مَن قامَ برسمِ قبورِ شهداءِ معركةِ الطفّ،هل وقعَت معجزةٌ إلهيّةٌ بظهورِ الإمامِ السجّادِ (عليهِ السلام) في أرضِ كربلاء حينَ الدفنِ ?

575ـ مَن قامَ برسمِ قبورِ شهداءِ معركةِ الطفّ، وعلى رأسِ الشهداء: الإمام الحُسين وأبي الفضلِ العبّاس وأولاد الحُسين (عليهم السّلام)؟ ومَن وجّهَ على رسمِ القبورِ ودفنِها؟ وكيفَ عرفوا أنّ هذهِ الأجسادَ تابعةٌ لمَن؟ هل وقعَت معجزةٌ إلهيّةٌ بظهورِ الإمامِ السجّادِ (عليهِ السلام) في أرضِ كربلاء حينَ الدفنِ معَ أنّه متواجدٌ معَ السّبايا المتوجّهينَ إلى الشام؟   

: - اللجنة العلمية

السلامُ عليكُم ورحمة الله وبركاته، 

لا يخفى أنّ سيّدَ الشهداءِ (سلامُ اللهِ عليه) وأهلَ بيتِه وأصحابَه (رضوانُ اللهِ عليهم) استشهدوا في كربلاءَ المُقدّسة، ودُفنوا فيها، ولا شكّ أيضاً أنّ سيّدَ الشهداءِ (عليهِ السلام) مدفونٌ في هذا الموضعِ بالضريحِ الأقدس، وأنّ الشهداءَ مِن أهلِ بيتِه (عليهم السلام) وأصحابِه (رضوانُ اللهِ عليهم) مدفونونَ بقُربِه، وأنّ أبا الفضلِ العبّاسِ (عليهِ السلام) مدفونٌ في موضعِه الخاص، فكلّ هذا ممّا لا شكّ فيه ولا ريب؛ لأمورٍ كثيرةٍ جدّاً، نشيرُ إلى بعضِها:   

 

الأوّلُ: وردَ في كتابِ [اختيارِ معرفةِ الرجال ج2 ص764] وكتابِ [إثباتِ الوصيّة ص220]: أنّ عليّاً بنَ أبي حمزة البطائنيّ الواقفيّ ـ الذي كانَ ينكرُ إمامةَ الرّضا (عليهِ السّلام) ـ سألَ الإمامَ الرّضا (عليهِ السلام): « إنّا روينا عن آبائِك: أنّ الإمامَ لا يلي أمرَه إلّا إمامٌ مثله، فقالَ له أبو الحسنِ (عليهِ السلام): فأخبرني عن الحسينِ بنِ عليٍّ (عليهما السلام)، كانَ إماماً أو كانَ غيرَ إمام؟ قالَ: كانَ إماماً، قالَ: فمَن وليَ أمره؟ قال: عليُّ بنُ الحسين، قالَ: وأينَ كانَ عليٌّ بنُ الحسين (عليهما السلام)؟ قال: كانَ محبوساً بالكوفةِ في يدِ عُبيدِ اللهِ بنِ زياد، فقالَ: كيفَ وليَ أمرَ أبيهِ وهوَ محبوس؟ قالَ: خرجَ وهُم لا يعلمونَ حتّى وليَ أمرَ أبيه، ثم انصرفَ، فقالَ له أبو الحسنِ (عليهِ السلام): إن يكُن هذا أمكنَ عليّاً بنَ الحُسين (عليهِ السّلام) أن يأتي كربلا فيلي أمرَ أبيه، فهوَ يمكنُ صاحبَ هذا الأمر أن يأتي بغدادَ فيلي أمرَ أبيه ثمَّ ينصرفُ وليسَ في حبسٍ ولا في آسار ».  

 

وذهابُ الإمامِ السجّادِ (عليهِ السلام) إلى كربلاءَ وهوَ في حبسِ ابنِ زياد (لعنَه الله) كما يمكنُ أن يكونَ بنحوِ الإعجازِ بطيّ الأرضِ مثلاً، يمكنُ أيضاً أن يكونَ بنحوٍ طبيعيّ بخفاءٍ وسريّةٍ بمعونةِ بعضِ الموالينَ الذينَ يعملونَ بجهاِز الأمنِ عندَ ابنِ زياد بأن سهّلوا له خروجاً مؤقّتاً لبضعِ ساعاتٍ منَ السجن.   

 

وقد جاءَت رواياتٌ أخرى في كتبِ المقاتلِ المتأخّرةِ تبيّنُ كيفيّةَ مجيءِ الإمامِ السجّادِ (عليهِ السّلام) ولقائهِ مع بني أسدٍ ومعاونتِهم له في دفنِ الأجسادِ الطاهرة.   

 

وأصلُ دفنِ الإمامِ السجّادِ (عليهِ السّلام) لجسدِ أبيهِ سيّدِ الشهداءِ (عليهِ السلام) أمرٌ ثابتٌ بالرواياتِ المُستفيضةِ الواردةِ في أنّ الإمامَ لا يلي أمرَه إلّا الإمامُ، وهذهِ الرواياتُ وردَت بصياغاتٍ مُختلفة، كـ« الإمامُ لا يغسّلُه إلّا الإمام »، و«الصدّيقُ لا يغسّله إلّا الصدّيق»، و«لا يلي الوصيَّ إلّا الوصيّ»، و«الإمامُ لا يلي أمرَه إلّا إمام»، وغيرُ ذلك، وقد أوردَ بعضَها العلّامةُ المجلسيّ في [بحارِ الأنوار ج27 ص288].. قالَ المرجعُ الميرزا التبريزيّ (قدّسَ سرّه) في [رسالةٍ مُختصرةٍ في النصوصِ الصحيحةِ على إمامةِ الأئمّةِ الاثني عشر (عليهم السلام) ص19] ـ في سياقِ كلامِه حولَ الأدلّةِ غيرِ المُباشرةِ في إثباتِ الإمامة ـ: « فإنّ بعضَ الرواياتِ تعتمدُ على ذكرِ أمر، ذلكَ الأمرُ يلازمُ كونَه إماماً، كما سيأتي في وصيّةِ الإمامِ الباقرِ لابنِه الصّادقِ (عليهِ السلام) أنّ يغسّلَه ويجهّزَه ويكفّنَه، فإنّ هذا منَ النصِّ عليه؛ لِما ثبتَ عندَنا منَ النصوصِ والإجماعِ على أنّ الإمامَ لا يتولّى تجهيزَه إلّا إمامٌ مثله عندَ حضوره ».  

 

إذن: سواءٌ كانَت روايةُ البطائنيّ نقيّةَ السندِ أو لا، فإنّ أصلَ تولّي الإمامِ السجّادِ (عليهِ السلام) ثابتٌ بمُقتضى الإجماعِ والنصوصِ المُستفيضةِ العامّة، وهيَ كافيةٌ في المقام، مع أنّهُ لا يُتوقّعُ وجودُ نصوصٍ صريحةٍ بخصوصِ ذلكَ مع حصولِه بخفاءٍ وسريّةٍ ـ بطريقٍ إعجازيّ أو عاديّ ـ كما هوَ واضح.    

 

الثاني: وردَ في كتبِ السّيرِ والمقاتلِ أنّ الإمامَ الحُسينَ (عليهِ السلام) كانَ يجعلُ أجسادَ الشهداءِ مِن أهلِ بيتِه (عليهم السّلام) في موضعٍ، والشهداءَ مِن أصحابِه (رضوانُ اللهِ عليهم) في موضعٍ آخر، كما أنّه (عليهِ السّلام) لم يحمِل جسدَ العبّاسِ (عليهِ السلام) نحوَ المُخيّمِ بل أبقاهُ في موضعِ استشهادِه، ثمّ إنّ الإمامَ (عليهِ السلام) بعدَما استشهدَ قامَ جيشُ عمرَ بنِ سعد بدفنِ قتلاهم وتركوا الأجسادَ الطاهرةَ بلا دفن.  

 

فيظهرُ مِن هذا: أنّ التمييزَ في الجملةِ مُتحقّقٌ بينَ جسدِ أبي عبدِ اللهِ (عليهِ السلام) ـ مع ما عليهِ منَ العلاماتِ مِن كثرةِ الضربِ والتمثيلِ ـ وبينَ جسدِ أبي الفضلِ العباسِ (عليهِ السلام) ـ الذي كانَ لوحدِه ـ وبينَ أجسادِ الشهداءِ مِن أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) وبينَ أجسادِ الشهداءِ منَ الأصحابِ ـ لتفاوتِ العددِ بينَهم ـ. والمعروفُ أنّ الإمامَ الحُسين (عليهِ السلام) دُفنَ لوحدِه، وبقربِه حُفرَت حفيرةٌ ضمَّت أجسادَ الشهداءِ أو حفيرتان في إحداها الشهداءُ مِن أهلِ بيتِه وفي الأخرى الشهداءُ مِن أصحابِه، وإنَّ العبّاسَ (عليهِ السلام) دُفنَ في موضعٍ خاص.

 

الثالثُ: إنّ السّيرةَ المُستمرّةَ عندَ الشيعةِ جاريةٌ على أنّ الإمامَ الحُسين (عليهِ السلام) مدفونٌ بموضعِه وأنَّ الأصحابَ حولَه وأنّ العبّاسَ بموضعِه الخاص، ومثلُ هذهِ السيرةِ مُمتدّةٌ إلى زمنِ المعصومينَ (عليهم السّلام) بلا شكٍّ ولا ريبٍ وهيَ بمرأىً ومسمعٍ منَ المعصومينِ (عليهم السّلام)، بل هيَ مأخوذةٌ منَ المعصومينَ (عليهم السّلام)؛ فإنّهُ وردَت المئاتُ بل الآلافُ منَ الرواياتِ عن المعصومينَ (عليهم السّلام) حولَ فضلِ زيارةِ سيّدِ الشهداءِ (عليهِ السلام) وأصحابِه (رضوانُ اللهِ عليهم)، وكلّها مشيرةٌ لواقعٍ خارجيّ معلوم، كما وردَت الكثيرُ منَ الرّواياتِ المعصوميّةِ في شرحِ كيفيّةِ الزيارةِ، كما في روايةِ ابنِ قولويه في [كاملِ الزياراتِ ص425] بالإسنادِ المُعتبرِ عن أبي حمزةَ الثماليّ، قالَ: قالَ الصادقُ (عليهِ السلام): « إذا أردتَ المسيرَ إلى قبرِ الحُسين (عليهِ السلام) فصُم يومَ الأربعاءِ والخميسِ والجمعة... فإذا أتيتَ الفراتَ فقُل قبلَ أن تعبرَه... ثمَّ اعبُر الفراتَ وقل.. ثمَّ تأتي النينوى فتضعُ رحلكَ بها ولا تدّهِن ولا تكتحِل، ولا تأكُل اللحمَ ما دمتَ مُقيماً بها، ثمَّ تأتي الشطَّ بحذاءِ نخلِ القبرِ واغتسِل وعليكَ المئزرُ وقل وأنتَ تغتسلُ... ثمَّ امشِ قليلاً وقصِّر خطاكَ، فإذا وقفتَ على التلِّ فاستقبِل القبرَ فقِف وقُل (اللهُ أكبر) ثلاثينَ مرّة... ثمَّ امشِ عشرَ خطواتٍ وكبّر ثلاثينَ تكبيرةً وقل وأنتَ تمشي.. فإذا أتيتَ البابَ الذي يلي المشرقَ فقِف على البابِ وقُل.. ثمَّ ادخُل الحائرَ وقل حينَ تدخُل.. ثمَّ امشِ وقصِّر خطاكَ حتّى تستقبلَ القبرَ واجعَل القبلةَ بينَ كتفيكَ واستقبِل بوجهكَ وجهَه وقُل... ثمَّ صِر إلى قبرِ عليٍّ بنِ الحُسين فهوَ عندَ رجلِ الحُسين، فإذا وقفتَ عليهِ فقُل... ثمَّ تخرُج منَ السّقيفة وتقِف بحذاءِ قبورِ الشهداءِ وتومي إليهم أجمعينَ وتقول... ». وروى أيضاً في [كاملِ الزياراتِ ص471] بإسنادٍ مُعتبرٍ عن أبي حمزةَ، قالَ: قالَ الصّادقُ (عليهِ السّلام): « إذا أردتَ زيارةَ قبرِ العبّاسِ بنِ علي (عليهِ السلام) وهوَ على شطِّ الفراتِ بحذاءِ الحائرِ، فقِف على بابِ السقيفةِ وقل.. ثمَّ ادخُل وانكبَّ على القبرِ وقل.. ». وغيرُها كثيرٌ.. فإنّ هذه الرّواياتِ المعصوميّةَ المتواترةَ كلّها كاشفةٌ عن صحّةِ التمييزِ الحاصلِ عندَ الدفنِ كما هوَ واضحٌ.   

 

والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.