ما العلّةُ من كتابةِ القرآنِ الكريم بالرّسمِ العُثماني ؟

:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : أمّا بالنسبةِ إلى المقطعِ الأوّلِ منَ السؤالِ وهوَ (ما العلّةُ مِن كتابةِ القرآنِ الكريمِ بالرسمِ العُثماني). فجوابُه: إنَّ تسميةَ خطِّ القرآنِ بالرّسمِ العُثماني مبنيٌّ على فرضيّةِ أنَّ مَن قامَ بجمعِ القرآنِ هوَ الخليفةُ الثالثُ (عثمانُ بنُ عفّان)، ولذلكَ يُنسَبُ خطُّ القرآنِ إليه، وهذا الكلامُ غيرُ صحيحٍ، ونحنُ إذا أرَدنا أن نقفَ على حقيقةِ الأمرِ علينا أن نبسطَ الكلامَ في مسألةِ جمعِ القرآن. ونقولُ: متى جُمعَ القرآن؟لقد تضاربَت الأحاديثُ التي رواها علماءُ العامّةِ فيما بينَها حتّى وصلَت إلى حدِّ التناقضِ والتساقط، فطائفةٌ مِنها تقولُ أنَّ جمعَ القرآنِ قد حصلَ في زمنِ أبي بكر، وأخرى في زمنِ عُمر، وثالثةٌ في زمنِ عُثمان، وللوقوفِ على حقيقةِ الأمرِ إليكَ الكلامُ مُختصَراً. الحديثُ الأوّلُ: حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ أَخبَرَنَا شُعَيبٌ عَنِ الزُّهرِىِّ قَالَ أَخبَرَنِى ابنُ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيدَ بنَ ثَابِتٍ الأَنصَارِىَّ - رضيَ اللهُ عنه - وَكَانَ مِمَّن يَكتُبُ الوَحىَ قَالَ أَرسَلَ إِلَىَّ أَبُو بَكرٍ مَقتَلَ أَهلِ اليَمَامَةِ وَعِندَهُ عُمَرُ ، فَقَالَ أَبُو بَكرٍ إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ القَتلَ قَدِ استَحَرَّ يَومَ اليَمَامَةِ بِالنَّاسِ ، وَإِنِّى أَخشَى أَن يَستَحِرَّ القَتلُ بِالقُرَّاءِ فِى المَوَاطِنِ فَيَذهَبَ كَثِيرٌ مِنَ القُرآنِ ، إِلاَّ أَن تَجمَعُوهُ ، وَإِنِّى لأَرَى أَن تَجمَعَ القُرآن . قَالَ أَبُو بَكرٍ قُلتُ لِعُمَرَ كَيفَ أَفعَلُ شَيئًا لَم يَفعَلهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلّى اللهُ عليهِ وسلم - فَقَالَ عُمَرُ هُوَ وَاللَّهِ خَير . فَلَم يَزَل عُمَرُ يُرَاجِعُنِى فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ صَدرِي ، وَرَأَيتُ الَّذِى رَأَى عُمَر . قَالَ زَيدُ بنُ ثَابِتٍ وَعُمَرُ عِندَهُ جَالِسٌ لاَ يَتَكَلَّمُ . فَقَالَ أَبُو بَكرٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلاَ نَتَّهِمُكَ ، كُنتَ تَكتُبُ الوَحىَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلّى اللهُ عليهِ وسلم - فَتَتَبَّعِ القُرآنَ فَاجمَعه . فَوَاللَّهِ لَو كَلَّفَنِى نَقلَ جَبَلٍ مِنَ الجِبَالِ مَا كَانَ أَثقَلَ عَلَىَّ مِمَّا أَمَرَنِى بِهِ مِن جَمعِ القُرآنِ قُلتُ كَيفَ تَفعَلاَنِ شَيئًا لَم يَفعَلهُ النَّبِيّ - صلّى اللهُ عليهِ وسلّم - فَقَالَ أَبُو بَكرٍ هُوَ وَاللَّهِ خَيرٌ ، فَلَم أَزَل أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدرَ أَبِى بَكرٍ وَعُمَرَ ، فَقُمتُ فَتَتَبَّعتُ القُرآنَ أَجمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالأَكتَافِ وَالعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ ، حَتَّى وَجَدتُ مِن سُورَةِ التَّوبَةِ آيَتَينِ مَعَ خُزَيمَةَ الأَنصَارِىِّ ، لَم أَجِدهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيرِهِ ( لَقَد جَاءَكُم رَسُولٌ مِن أَنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيكُم ) إِلَى آخِرِهِمَا ، وَكَانَتِ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا القُرآنُ عِندَ أَبِى بَكرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ، ثُمَّ عِندَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ، ثُمَّ عِندَ حَفصَةَ بِنتِ عُمَرَ .                                                                       صحيحُ البُخاري (كتابُ تفسيرِ القرآن/ باب 20/ح 4679) وصريحُ هذهِ الروايةِ أنَّ الجمعَ كانَ في زمنِ أبي بكرٍ وعليهِ كيفَ يكونُ رسمُ القرآنِ وخطُّه عُثمانيّاً؟؟؟. الحديثُ الثاني: عن أبي إسحاق عن بعضِ أصحابِه قالَ: "لمّا جمعَ عمرُ بنُ الخطّابِ المصحفَ سألَ عمرُ مَن أعربُ الناس؟ قيلَ سعيدٌ بنُ العاص، فقالَ: "مَن أكتبُ الناس؟ فقيلَ زيدٌ بنُ ثابت" قالَ: "فليُملِ سعيدٌ وليكتُب زيدٌ، فكتبوا مصاحفَ أربعةً، فأنفذَ مصحفاً مِنها إلى الكوفةِ ومصحفاً إلى البصرةِ ومصحفاً إلى الشامِ ومصحفاً إلى الحجاز".                                                  كنزُ العمّالِ في سُننِ الأقوالِ والأفعال للمُتّقي الهندي (ج2/ص578 ح4767)  وصريحُ هذهِ الروايةِ أنَّ الجمعَ كانَ في زمنِ عُمر .الروايةُ الثالثة: حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا إِبرَاهِيمُ حَدَّثَنَا ابنُ شِهَابٍ أَنَّ أَنَسَ بنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ حُذَيفَةَ بنَ اليَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهلَ الشَّأمِ فِى فَتحِ إِرمِينِيَةَ وَأَذرَبِيجَانَ مَعَ أَهلِ العِرَاقِ فَأَفزَعَ حُذَيفَةَ اختِلاَفُهُم فِى القِرَاءَةِ فَقَالَ حُذَيفَةُ لِعُثمَانَ يَا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ أَدرِك هَذِهِ الأُمَّةَ قَبلَ أَن يَختَلِفُوا فِى الكِتَابِ اختِلاَفَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَرسَلَ عُثمَانُ إِلَى حَفصَةَ أَن أَرسِلِي إِلَينَا بِالصُّحُفِ نَنسَخُهَا فِى المَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيكِ فَأَرسَلَت بِهَا حَفصَةُ إِلَى عُثمَانَ فَأَمَرَ زَيدَ بنَ ثَابِتٍ وَعَبدَ اللَّهِ بنَ الزُّبَيرِ وَسَعِيدَ بنَ العَاصِ وَعَبدَ الرَّحمَنِ بنَ الحَارِثِ بنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِى المَصَاحِفِ وَقَالَ عُثمَانُ لِلرَّهطِ القُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ إِذَا اختَلَفتُم أَنتُم وَزَيدُ بنُ ثَابِتٍ فِى شَىءٍ مِنَ القُرآنِ فَاكتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِم فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِى المَصَاحِفِ رَدَّ عُثمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفصَةَ وَأَرسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ القُرآنِ فِى كُلِّ صَحِيفَةٍ أَو مُصحَفٍ أَن يُحرَقَ .                                                                                       صحيحُ البُخاري (16/ 468/ ح 4987 ) وصريحُ هذهِ الروايةِ أنَّ الجمعَ كانَ في زمنِ عُثمانَ بنِ عفان. وعليهِ فرواياتُ الجمعِ غايةٌ في التناقضِ ولذلكَ قالَ السيّدُ الخُوئي رحمَه الله ما هذا لفظُه:  ( إنّها مُتناقضةٌ في أنفسِها فلا يمكنُ الاعتمادُ على شيءٍ مِنها)                                                                          البيانُ في تفسيرِ القرآن (ص: 163)  معَ أنَّ تلكَ الرواياتِ المُتعارضةَ فيما بينَها مُعارضةٌ أيضاً بما دلَّ على أنَّ القرآنَ قد جُمعَ في عهدِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله. قالَ السيّدُ الخُوئي رحمَه الله : (إنَّ هذهِ الرواياتِ مُعارضَةٌ بما دلَّ على أنَّ القرآنَ كانَ قد جُمِع ، وكتبَ على عهدِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم فقد روى جماعةٌ ، مِنهم ابنُ أبي شيبةَ وأحمدُ بنُ حنبل ، والترمذيُّ ، والنسائي ، وابنُ حبّان ، والحاكمُ ، والبيهقيّ ، والضياءُ المقدسيّ عن ابنِ عبّاس . قالَ : قلتُ لعُثمانَ بنِ عفان : ما حملَكم على أن عمدتم إلى الأنفالِ وهيَ منَ المثاني ، وإلى براءةَ ، وهيَ منَ المِئين فقرنتُم بينَهما ولم تكتبوا بينَهما سطراً : " بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرحيم " ؟ ووضعتموهُما في السبعِ الطّوال ، ما حملَكم على ذلك ؟ فقالَ عثمانُ : إنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم كانَ ممّا يأتي عليهِ الزمانُ ينزلُ عليهِ السورةُ ذاتُ العددِ ، وكانَ إذا نزلَ عليهِ الشيءُ يدعو بعضَ مَن يكتبُ عندَه فيقول : ضعوا هذا في السورةِ التي يذكرُ فيها كذا وكذا ، وتنزلُ عليهِ الآياتُ فيقول : ضعوا هذا في السورةِ التي يُذكَرُ فيها كذا وكذا ، وكانَت الأنفالُ مِن أوّلِ ما أنزلَ بالمدينةِ ، وكانَت براءة مِن آخرِ القرآنِ نزولاً ، وكانَت قصّتُها شبيهةً بقصّتِها ، فظننتُ أنّها مِنها ، وقُبضَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلّم ولم يُبيّن لنا أنّها مِنها ، فمِن أجلِ ذلكَ قرنتُ بينَهما ، ولم أكتُب بينَهُما سطراً : " بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرحيم " ووضعتُهما في السبعِ الطوالِ                                                                                           البيانُ في تفسيرِ القرآن (ص: 165)  أمّا ما يرجعُ إلى الجُزءِ الثاني منَ السؤالِ وهوَ (وهل يوجدُ مصحفٌ مكتوبٌ بالطريقةِ العاديّةِ مثلَ ما نكتبُ نحن؟). فجوابُه: لا يوجدُ قرآنٌ مكتوبٌ بالكتابةِ العاديّةِ التي نكتبُ بها نحنُ فيما نعلمُ واللهُ العالِم.