ما هوَ منهجُ القرآنِ الكريمِ في مُعالجةِ الإلحاد ؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: الإلحادُ في اللغةِ هوَ العدولُ والميلُ والانحراف، وفي الاصطلاحِ هوَ إنكارُ وجودِ المبدأ والإلهِ الواحد، وقد وردَت مُشتقّاتُ كلمةِ الإلحادِ في القرآنِ بالمعنى اللغويّ وليسَ الاصطلاحي، فقد جاءَت بمعنى الانحرافِ في قولِه تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُلحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخفَونَ عَلَينَا) أي الذينَ انحرفوا عن آياتِ الله، وقد جاءَت بمعنى التحريفِ في قولِه تعالى: (وَلِلَّهِ الأَسمَاءُ الحُسنَىٰ فَادعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلحِدُونَ فِي أَسمَائِهِ ۚ سَيُجزَونَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ) أي الذينَ يحرّفونَ أسماءَ الله. وجاءَت بمعنى الميلِ في قولِه تعالى: (وَلَقَد نَعلَمُ أَنَّهُم يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلحِدُونَ إِلَيهِ أَعجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) أي يميلونَ إليه. ولم تأتِ لفظةُ الإلحادِ في القرآنِ إلّا في موردٍ واحدٍ وقد جاءت أيضاً بمعنى الميلِ وهيَ قوله تعالى: (وَمَن يُرِد فِيهِ بِإِلحَادٍ بِظُلمٍ نُّذِقهُ مِن عَذَابٍ أَلِيمٍ) أي مَن يميلُ بالظُلمِ ليحلَّ منَ الحرامِ ما حرّمَ الله. وقد فسّرَ البعضُ قوله تعالى: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنيَا نَمُوتُ وَنَحيَا وَمَا يُهلِكُنَا إِلَّا الدَّهرُ) بالمُلحدينَ الذينَ يُنكرونَ المبدأ ويُرجعونَ كلَّ شيءٍ للطبيعة، في حينِ فسّرَها البعضُ الآخرُ بمَن لا يؤمنُ بالبعثِ بعدَ الموت، ويبدو أنَّ ذلكَ ما يؤكّدُه سياقُ الآيات، وعلى العمومِ لا وجودَ للإلحادِ بالمعنى الاصطلاحيّ في القرآنِ الكريم، وإنّما تعاملَ القرآنُ معَ هذهِ الأفكارِ المُنحرفةِ ضمنَ مُصطلحي الكُفرِ والشرك. وكما هوَ واضحٌ أنَّ الشركَ لا يساوي الإلحادَ؛ لأنَّ المُشركَ يعتقدُ بأنَّ العالمَ له خالقٌ لكنّه لا يراهُ واحداً، بينَما الملحدُ ينكرُ منَ الأساسِ وجودَ مبدأ لهذا الكون، والكُفرُ في القرآنِ لا يساوي الإلحادَ أيضاً، بل هوَ أعمُّ منه، حيثُ لا يُطلقُ الكفرُ فقَط على إنكارِ المبدأ وإنّما يُطلَقُ أيضاً على مَن يكفُر بالمعادِ، ومَن يكفُر بالحقِّ بعدَ العلم، ومَن يكفُر بالنعم، وغير ذلكَ، وبذلكَ يكونُ الإلحادُ مُطابِقاً لمعنىً واحدٍ مِن معاني الكُفرِ وهوَ إنكارُ وجودِ اللهِ تعالى.  وبالرّجوعِ للقرآنِ للوقوفِ على منهجِه في التصدّي لمُنكري وجودِه تعالى نجدُ أنّه لم يتعامَل معَ هذا الادّعاءِ بوصفِه فكرةً لها مُبرّراتٌ علميّةٌ تستوجبُ النقاش؛ لأنَّ الاعترافَ بوجودِه منَ الأمورِ الفطريّة التي فطرَ العبادَ عليها، فكلمةُ كُفر في أصلِ معناها تعني التغطيةَ، أي أنَّ الكافرَ هو الذي يعملُ على تغطيةِ فطرتِه ويتنكّرُ عليها، وإنكارِ ما هوَ ثابتٌ في الفطرةِ وواضحٌ بالضرورةِ هو في الواقعِ إنكارٌ للعقلِ وإنكارٌ لحقيقةِ الإنسانِ، ولذا قالَ تعالى: (قالَت رُسُلُهُم أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالأَرضِ)، وتدلُّ هذه الآيةُ على أنَّ الشكَّ والارتيابَ في وجودِه سبحانَه ممّا لا يمكنُ ولا ينبغي لعاقلٍ ارتكابُه؛ وذلكَ لأنَّ الاعترافَ بأنَّ العقلَ قادرٌ على المعرفةِ يتوقّفُ على الثقةِ في وجودِ الأشياءِ كحقيقةٍ موضوعيّةٍ، وهذا غيرُ مُمكنٍ معَ الإيمانِ بوجودِ شيءٍ بلا سببٍ وعلّة، فإذا أبطَلنا نظامَ السببيّةِ أبطَلنا قُدرةَ العقلِ على المعرفة، والإلحادُ ليسَ إلّا إنكاراً للسببيّةِ، ومِن هُنا لا يعدُّ الإلحادُ فكرةً لها مُبرّراتٌ موضوعيّةٌ يمكنُ مواجهتُها علميّاً. فالكفرُ في منطقِ القرآنِ هو تمرّدٌ على فطرةِ اللهِ التي فطرَ الناسَ عليها، والسببُ في ذلكَ هو انخداعُ الإنسانِ بمظاهرِ الحياةِ وشهواتِها، فاللهُ هوَ الذي تكفّلَ بتعريفِ نفسِه للعباد، والطريقُ لتحقيقِ تلكَ المعرفةِ في النفسِ الإنسانيّة هوَ التذكيرُ والتنبيهُ، ففي الحديثِ قالَ: قلتُ لأبي عبدِ الله (عليهِ السلام): هل جعلَ في الناسِ أداةً ينالونَ بها المعرفة؟ قالَ: لا، قلتُ: فهل كُلِّفوا المعرفة؟ قالَ: لا، إنَّ على اللهِ البيان، لا يُكلّفُ اللهُ العبادَ إلّا وسعَها، ولا يُكلّفُ نفساً إلّا ما آتاها»، وقد أكّدَ الإمامُ (عليهِ السلام) أنَّ تكليفَهم بالمعرفةِ تكليفٌ بالمُحال، لقولِه تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفساً إِلاَّ وُسعَها)، و(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفساً إِلاَّ ما آتاها). عن الصادقِ (عليهِ السلام) قالَ: «لَيسَ لِلَّهِ عَلَى خَلقِهِ أَن يَعرِفُوا وَلِلخَلقِ عَلَى اللَّهِ أَن يُعَرِّفَهُم وَلِلَّهِ عَلَى الخَلقِ إِذَا عَرَّفَهُم أَن يَقبَلُوا»وعليهِ منهجُ القرآنِ لتحقيقِ معرفةِ اللهِ قائمٌ على تنبيهِ الغافلينَ وتذكيرِ الناسين، ولذا نجدُ أكثرَ آياتِ الذكرِ الحكيم تؤكّدُ على هذا المعنى، فالقرآنُ لا يُبرهنُ على أمرٍ مجهولٍ يريدُ إثباتَه كأيّ فرضيّةٍ أو نظريّةٍ، وإنّما يُذكِّر ويدعو الناسَ إلى ربّهم الظاهرِ بذاته، يقولُ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) واصِفاً مُهمّةَ الأنبياءِ جميعاً: «فَبَعَثَ فِيهم رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيهِم أَنبِياءَهُ، لِيَستَأدُوهُم مِيثَاقَ فِطرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُم مَنسِيَّ نِعمَتِهِ، وَيَحتَجُّوا عَلَيهِم بَالتَّبلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُم دَفَائِنَ العُقُولِ، وَيُرُوهُم آيَاتِ المَقدِرَةِ»، وقالَ تعالى: (وَاذكُرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُم بِهِ)، وقالَ: (وَلَقَد عَلِمتُمُ النَّشأَةَ الأُولى فَلَولا تَذَكَّرُونَ)، بل إن كلَّ آياتِ القرآنِ قائمةٌ على التذكيرِ قالَ تعالى: (فَذَكِّر إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّستَ عَلَيهِم بِمُصَيطِرٍ)، وقالَ: (إِن هُوَ إِلاَّ ذِكرٌ وَقُرآنٌ مُبِينٌ)، وقالَ: (إِن هُوَ إِلاَّ ذِكرى لِلعالَمِينَ)، وقالَ: (طه * ما أَنزَلنا عَلَيكَ القُرآنَ لِتَشقى * إِلاَّ تَذكِرَةً لِمَن يَخشى). ويأتي في هذا السياقِ التفكّرُ في آياتِ الكونِ والنفسِ قالَ تعالى: (سَنُرِيهِم آياتِنا فِي الآفاقِ وَفِي أَنفُسِهِم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَم يَكفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَي‏ءٍ شَهِيدٌ). كذلكَ المصاعبُ والكوارثُ التي تصيبُ الإنسانَ تذكّرُه باللهِ تعالى وترجعُه إلى فطرتِه، فلو لم تكُن المعرفةُ حقيقةً فطريّةً جُبلَ عليها الإنسان، كيفَ يستذكرُ الكافرُ ربَّه عندَما يشارفُ على الهلاك؟  وعليهِ فإنَّ الأمرَ بالتدبّرِ في آياتِ الكون لا يُفهَمُ على أنّه أمرٌ بالتفكّرِ في ذاتِ اللهِ أو أنَّ التفكّرَ هو الذي يُحقّقُ معرفةً لم تكُن موجودةً مِن قبلُ في الفطرةِ، فآياتُ الكونِ ليسَت مُعرِّفاتٍ وكاشفاتٍ عن حقيقةٍ مجهولةٍ، وإنّما هيَ بمثابةِ مُنبّهٍ ومُذكّرٍ بتلكَ المعرفةِ التي فطرَ اللهُ العبادَ عليها، وهيَ مقامُ تعريفِ اللهِ تعالى نفسَه للعباد، فعندَما يتأمّلُ الإنسانُ في مظاهرِ الخلق، يستنطقُ فطرتَه التي حجبَتها الغفلةُ، فيرى اللهَ ظاهراً بذاتِه ومُعرِّفاً عن نفسِه، كما يجدُ الإنسانُ تلكَ المعرفةِ واضحةً عندَ الشدائدِ والمِحن، فحينئذٍ تنقشعُ كلُّ تلكَ الحُجبِ ليرى الإنسانُ ربَّه. فالإنسانُ في لحظةِ الشدّةِ والاضطرارِ يلجأ للهِ حتّى وإن كانَ مُظهِراً للإلحاد، قالَ تعالى: (إِذَا غَشِيَهُم مَّوجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُم إِلَى البَرِّ فَمِنهُم مُّقتَصِدٌ وَمَا يَجحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)، وقالَ تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحرِ ضَلَّ مَن تَدعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُم إِلَى البَرِّ أَعرَضتُم وَكَانَ الإِنسَانُ كَفُورًا)، وعليهِ فإنَّ العارفَ بالله هوَ الذي يجدُ اللهَ ظاهِراً مُتجليّاً في عُمقِ كيانِه ووجودِه، قالَ تعالى: ﴿إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَت قُلُوبُهُم وَإِذَا تُلِيَت عَلَيهِم آيَاتُهُ زَادَتهُم إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ﴾ وعليهِ فإنَّ مُشكلةَ الإلحادِ في منطقِ القُرآنِ مُشكلةٌ نفسيّةٌ وليسَت عقليّة، فإذا لم ينخدِع الإنسانُ بزينةِ الحياةِ ولم يفتتِن بغرورِ النفسِ ولم يتّبِع وساوسَ الشيطانِ فسوفَ يكونُ مؤمِناً باللهِ بالضرورة، فالكُفّارُ في حقيقةِ الأمرِ هم مَن لا يرونَ الحياةَ إلّا شهواتٍ وملذّات، قالَ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام): «همُّ الكافرِ لدُنياه، وسعيُه لعاجلِه، وغايتُه شهوتُه»، ولذلكَ فإنَّ المُصرَّ على الإنكارِ والجاحدَ للحقِّ لا تفيدُه الموعظةُ ولا تؤثّرُ فيه الحُجّةِ، قالَ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيهِم أَأَنذَرتَهُم أَم لَم تُنذِرهُم لَا يُؤمِنُونَ)  وقد عالجَت الآياتُ القرآنيّةُ إشكاليّةَ إنكارِ الحقائقِ مِن خلالِ مُعالجةِ النفسِ الإنسانيّةِ بوصفِها المسؤولةَ عن كلِّ انحرافٍ، والآياتُ في هذا الشأنِ أكثرُ مِن أن تُحصى، قالَ تعالى: (وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ)، وقالَ: (وَلَا تُطِع مَن أَغفَلنَا قَلبَهُ عَن ذِكرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمرُهُ فُرُطاً)، وقالَ: (فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنهَا مَن لاَ يُؤمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَردَى)، وقالَ: (فَإِن لَّم يَستَجِيبُوا لَكَ فَاعلَم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهوَاءهُم وَمَن أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ) وغيرِ ذلكَ منَ الآياتِ التي تؤكّدُ على مسؤوليّةِ الهوى عن كلِّ انحرافٍ وضلال.وقد عالجَ القرآنُ أيضاً هذه الظاهرةَ مِن خلالِ الترغيبِ والترهيب، فالإنسانُ الغارقُ في شهواتِ الحياةِ والمُعرضُ عن ذكرِ اللهِ لابدَّ مِن لفتِ انتباهِه إلى أنَّ هذهِ الحياةَ الدّنيا ليسَت خاتمةَ المطاف، ولذا كانَت مُعظمُ آياتِ القرآنِ تبشيراً وتحذيراً، تبشيراً بجنّةٍ عرضُها السماواتُ والأرض وتحذيراً مِن نارٍ وقودُها الناسُ والحِجارة، وقد قالَ اللهُ في حقِّ الكافرين: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُم كُفَّارٌ فَلَن يُقبَلَ مِن أَحَدِهِم مِّلءُ الأَرضِ ذَهَبًا وَلَوِ افتَدَىٰ بِهِ ۗ أُولَٰئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ) وقالَ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوفَ نُصلِيهِم نَارًا كُلَّمَا نَضِجَت جُلُودُهُم بَدَّلنَاهُم جُلُودًا غَيرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا). وفي المُحصّلةِ منَ الخطأ الاعترافُ بكونِ الإلحادِ حالةً موضوعيّةً لها مُبرّراتٌ علميّة، وإنّما هوَ مُجرّدُ حالةٍ ذاتيّةٍ تحتاجُ إلى معالجاتٍ نفسيّة.