هل من حقِّ غيرِ المعصومِ تفسيرُ القرآنِ؟

إشكاليةُ أنَّ مَن حقِّ غيرِ المعصومِ تفسيرُ القرآنِ استدلالاً بقولِ اللهِ تعالى (وما يعلمُ تأويلَه إلّا اللهُ والراسخونَ في العلم) الآيةُ الكريمة وبقولِ أميرِ المؤمنينَ لابنِ عبّاس عندَما بعثَ في الاحتجاجِ على الخوارجِ فقالَ له (لا تحتجَّ عليهم بالقرآنِ فإنّه حمّالٌ ذو وجوهٍ) 

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :  

هناكَ فرقٌ بينَ قولنا إنَّ المعصومَ عالمٌ بحقائقِ القرآنِ ومعارفِه، وبينَ قولِنا إنَّ القرآنَ كتابٌ مُغلقٌ ومُشفّرٌ لا يمكنُ فهمُه لغيرِ المعصوم، فالقولُ الأوّلُ يجعلنا في حاجةٍ دائمةٍ للمعصومِ كمرجعيّةٍ لا يمكنُ الاستغناءُ عنها، قالَ تعالى: (فَاسأَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لَا تَعلَمُونَ)، وقالَ تعالى: (وَلَو رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم)، وبذلكَ يكونُ القرآنُ والمعصومُ هُما الحُجّةَ على العبادِ، بحيثُ لا يكونُ أحدُهما بديلاً عن الآخر، ومِن هُنا نفهمُ قولَ رسولِ الله (إنّي تاركٌ فيكُم الثقلين كتابَ اللهِ وعِترتي أهلَ بيتي)، بينَما القولُ الثاني ينفي كونَ القرآنِ حُجّةً على جميعِ البشر ويحصرُ الحُجّةَ في المعصومِ دونَ أيّ اعتبارٍ للقرآنِ، وبسقوطِ حُجّيّةِ القرآنِ تسقطُ حُجّيّةُ المعصومِ تبعاً لذلك؛ لأنَّه حينها منَ المُستحيلِ الاستدلالُ بالقرآنِ على وجوبِ اتّباعِ المعصومِ لكونِه يفضي إلى الدورِ المُستحيل، فحتّى يجبَ علينا اتّباعُ المعصومِ لا بدَّ أن يأمُرنا اللهُ باتّباعِه، وحتّى يأمرَنا اللهُ باتّباعِه لابدَّ أن يكونَ قولُ اللهِ في القرآنِ حُجّة، وحتّى يكونَ قولُ اللهِ في القرآنِ حُجّةً لابدَّ مِن رجوعِنا للمعصوم، وهكذا يدورُ بنا الأمرُ في دائرةٍ مُفرغةٍ لا تؤدّي إلى نتيجةٍ، فمثلاً عندَما يأمرُنا اللهُ بطاعةِ اللهِ والرسولِ وأولي الأمرِ في قولِه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم) فحينَها تمثّلُ هذه الآيةُ دليلاً مُلزِماً بضرورةِ طاعةِ الأئمّةِ المعصومينَ، بمعنى قبلَ طاعةِ المعصومِ لابدَّ منَ الاعترافِ بكونِ هذهِ الآيةِ حُجّةً مُلزمةً، ممّا يعني أنَّ حُجّيّةَ هذهِ الآيةِ سابقةٌ لطاعتِنا للمعصومِ، أمّا إذا نفينا الحُجّةَ عن الآيةِ وجعلنا حُجّيّتَها تأتي بعدَ اتّباعِ المعصومِ فحينَها تسقطُ حُجّيّةُ الآيةِ وحُجيّةُ المعصومِ في نفسِ الوقت، وهو الدورُ الذي أشرنا له، وعليهِ فإنَّ الثابتَ بالضّرورةِ كونُ القرآنِ حُجّةً على جميعِ البشر، وهذا لا يكونُ إلّا إذا كانَت آياتُ القرآنِ قابلةً للفهمِ والتفسير، وهوَ ما أكّدَته آياتُ القرآنِ مثلَ قولِه تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَم عَلَى قُلُوبٍ أَقفَالُهَا) فمنَ الواضحِ أنَّ الخطابَ هُنا ليسَ للمعصومِ وإنّما لعامّةِ الناس، إذ كيفَ يُحتملُ أن يكونَ المعصومونَ على قلوبِهم أقفالها؟ وعليهِ كيفَ يأمرُ عامّة َالناسِ بالتدبّرِ وهوَ مستحيلٌ عليهم فهمُ القرآن؟، وكذلكَ قولهُ تعالى: (وَلَقَد يَسَّرنَا القُرآنَ لِلذِّكرِ فَهَل مِن مُّدَّكِرٍ) فكيفَ يكونُ القرآنُ مُيسّراً وفي نفسِ الوقتِ لا يمكنُ فهمُه؟، وقولهُ تعالى: (كِتَابٌ فُصِّلَت آيَاتُهُ قُرآنًا عَرَبِيًّا لِّقَومٍ يَعلَمُونَ)، وقالَ: (بلسان عربي مبين)، وهكذا عشراتُ الآياتِ التي تؤكّدُ إمكانيّةَ فهمِ القرآنِ وتفسيرِه. 

ولا يتعارضُ ذلكَ معَ قولِه تعالى: (وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ) فإذا رجعنا لتمامِ الآيةِ سيتّضحُ المقصودُ ممّا يعلمُه الراسخونَ في العلم، حيثُ قالَ تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتَابَ مِنهُ آيَاتٌ مُّحكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنهُ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ وَابتِغَاءَ تَأوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّن عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلبَابِ)، فقد أكّدَت الآيةُ على وجودِ آياتٍ مُحكماتٍ، وهيَ الآياتُ الواضحةُ التي تمثّلُ أساسَ الكتابِ (هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ)، وفهمُ هذهِ الآياتِ مُتيسّرٌ لمَن أرادَ فهمَها لكونِها مُحكمةً لا غموضَ فيها، وفي مقابلِ هذهِ الآياتِ هناكَ آياتٌ مُتشابهةٌ، والإشكاليّةُ في هذه الآياتِ ليسَ في استحالةِ فهمِهما وتفسيرِها، حيثُ يمكنُ للعلماءِ الكشفُ عن معانيها، إلّا أنَّ الإشكالَ في تأويلِها بتأويلاتٍ باطنيّةٍ لا علاقةَ لها بظاهرِ الآيةِ أو مِن خلالِ تطبيقِها على عناوينَ خارجيّةٍ لغرضِ إحداثِ الفِتنة، وعليهِ المُمتنعُ في الآيةِ هوَ التأويلُ وليسَ التفسير، وإنزالُ التأويلِ منزلةَ التفسير لا مسوّغ له، وفي المحصّلةِ تريدُ الآية أن تثبتَ بأنّ الله والرّاسخون في العلم هم الذين يعلمونَ تأويلَ الآياتِ المتشابهةِ على نحو الحقيقة والواقع.

أمّا قولُ الإمامِ عليّ لابنِ عبّاس (لا تحتجَّ عليهم بالقرآنِ فإنّهُ حمّالٌ ذو وجوهٍ) لا علاقةَ له بما يسعى إليهِ السّائل، فكونُ القرآنِ يستحيلُ فهمُه شيءٌ، وكونُ هناكَ مَن يفسّرُه برأيهِ شيءٌ آخر، فإمكانيّةُ أن يُفسّرَ الخوارجُ القرآنَ بما يتناسبُ معَ أفكارِهم ومُعتقداتِهم موجودةٌ، ولذا طلبَ منه أن يحتجَّ عليهم بكلامِ رسولِ الله حتّى يقطعَ الطريقَ عليهم، وعليهِ يمكنُ أن يكونَ كلامُ أميرِ المؤمنينَ لابنِ عبّاس دليلاً على إمكانيّةِ فهمِ القرآنِ على عكسِ ما يريدُ السائل، فلو كانَ القرآنُ مُستحيلَ الفهمِ لاستحالَ أيضاً أن يُحملَ على وجوهٍ مُتعدّدة، وبما أنَّ الإنسانَ قادرٌ على حملِ القرآنِ على وجوهٍ مُتعدّدةٍ يمكنُه أيضاً أن يحملهُ على الوجهِ الذي أرادَه اللهُ تعالى، والعاملُ الحاسمُ في ذلكَ هو مدى تجرّدِه للحقيقةِ وتخلّصِه مِن أفكارِه السابقةِ وميولِه النفسيّةِ الخاصّة، ولذا حذّرَ رسولُ اللهِ والأئمّةُ مِن أهلِ البيتِ مِن تفسيرِ القرآنِ بالرّأي والهوى والظنون، ولم يُحرّموا على الإنسانِ مُطلقَ فهمِ القرآنِ وتفسيرِه، وعليهِ ما وقعَ بينَ المُسلمينَ من تكفيرٍ واقتتالٍ كانَ بسببِ التفسيراتِ المُنحرفةِ للقرآن، فكلُّ جماعةٍ تسعى للانتصارِ لمذهبِها دونَ الانتصارِ للحقِّ والحقيقةِ، وعليهِ معالجةُ ذلكَ ليسَ بمنعِهم من الرّجوعِ للقرآنِ وإنّما علاجُه بجعلِ الرّجوعِ إلى القرآنِ ضمنَ شروطٍ وضوابطَ مِن بينِها الأخذُ بتفسيراتِ الأئمّةِ المعصومينَ سلامُ اللهِ عليهم.