لماذا حصرَ النبيُّ (ص) العلمَ بـ "آيةٍ مُحكمةٍ، أو فريضةٍ عادلة، أو سنّةٍ قائمةٍ، وما خلاهنَّ فهوَ فضل"؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:  

عديدةٌ هيَ أبوابُ العلمِ والمعرفة، ولكلِّ بابٍ منها حاجةٌ، فمنها ما يساعدُ على التفكّرِ في الخلقِ ومعرفةِ الخالق، ومنها ما يتّزنُ به سلوكُ الإنسانِ وتستقيمُ به حياتُه، ومنها ما تتقدّمُ به الحضارةُ البشريّةُ ويساهمُ في عمارةِ الأرضِ، ومنها ما يوفّرُ وسائلَ الراحةِ والرفاهيةِ وغيرِ ذلكَ منَ العلوم. ومعَ أنَّ أكثرَ أبوابِ العلومِ نافعةٌ إلّا أنَّ هناكَ علوماً لا يستغني الإنسانُ عنها، وهيَ العلومُ الدينيّةُ لكونِها كاشفةً عن فلسفةِ وجودِ الإنسانِ والحكمةِ مِن خلقه، فعن طريقهِا تتكاملُ رؤيةُ الإنساِن ويعرفُ مِن أينَ أتى؟ وما هوَ مطلوبٌ منه؟ وإلى أينَ يمضي؟ فالإيمانُ بالغيبِ والشهودِ والعلاقةُ بينَهما يحقّقانِ فهماً مُتكامِلاً للحياةِ والغايةِ منها، والدينُ هوَ الطريقُ الوحيدُ الذي يُحقّقُ توازنَ ما بينَ الغيبِ والشهود، وما بينَ الروحِ والبدن، وما بينَ المعنى والمادّة، ومنَ المؤسفِ أن يصرفَ الإنسانُ عُمرَه ولا يلتفت إلى الحِكمةِ مِن وجودِه والغايةِ مِن خلقِه، أو يصرفَ عُمرَه في طلبِ ما لا ثمرةَ فيه سواءٌ كانَ لدُنياه أو لآخرته، فعَن أَبِي الحَسَنِ مُوسى‏ (عليه السلام)، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ المَسجِدَ، فَإِذَا جَمَاعَةٌ قَد أَطَافُوا بِرَجُلٍ، فَقَالَ: مَا هذَا؟ فَقِيلَ: عَلامَةٌ، فَقَالَ: وَمَا العَلّامَةُ؟ فَقَالُوا لَهُ: أَعلَمُ النَّاسِ بِأَنسَابِ العَرَبِ وَوَقَائِعِهَا وَأَيَّامِ الجَاهِلِيَّةِ وَالأَشعَارِ وَالعَرَبِيَّةِ. قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ: ذَاكَ عِلمٌ لا يَضُرُّ مَن جَهِلَهُ، وَلا يَنفَعُ مَن عَلِمَهُ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ: إِنَّمَا العِلمُ ثَلاثَةٌ: آيَةٌ مُحكَمَةٌ، أَو فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ، أَو سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، وَمَا خَلاهُنَّ فَهُوَ فَضل). حيثُ نبّهت الروايةُ إلى ضرورةِ الانشغالِ بما يفيدُ الإنسانَ وتركِ ما لا يفيد، ولذا استغلَّ الرسولُ (ص) هذهِ المناسبةَ ليوجّهَ مثلَ هذهِ الظواهرِ ويُصحّحَ البوصلةَ فيما يجبُ على الإنسانِ الاهتمامُ به، فبيّنَ أنّ العلمَ الحقيقيّ الذي ينبغي اكتسابُه هوَ ما كانَ فُقدانُه ضرراً والعلمُ بهِ نفعاً، وهذا ما نجدُه في علومِ الدينِ بأصولِها وفروعِها، وقد عبّرَت عنهُ الروايةُ بثلاثةِ أقسام، اختلفَ العلماءُ في بيانِ المُرادِ منها، ولعلَّ المناسبَ أنّ الآيةَ المُحكمةَ هي العلمُ بالأصولِ الاعتقاديّة، والفريضةُ العادلةُ هي العلمُ بالأحكامِ الشرعيّة، والسنّةُ القائمةُ هي العلمُ بتهذيبِ الأخلاق، كما نُسبَ ذلك للسيّدِ الداماد، أمّا غيرُ ذلكَ منَ العلومِ فهوَ فضلٌ أي زيادةٌ قد تكونُ مُفيدةً وقد لا تكونُ كذلك، وعليهِ فبعدَ تحصيلِ الواجبِ العينيّ منَ المعارفِ الذي تقدّمَ بيانُه لا مانعَ مِن اكتسابِ غيرِه منَ العلومِ خصوصاً تلكَ التي تفيدُ المُجتمعَ وتتقدّمُ بها الحضارة، وعليهِ هناكَ ترخيصٌ في طلبِ كلِّ العلومِ ما عدا المُحرّمة منها وهناكَ وجوبٌ في طلبِ ما لا يقومُ الدينُ إلّا به، وأهميّةُ العلومِ الدينيّة تكمنُ في كونِها طريقاً إلى الجنّةِ فعَن أَبِي عَبدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: مَن سَلَكَ طَرِيقًا يَطلُبُ فِيهِ عِلماً، سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ المَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجنِحَتَهَا لِطَالِبِ العِلمِ رِضًا بِهِ، وَإِنَّهُ لَيَستَغفِرُ لِطَالِبِ العِلمِ مَن فِي السَّمَاءِ وَمَن فِي الأَرضِ حَتَّى الحُوتِ فِي البَحرِ، وَفَضلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضلِ القَمَرِ عَلى‏ سَائِرِ النُّجُومِ لَيلَةَ البَدرِ، وَإِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنبِيَاءِ؛ إِنَ الأَنبِيَاءَ لَم يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلا دِرهَماً، وَلكِن وَرَّثُوا العِلمَ، فَمَن أَخَذَ مِنهُ، أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِر). والجنّةُ هيَ ما وعدَ اللهُ بها أهلَ طاعتِه، والطاعةُ لا تتحصّلُ من دونِ علمٍ بما أرادَهُ الله وأمرَ به، وعليهِ فإنَّ المُرادَ بطالبِ العلمِ الذي تظلّلُه الملائكةُ ويستغفرُ له مَن في السّماءِ هوَ طالبُ العلومِ الدينيّة.