ما هيَ فلسفةُ غيبةِ الإمامِ المهديّ (عجّلَ اللهُ فرجه)

السلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه، ما العلّةُ مِن غيبةِ الإمامِ الثاني عشر؟

: سيد حسن العلوي

وعليكمُ السلام ورحمةُ اللهِ وبركاته.

1ـ قبلَ بيانِ أيّ شيءٍ يرتبطُ بعلّةِ الغيبة، لا بدَّ أن نعلمَ أنّ اللهَ حكيمٌ، ولا يفعلُ عبثاً، ولا يأمر إلّا بما فيهِ المصلحةُ للعباد، وقد أمرَ اللهُ تعالى الإمامَ المهدي (عليهِ السلام) بالغيبة، وعليهِ: فلا بدّ أن تكونَ لغيبتِه حكمةٌ، وإن جهِلنا وجهَ الحكمةِ، ولم نتوصَّل إلى المصلحةِ مِن ذلك، ولا يجبُ على اللهِ تعالى أن يكشفَ لنا عن العلّةِ الحقيقيّةِ والحكمةِ الكامنةِ وراءَ غيبةِ الإمامِ عليهِ السلام، فنحنُ نؤمنُ بوجودِ الحكمة، وإن جهِلنا بها تفصيلاً.

 2ـ والعلّةُ الحقيقيّةُ الكامنةُ وراءَ غيبةِ الإمامِ المهدي (عجّلَ اللهُ فرجَه) غيرُ معلومةٍ لنا تفصيلاً، وهيَ منَ الأسرارِ الإلهيّةِ التي لم يؤذَن لأئمّةِ أهلِ البيت (عليهم السلام) بالكشفِ عنها، وقد أخبرونا أنّها ستنكشفُ بعدَ ظهورِه المُبارك.

 3ـ نعَم هناكَ بعضُ العِلل، ولنسمّيها بالأسبابِ الظاهريّة، أو المُباشرة، مِن وراءِ الغيبةِ كالخوفِ منَ القتل، وامتحانِ الشيعةِ وتصفيتِهم، وكي لا تكونَ في عُنقِه بيعة، كما كانَت لآبائهِ وأجدادِه السابقين، فإنّهم تحتَ الضغطِ اُخِذَت مِنهم البيعةُ لطُغاةِ زمانِهم، والبيعةُ كانَت تُقيّدُهم مِنَ الحركةِ والخروج، ولذا غابَ الإمامُ (عليهِ السلام) كي لا تكونَ في عُنقِه بيعةٌ لأحدٍ منَ الطغاة، وليتحرّكَ كيفَ يشاء.

 وهذهِ العللُ وإن كانَت صحيحةً، ولكنَّ هذا لا يمنعُ مِن وجودِ أسبابٍ وعللٍ أعمقَ وأعقدَ منَ التي ذكروها في الرواياتِ، لا تنكشفُ إلّا بعدَ ظهورِ الإمامِ (عجّلَ اللهُ فرجَه).

 وإليكَ تعدادُ الأسبابِ طِبقاً لِما وردَ في الرواياتِ، ولِما يمكنُ أن يُفهمَ مِنها:

 الوجهُ الأوّلُ: الخوفُ منَ القتل:

 إنّ السلطةَ الجائرةَ كانَ قد تناهى إلى سمعِها أنّ الثاني عشر منَ الأئمّةِ، وابنَ الحسنِ العسكري، هوَ المهديُّ المُنتظَر الذي وعدَ به رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، وأنّهُ سيخرجُ بالسيف، ويدعو إلى نفسِه، ويُسقِطُ عروشَ الظالمين، ويملأ الأرضَ عدلاً، ولذا حاولوا جاهدينَ الوصولَ إليه لاعتقالِه ومِن ثمّ القضاءَ عليه، كما فعلَ فراعنةُ بني إسرائيل معَ نبيّ اللهِ موسى عندَما تناهى إلى سمعِهم أنَّ مولوداً سيُسقِطُ عروشَ الفراعنة، فمكروا ومكرَ الله، واللهُ خيرُ الماكرين. هذا مِن جهةٍ.

 ومِن جهةٍ أخرى: إنَّ الحكمةَ الإلهيّةَ اقتضَت أن يكونَ عددُ الأئمّةِ إثني عشرَ إماماً، لا أقلَّ و لا أكثر.

 وعليهِ: فماذا يفعلُ الإمامُ الثاني عشر؟ فإمّا أن يُسلّمَ نفسَه للقتل. أو يغيبَ عنهم ويفرَّ مِنهم ليحفظَ نفسَه. ولا خيارَ ثالث.

 ولذا غابَ الإمامُ المهدي خوفاً على نفسِه منَ القتل.

 قد يُقال: فليُقتَل كما قُتِل آباؤه!

 نقولُ: الفرضُ أنّهُ المهديُّ المُنتظر، صاحبُ النهضةِ العالميّة، وأنَّ عددَ الأئمّةِ اثنا عشرَ فقط، فقتلهُ يعني بُطلانَ حُججِ اللهِ وبيّناتِه، وأنَّ الأرضَ ستخلو مِن حُجّةٍ، ومِن ثمّ ستسيخُ بأهلِها، ومِن هُنا كثُرَت الرواياتُ المُصرّحةُ أنَّ علّةَ الغيبةِ وسببَها هوَ الحفاظُ على النفسِ منَ القتل، والغيبةُ والاختفاءُ لأجلِ الحفاظِ على المشروعِ الإلهي.

 روى الكُلينيُّ بسندٍ مُعتبَر عن زُرارة قالَ: سمعتُ أبا عبدِ الله (عليهِ السلام) يقولُ: إنَّ للقائمِ غيبةً قبلَ أن يقوم، إنّهُ يخافُ - وأومأ بيدِه إلى بطنِه - يعني القتل. (الكافي للكُليني: 1 / 340).

وروى الصّدوقُ بسندِه عن أبي عبدِ الله (ع) قالَ: قالَ رسولُ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله): لابدَّ للغُلامِ مِن غيبةٍ. فقيلَ له: ولمَ يا رسولَ الله؟ قالَ: يخافُ القتل. (عِللُ الشرائِع للصّدوق: 1 / 243).

والرواياتُ كثيرةٌ في المورد.

وصرّحَ السيّدُ المُرتضى والشيخُ الطوسي وغيرُهما منَ المُتقدّمين أنَّ العلّةَ الحقيقيّةَ الكامنةَ وراءَ الغيبةِ هوَ خوفُ الإمامِ على نفسِه منَ القتل، وإلجاءُ الظالمينَ له على ذلك. (المُقنع في الغيبةِ للمُرتضى، ص52، الغيبةُ للطوسي، ص329).

 الوجهُ الثاني: الامتحانُ والاختبار:

سُنّةُ الامتحانِ منَ السّننِ الإلهيّةِ الحاكمةِ على المُكلّفين، قالَ تعالى: { أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُترَكوا أَن يَقولوا آمَنّا وَهُم لا يُفتَنونَ ، وَلَقَد فَتَنَّا الَّذينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللَّهُ الَّذينَ صَدَقوا وَلَيَعلَمَنَّ الكاذِبينَ } [العَنكبوت: ٢-٣]

 فمِن أسبابِ الغيبةِ وطولِها هوَ امتحانُ الناسِ بها، لينكشفَ واقعُهم الحقيقيّ، هل آمنوا بألسنتِهم أم بقلوبهم؟

 روى الصّدوقُ قالَ: أبي رحمَه اللهُ قال: حدّثنا سعدٌ بنُ عبدِ الله، عن الحسنِ بنِ عيسى بنِ مُحمّدٍ بنِ عليٍّ بنِ جعفر، عن جدِّه مُحمّدٍ بنِ عليٍّ بنِ جعفر، [عن أبيه]، عن أخيهِ موسى بنِ جعفر (ع) قالَ: إذا فُقدَ الخامسُ مِن ولدِ السابِع فالله الله في أديانِكم لا يزيلُكم أحدٌ عنها، يا بُنيّ إنّهُ لابدَّ لصاحبِ هذا الأمرِ مِن غيبتِه حتّى يرجعَ عن هذا الأمرِ مَن كانَ يقولُ به، إنّما هيَ محنةٌ منَ اللهِ عزَّ وجل امتحنَ بها خلقَه، ولو علمَ آباؤكم وأجدادُكم ديناً أصحَّ مِن هذا لاتّبعوه، فقلتُ يا سيّدي مَن الخامسُ مِن ولدِ السابع؟ قالَ يا بُني عقولُكم تصغرُ عن هذا، وأحلامُكم تضيقُ عن حملِه، ولكن إن تعيشوا فسوفَ تُدركوه. (عِللُ الشرائعِ للصّدوق: 1 / 244، ومثلُه في الكافي: 1 / 336).

وذهبَ الشيخُ الطوسي إلى أنَّ هذا إخبارٌ بأنّ الناسَ سيُمتحنونَ في أيّامِ الغيبة، لا أنَّ علّةَ الغيبةِ هوَ الامتحان، فيكونُ مِن فوائدِ الغيبةِ الامتحان، لا أنّ السببَ هوَ الامتحان. (الغيبةُ للطوسي، ص335). 

 الوجهُ الثالث: لئلّا يكونَ في عُنقِه بيعةٌ:

روى الصّدوقُ بسندٍ مُعتبَر عن ابنِ فضّال عن أبي الحسنِ عليٍّ ابنِ موسى الرّضا (ع) أنّه قالَ: كأنّي بالشيعةِ عندَ فقدِهم الثالثَ مِن ولدي يطلبونَ المرعى فلا يجدونَه، قلتُ له: ولمَ ذلكَ يا بنَ رسولِ الله ؟ قالَ: لأنَّ إمامَهم يغيبُ عَنهم فقلتُ ولم؟ قالَ: لئلّا يكونَ في عُنقِه لأحدٍ حُجّةٌ إذا قامَ بالسيف. (عِللُ الشرائعِ للصّدوق: 1 / 245).

وروى الكُليني بسندٍ صحيحٍ عن هشامٍ بنِ سالم، عن أبي عبدِ اللهِ عليهِ السلام قالَ: يقومُ القائمُ وليسَ لأحدٍ في عُنقِه عهدٌ ولا عقدٌ ولا بيعة. (الكافي للكُليني: 1 / 342)

 وهذه العلّةُ لا يبعدُ أن تكونَ مُتفرّعةً على علّةِ القتل، فالإمامُ (ع) إن كانَ ظاهراً فإمّا أن يُبايعَ خُلفاءَ زمانِه، أو لا يُبايع، فإن بايعَ فسيكونُ مصيرُه مصيرَ آبائه وأجدادِه مِن عدمِ قُدرتِه على القيامِ بالسيفِ لأجلِ البيعةِ التي في رقبتِه لحُكّامِ زمانِه.

 وإن لم يُبايع فمصيرُه القتل.

 فالإمامُ بما أنّهُ المُصلِحُ العالمي، غيرُ مسموحٍ له أن يُبايعَ حُكّامَ زمانِه، ومَن كانَ هذا حالهُ، فمصيرُه القتل.

 وعليهِ: يصحُّ القولُ بأنّهُ غابَ لأنّهُ خافَ على نفسِه القتل.

 ويصحُّ القولُ بأنّهُ غابَ لأجلِ أن لا يكونَ في عُنقِه بيعةٌ عندَ الظهور.

 الوجهُ الرابع: لم يُؤذَن لأهلِ البيتِ (ع) بالكشفِ عن العلّةِ الحقيقيّة، وسينكشفُ بعدَ الظهور:

 روى الصّدوقُ قالَ: حدّثنا عبدُ الواحدِ بنُ مُحمّدٍ بنِ عبدوس النيسابوريّ العطّار رحمَه الله قالَ : حدّثنا عليٌّ بنُ مُحمّدٍ بنِ قُتيبةَ النيسابوري قالَ : حدّثنا حمدانُ بنُ سُليمانَ النيسابوري قالَ : حدّثنا أحمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ جعفرٍ المدايني ، عن عبدِ اللهِ بنِ الفضلِ الهاشمي قالَ : سمعتُ الصّادقَ جعفراً بنَ مُحمّدٍ (ع) يقول : إنَّ لصاحبِ هذا الأمرِ غيبةً لابدَّ مِنها يرتابُ فيها كُلُّ مُبطلٍ فقلتُ له ولمَ جُعِلتُ فِداك ؟ قالَ لأمرٍ لم يُؤذَن لنا في كشفِه لكُم قلتُ فما وجهُ الحِكمةِ في غيبتِه ؟ قالَ وجهُ الحكمةِ في غيبتِه، وجهُ الحكمةِ في غيباتِ مَن تقدّمَه مِن حُججِ اللهِ تعالى ذِكرُه، إنَّ وجهَ الحكمةِ في ذلكَ لا ينكشفُ إلّا بعدَ ظهوره، كما لا ينكشفُ وجهُ الحكمةِ لِما أتاهُ الخِضر (ع) مِن خرقِ السفينة، وقتلِ الغُلام، وإقامةِ الجدارِ لموسى (ع) إلّا وقتَ افتراقِهما، يا بنَ الفضل: إنَّ هذا الأمرَ أمرٌ مِن أمرِ الله وسرٌّ مِن سرِّ الله وغيبٌ مِن غيبِ الله، ومتى علِمنا أنّهُ عزَّ وجلَّ حكيمٌ صدّقنا بأنَّ أفعالَه كلُّها حكمةٌ وإن كانَ وجهُها غيرَ مُنكشِفٌ لنا. (عِللُ الشرائعِ للصّدوق: 1 / 245).

 هذهِ الوجوهُ قد ذُكرَت في الرواياتِ، ولا تنافيَ بينَها كما تقدّم، إذ السببُ الظاهريُّ للغيبةِ هوَ الخوفُ منَ القتل، وأمّا السببُ الحقيقي فعِلمُه عندَ الله، أو يُقال: إنّ السببَ الإبتدائيَّ هوَ الخوفُ منَ القتل، وأمّا السببُ الاستمراري فالخوفُ منَ القتل معَ أسبابَ أخرى لا يعلمُها إلّا اللهُ تعالى وأهلُ البيت (عليهم السلام).

 هذا ما وردَ صريحاً في الرّوايات.

 ويمكنُ ذكرُ بعضِ الوجوهِ الأخرى:

 الوجهُ الخامس: ما ذهبَ إليهِ السيّدُ الشهيدُ مُحمّد باقِر الصدر (قده)، ومُلخّصُه: إنَّ فائدةَ الغيبةِ الطويلةِ، راجعٌ إلى تكاملِ القائد، فقد أوكلَه اللهُ بمُهمّةٍ كبيرة، فيحتاجُ فيها إلى شحنٍ نفسيٍّ كبير بالشعورِ بالتفوّقِ تجاهَ الحضارات، ويحتاجُ أيضاً إلى الإعدادِ الفِكري، وتعميقِ الخِبرةِ القياديّة، مِن طريقِ مُعايشةِ تلكَ الحضارات، الواحدةِ تلوَ الأخرى، ومعرفةِ نقاطِ قوّتِها وضعفِها، ليتسنّى له القضاءَ على أعظمِ حضارةٍ يواجهُها. (بحثٌ حولَ المهدي، للسيد الشهيد الصدر)

 نقولُ: هذهِ الفرضيّةُ جدليّةٌ، مبنيّةٌ على التنزّلِ، والتسليمِ جدلاً أنَّ هذا القائدَ غيرُ مَعصومٍ ومُسدّدٍ ومؤيّدٍ منَ السماء، وغيرُ مَمدودٍ بعلمٍ إلهيٍّ لدُني، ولذا يمكنُ أن يكتسبَ مِقداراً كبيراً مِن عِلمِه المُرتبِط بنجاحِ مشروعِه، منَ التجربةِ والمُعايشةِ الطويلة، وغيرُ مُهيّءٍ نفسيّاً ولا فكريّاً للقيادةِ والمهدويّة، لقلّةِ خبرتِه، وعدمِ تهيئتِه نفسيّاً لهذا المشروعِ الكبير!

وعليهِ: فالسببُ الداعي للغيبةِ يعودُ إلى الله! باعتبارِه أرسلَ قائداً غيرَ مُهيّء! وليسَ السببُ عائداً إلى سوءِ تصرّفِ البشرِ تجاهَ هذا القائد!

ولذا لا تُعالَجُ هذه الأطروحةُ الموضوعَ بالنظرةِ إلى واقعِها وحقيقتِها، مِن أنَّ المهديَّ إمامٌ معصومٌ نصبَه الله، وأيّدَه وسدّدَه ورعاه، وأمدَّهُ بعلمٍ خاصٍّ يفوقُ علومَ البشريّةِ كلّها، ويحملُ الكفاءةَ الكاملةَ وهوَ ابنُ خمسِ سنوات أن يملأ الأرضَ عدلاً، ويحكُمَ الكونَ كُلّه.

 وإنّما حاولَ أن يُقدّمَ عِلاجاً جدليّاً لرفعِ الاستبعادِ مِن ذهنِ المُخالِف الذي لا يؤمنُ بالقضيّةِ المهدويّةِ بواقعِها الموضوعي، وإنّما يؤمنُ بالمهديّ كقائدٍ لا ارتباطَ له بمشروعِ السماء!

 ولذا نرى أنّ هذهِ المحاولةَ ابتعدَت عن تقديمِ مُعالجةٍ مقبولةٍ تُناسِبُ واقعَ القضيّة.

 مُضافاً إلى أنّ ألفاً ومئتا سنةٍ ألا تُعدُّ كافيةً للتكامُل، والتشبّعِ بالخِبرة، وازديادِ الوعي، والشحنِ النفسي؟!

الوجهُ السادِس: إنَّ السببَ في طولِ غيبتِه (عجّلَ اللهُ فرجَه) يعودُ إلى عدمِ تهيّؤِ البشريّة، فإنّها لا زالَت رافضةً لمشروعِ السماء، المُتمثّلِ بالإمامِ المهدي وأجدادِه الطاهرين، فبما أنّهم يجهلونَ مقامَ الإمامةِ وعظمتِها ومكانتِها السامية، ولم يقتنعوا قلباً بأنَّ الخلاصَ حصراً عندَ أهلِ البيت، ولا زالوا يتطلّعونَ إلى الشرقِ والغرب، وينشدونَ الخلاصَ عندَهم! فلا بدَّ وأن تحكمَ كلُّ نطيحةٍ ومُتردّيةٍ، وكلُّ شرقيٍّ وغربيّ، وكلُّ أبيضٍ وأسود، وكلُّ شريفٍ ووضيع، وكلُّ مدنيٍّ ومتأسلِم، تأتي كلُّ هذه الجماعاتِ والأفرادِ والأحزابِ والفلسفاتِ والموجاتِ الصّاعدةِ والنازلة، فتحكمُ لنشرِ العدل، ولكنّها تفشلُ فشلاً ذريعاً !

ولن تجدَ البشريّةُ الخلاصَ عندَ أيّ واحدٍ مِنها ! حيثُ ينتشرُ الظُّلمُ والطغيانُ أكثر، فتقتنعُ البشريّةُ تدريجاً بمشروعِ السماء، وتتهيّأ لمجيءِ المُصلِح العالمي، وتطلبُه بقلبِها، وتدافعُ وتنافحُ عنه إذا ظهر.

 روى النّعمانيُّ بسندِه عن هشامٍ بنِ سالم، عن أبي عبدِ الله (عليهِ السلام) أنّهُ قال: ما يكونُ هذا الأمرُ حتّى لا يبقى صِنفٌ منَ الناسِ إلّا وقد وُلّوا على الناسِ حتّى لا يقولَ قائلٌ: إنّا لو ولّينا لعدَلنا، ثمَّ يقومُ القائمُ بالحقِّ والعدل. (الغيبةُ للنعماني، ص282).

 وروى الطوسيُّ بسندِه عن الإمامِ أبي جعفرٍ الباقر (عليهِ السلام) قال: دولتُنا آخرُ الدول، ولن يبقَ أهلُ بيتٍ لهم دولةٌ إلّا ملكوا قبلنا لئلّا يقولوا إذا رأوا سيرتَنا: إذا ملَكنا سِرنا مثلَ سيرةِ هؤلاء، وهوَ قولُ اللهِ عزَّ وجل: ( والعاقبةُ للمُتّقين ). (الغيبةُ للطوسي، ص472، ورواهُ المُفيد في الإرشاد: 2 / 385).

 فطولُ مُدّةِ الغيبةِ تكونُ سبباً للتّكاملِ العقليّ للبشريّة، ورفعِ مُستوى الإدراكِ عندَهم، وتولّدِ القناعةِ بمشروعِ السماء، وازديادِ الوعي الفِكري، وتراكمِ الخِبراتِ عندَ البشر، ويتولّدُ عندَهم شعورٌ بتفوّقِ مشروعِ السماءِ على مشروعِ الأرض، وبذلكَ سيكونونَ خيرَ مُعينٍ لهذا القائدِ الذي كانَ ينتظرُهم منذُ مئاتِ السنين ليصعدوا إليه، ليكونوا خيرَ أعوانٍ وأنصارٍ، وفدائيّينَ لمشروعِه السماويّ.

 فالأمرُ يتطلّبُ حركةً نوعيّةً مِنَ المُجتمَعِ البشريّ تجاهَ المهديّ الذي يُمثّلُ مشروعَ السماءِ في الأرض. 

 وعليهِ: فالسببُ الداعي للغيبةِ، ولطولِ مُدّتِها، يعودُ إلى البشر، فهُم الذينَ يتحمّلونَ المسؤوليّةَ الكاملةَ تجاهَها، باعتبارِهم المُقصّرينَ والرّافضينَ لمشروعِ السماء، إمّا رفضاً قلبيّاً ولسانيّاً وعمليّاً، وإمّا رفضاً قلبيّاً وعمليّاً، وإمّا رفضاً عمليّاً.

 وحاشا القائدَ أن يكونَ هوَ العائقُ تجاهَ مشروعِ السماء، أو يكونَ المُرسِلُ هوَ الذي أرسلَ القائدَ ولم يُهيّئهُ تهيئةً كاملة، وأرسلَه قبلَ أوانِه !!

 واللهُ العالمُ بالسرِّ الحقيقيّ، والعلّةِ الواقعيّةِ لطولِ فترةِ الغيبة.

 والحمدُ للهِ ربِّ العالمين