أم هوَ بدايةٌ لحياةٍ جديدةٍ تختلفُ عن الحياةِ الدّنيا؟إنَّ حقيقةَ الإنسانِ والجوهرةَ في روحِه لا في بدنِه الفاني، والموتُ يُمثّلُ عمليّةَ انتقالِ الرّوحِ مِن عالمِ الدنيا والمادّةِ إلى عالمٍ آخرَ نُسمّيهِ بعالمِ البَرزخ. وعالمُ البرزخِ هوَ العالمُ الذي تحلُّ فيه أرواحُ البشرِ بعدَ تركِ هذه الدّنيا، فتدخلُ أجساماً لطيفةً ساميةً عن آثارِ هذهِ المادّةِ القذرة، إلّا أنّها على شكلِ أجسامِنا، ويقالُ لكلٍّ مِنها (الجسمُ المِثالي) وهوَ ليسَ مُجرّداً تمامَ التجريد، ولا هوَ ماديٌّ محض. إنّهُ يمتازُ بتجرّدٍ برزخيٍّ مُعيّن، وشبّهَه بعضُهم بما عليه الروحُ في أثناءِ ما يراهُ النائم، إذ تسرُّ الروحَ رؤيةُ النعم، وتعذّبُها مُشاهدةُ المناظرِ المُؤلمة، ولذلكَ أثّرَ في جسمِنا هذا، إذ نبكي عندَ رؤيةِ حُلمٍ مُزعج، ونفزعُ مذعورينَ مِن هولِ ما نرى، أو نضحكُ مِن أعماقِنا مِن طرافةِ ما نحلمُ بهِ في نومِنا.                                                                  تفسيرُ الأمثلِ - مكارِم الشيرازي (ج10/ص512)                       قالَ تباركَ وتعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوتِهَا وَالَّتِي لَم تَمُت فِي مَنَامِهَا فَيُمسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيهَا المَوتَ وَيُرسِلُ الأُخرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الزمر:42). وواضحٌ منَ الآيةِ المُباركةِ أنَّ الموتَ هوَ عمليّةُ استيفاءٍ وقبضٍ وليسَ إعداماً وإفناء. ومعنى ذلكَ أنَّ روحَ الإنسانِ تبقى حيّةً بعدَ موتِه وخروجَها منَ البدنِ ودخولَها عالمَ البَرزخ، ولازمُ ذلكَ أنَّ العقلَ والإدراكَ لا زالا مَوجودين. قالَ تعالى: (قِيلَ ادخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيتَ قَومِي يَعلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكرَمِينَ) (يس:26ـ27) فإنَّ الآيةَ صريحةٌ أنَّ التمنّي كانَ في عالمِ البَرزخ، لأنّهُ لو كانَ في عالمِ الآخرةِ لما كانَ مِن معنىً للتمنّي لأنَّ قومَه قد علِموا جزماً. إذَن هنالكَ إدراكٌ وعقلٌ للموتى في عالمِ البرزخِ وهُم يسمعونَ كلامَنا جزماً وقد دلّتِ الأخبارُ على ذلك. فقد روى الشيخُ عن عُقبةَ بنِ خالد قالَ: سألتُ أبا عبدِ الله (ع) ... ثمَّ مررتُ بقبورِ الشهداءِ فأقمتُ عندَهم فقلتُ: (السلامُ عليكُم يا أهلَ الديارِ أنتُم لنا فرطٌ وإنّا بِكُم لاحقون).                                                                  تهذيبُ الأحكامِ - الشيخُ الطوسي (ج6/ص17) ولازمُ السّلامِ أنَّ المُسلَّمَ عليهم وهُم الموتى يسمعونَ السّلام، وإلّا لم يكُن مِن معنىً للسّلامِ على موجودٍ لا يسمعُ ولا يُدرِكُ السلام.   وروى الحِميريُّ عن الحُسينِ بنِ علوان، عن جعفرٍ، عن أبيه، في السلامِ على أهلِ القبور: " السلامُ عليكُم يا أهلَ الديارِ مِن قومٍ مُؤمنين ورحمةُ اللهِ وبركاتُه، أنتُم لنا سلفٌ ونحنُ لكُم تبع، رحمَ اللهُ المُستقدمينَ مِنكم والمُستأخرين، وإنّا للهِ وإنّا إليه راجعون.                                                                        قُربُ الإسنادِ للحِميري (ج7/ص14) وروى الطبريُّ أنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله وقفَ على القليبِ يومَ بدرٍ فقال : « يا عُتبةَ بن ربيعة ، ويا شيبةَ بنَ ربيعة ، ويا أبا جهلٍ بنَ هشام ، يا فلانُ ، يا فلانُ ، والذي نفسُ مُحمّدٍ بيدِه ، إنّهم يسمعونَ كلامي الآن »                                                            مُسنَدُ عُمر بنِ الخطّابِ مِن تهذيبِ الآثارِ للطبري (ج2/ص487) وهُنا يُقسِمُ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلِه وهوَ الصّادقُ المُصدّقُ بأنَّ الموتى يسمعونَ كلامَ مَن سلّمَ عليه، حتّى إنّهُ صلّى اللهُ عليهِ وآلِه قالَ لبعضِ مَن معَه حينَما سألهُ عن هؤلاءِ الموتى هل يسمعونَ السلام قالَ: (ما أنتَ بأسمعَ مِنهم لكلامي). قالَ ابنُ عربي:  وَقَد ثَبَتَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ لَهُ فِي أَهلِ بَدرٍ: أَتُكَلِّمُ قَومًا قَد جَيَّفُوا؟ فَقَالَ: مَا أَنتُم بِأَسمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنهُم، غَيرَ أَنَّهُ لَم يُؤذَن لَهُم فِي الجَوَابِ»                                                                         أحكامُ القرآنِ لابنِ العربيّ ط العلمية (ج2/ص384)    وغيرها منَ الرواياتِ الكثيرةِ التي حرصَ أئمّةُ الهُدى عليهم السلام من خلالها على تأديبِ شيعتِهم على كيفيّةِ زيارةِ المَوتى وأن يُسلّموا عليهم بقولِهم ( السلامُ عليكُم يا أهلَ الديار ...) .ولا شكَّ أنَّ هذا السّلامَ ليسَ المعنيُّ به خصوصَ القبورِ القريبةِ منَ الزائرِ بل جميعَ الموتى الموجودينَ في المَقبرة وإن بعدوا وهذا دليلٌ على أنّهم يسمعونَ بأرواحِهم العاقلةِ وإنَّ عالمَ البرزخِ يختلفُ عن عالمِنا فهوَ خارجٌ عن قانونِ الزمانِ والمكان. ويشهدُ لذلكَ أيضاً جوازُ السّلامِ والدّعاءِ بصوتٍ مُنخفِضٍ بل وإن أضمرَ السّلام، لعدمِ اشتراطِ رفعِ الصّوتِ وإيصالِه للجميعِ أو التنقّلِ وإعادةِ السلامِ والدعاءِ ليشملَ جميعَ أمواتِ تلكَ المَقبرة.أمّا ما يرجعُ إلى الرؤيةِ، وأنَّ الموتى يرونَ مَن زارَهم، فلم أعثُر على روايةٍ تؤيّدُ هذا المعنى في كُتبِ الفريقين. ودُمتم في حُسنِ رعايتِه تعالى.