لماذا ركّزَ القرآنُ الكريم على السّمعِ والبصرِ والفؤادِ أو القلبِ في عددٍ كبيرٍ منَ الآياِت ولم يذكُر العقلَ؟

لماذا ركّزَ القرآنُ الكريم على السّمعِ والبصرِ والفؤادِ أو القلبِ في عددٍ كبيرٍ منَ الآياِت ولم يذكُر العقلَ؟ وَلَا تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ ۚ إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنهُ مَسئُولًا. أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمعِهِ وَقَلبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهدِيهِ مِن بَعدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ. وَاللَّهُ أَخرَجَكُم مِن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُم لَا تَعلَمُونَ شَيئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصَارَ وَالأَفئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ.

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :   

افتراضُ كونِ التركيزِ على السّمعِ والبصرِ والفؤاد وإهمالِ ذكرِ العقلِ يحتاجُ إلى دليلٍ وبيان، فكما تكلّمَ القرآنُ عنِ السّمعِ والبصرِ والفؤاد والقلبِ بنفسِ المقدارِ وأكثر أمرَ بالتعقّلِ، وقد يكونُ الدافعُ للسّؤالِ هوَ عدمُ ذكرِ القرآنِ العقلَ كمصدرٍ حيثُ لم تشتمِل آياتُ القرآنِ على كلمةِ (عقل)، إلّا أنَّ ذلكَ لا يعني أنَّ القرآنَ لا يعترفُ بالعقلِ أو لا يعتمدُ عليه بوصفِه أداةً للمعرفةِ عندَ الإنسان، بل على العكسِ مِن ذلكَ فعندَما يأتي ذكرُ التعقّلِ على صيغةِ الفعل إنّما يأتي بعدَ التسالمِ على وجودِه بوصفِه بديهةً لا يمكنُ أن يغفلَ عنها عاقلٌ، فمادّةُ (عقلَ) ومشتقّاتُها تكرّرَت في القرآن الكريم تسعاً وأربعينَ مرّةً، جاءَت في جميعِها بصيغةِ الفعل، الأمرُ الذي يدلُّ على كونِ العقلِ قضيّةً بديهيّةً ومسلّمةً واضحةً عندَ كلِّ عاقل، وبالتالي العقلُ غنيٌّ عن التعريفِ والشرحِ والتوضيح، ومِن هُنا اعتمدَ القرآنُ عليه بشكلٍ مُباشرٍ من غيرِ أن يهتمَّ ببيانِ ما هو؟ وكيفَ هو؟ بل طلبَ منَ الإنسانِ فقط استخدامَ العقلِ مِن أجلِ الوصولِ إلى الحقائق.   

وعليه فإنَّ دورَ الإنسانِ هوَ التعقّلُ مِن خلالِ توظيفِ كلِّ الأدواتِ الحسّيّةِ وغيرِها، قالَ تعالى: (وَاللَّهُ أَخرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُم لَا تَعلَمُونَ شَيئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصَارَ وَالأَفئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ) (78 النّحل). قد أشارَت هذهِ الآيةُ إلى دورِ الإنسانِ في تحصيلِ العلم، والدليلُ أنّها علّقَت حصولَ ذلكَ بالسّمعِ والأبصارِ والأفئدة، فقد نصَّت الآيةُ على أنَّ السّمعَ والأبصارَ والأفئدةَ وسائلُ يستعينُ بها الإنسانُ في تحصيلِ العلمِ بالأشياء، وكلمةُ (تعلمونَ) في هذهِ الآيةِ ناظرةٌ إلى النتيجةِ وهيَ تحصيلُ المعلومةِ، فقولهُ تعالى: (لَا تَعلَمُونَ شَيئًا) واضحةٌ في أنّها تتحدّثُ عن النّسبةِ الرّابطةِ بينَ العلمِ وبينَ الشيء المعلوم، والحواسُّ هيَ الأدواتُ التي تُحقّقُ ذلكَ الرّبط، ومِن هُنا فإنَّ الآيةَ تتحدّثُ عنِ الوسائلِ التي تمكّنُ الإنسانَ منَ الوصولِ للمعلومة، وبذلكَ يكونُ دورُ الإنسان في تحصيلِ العلمِ هو تهيئةُ الأسبابِ المُناسبةِ لذلك، فهناكَ وسائلُ مُهمّتُها إحضارُ المعلومِ وعرضُه على نورِ العلم، وهذهِ الوسائلُ هيَ التي تقعُ ضمنَ إرادةِ الإنسانِ وكسبِه، فمثلاً نفسُ البصرِ أو السمعِ ليسَ خاضعاً لإرادةِ الإنسانِ، وإنّما رفعُ الموانعِ وتهيئةُ الظّروفِ للأبصارِ أو الأسماعِ هيَ التي تقعُ تحتَ إرادتِه، وكذلكَ العلمُ ليسَ خاضعاً لإرادةِ الإنسانِ بما هوَ نورٌ، وإنّما تهيئةُ الظروفِ المُناسبةِ لجعلِ الشيءِ عُرضةً لنورِ العلمِ هيَ التي تقعُ تحتَ إرادةِ الإنسان، وبالتالي ليسَ منَ الضروريّ أن تورثَ هذهِ الحواسُّ العلمَ للإنسانِ، فمنَ المُمكنِ أن يمتلكَ الإنسانُ السّمعَ والبصرَ إلّا أنّهُ لا يعلمُ شيئاً، ولذا قالَ تعالى: (لَهُم قُلُوبٌ لَّا يَفقَهُونَ بِهَا وَلَهُم أَعيُنٌ لَّا يُبصِرُونَ بِهَا وَلَهُم آذَانٌ لَّا يَسمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالأَنعَامِ بَل هُم أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ) (179 الأنعام)، والآيةُ لا تنفي أصلَ حدوثِ السّمعِ والبصر، فهُم كانوا يسمعونَ ويُبصرون َفي الواقع والحقيقة، وإنّما تنفي الآيةُ حدوثَ الفقهِ والعلم عندَهم، وذلكَ لوجودِ شروطٍ خاصّةٍ بفيضِ نورِ العلم على الإنسانِ أشارَت إليها آياتٌ أخرى. وكذلكَ قولُه تعالى: (أَم تَحسَبُ أَنَّ أَكثَرَهُم يَسمَعُونَ أَو يَعقِلُونَ ۚ إِن هُم إِلَّا كَالأَنعَامِ ۖ بَل هُم أَضَلُّ سَبِيلًا (44 الفرقان). وقولُه: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنعِقُ بِمَا لَا يَسمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ فَهُم لَا يَعقِلُونَ) (171 البقرة). وقالَ تعالى: (قُل أَرَأَيتُم إِن أَخَذَ اللَّهُ سَمعَكُم وَأَبصَارَكُم وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّن إِلَٰهٌ غَيرُ اللَّهِ يَأتِيكُم بِهِ ۗ انظُر كَيفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُم يَصدِفُونَ (46 الأنعام).  

كما يُستفادُ أيضاً منَ التفريقِ بينَ حصولِ العلمِ وبينَ امتلاكِ الإنسانِ للحواسِّ، هوَ تحديدُ الوظيفةِ الحقيقيّةِ للعلمِ، وهيَ حدوثُ التعقّلِ للإنسان، أي بمعنى أنَّ العلمَ كاشفٌ عنِ الأشياء، بينَما العقلُ هوَ المعيارُ الذي يُحدّدُ الموقفَ العمليَّ منها، قالَ تعالى: (وَتِلكَ الأَمثَالُ نَضرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ) (43 العنكبوت). وبالتالي التعقّلُ لا يكونُ إلّا إذا سبقَه علم.

وفي النتيجةِ إنَّ الآيةَ حدّدَت ثلاثة أمورٍ وهيَ السّمعُ والبصرُ والفؤاد، وكما هوَ واضحٌ أنَّ الفؤادَ ليسَ منَ الحواسِّ الظاهريّةِ للإنسان، والأمرُ الذي لا نعرفُه على وجهِ الدقّةِ؛ هل الفؤادُ هوَ القلبُ أم شيءٌ آخر؟ ويبدو أنَّ بحثَ هذا الأمرِ لا يُحدثُ فرقاً جوهريّاً، وقد يكونُ مفيداً في بيانِ الحِكمةِ مِن استخدامِ كلمةِ فؤادٍ حيناً وكلمةِ قلبٍ حيناً آخر في السياقِ الواحد، ومعَ ضرورةِ معرفةِ هذهِ الحِكمة إلّا أنّها لا تضيفُ مُفارقةً في طبيعةِ المعرفةِ القرآنيّة، قالَ تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِم وَعَلَىٰ سَمعِهِم ۖ وَعَلَىٰ أَبصَارِهِم غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ) (7 البقرة). فقد ذكرَت هذهِ الآيةُ نفسَ العناصرِ التي ذكرَتها آيةُ (وأخرجَكم مِن بطونِ أمّهاتِكم) إلّا أنّها استخدمَت هُنا كلمةَ قلبٍ بدلَ الفؤاد، وعليهِ إمّا أن يكونَ القلبُ والفؤادُ شيئاً واحداً، وإمّا أن يكونَ القلبُ أعمَّ منَ الفؤادِ وشاملاً له، وبكِلا المعنيين تثبتُ هذهِ الآيةُ أنَّ بدايةَ تحصيلِ العلمِ هوَ سلامةُ القلب، ولذا قال تعالى: (أَفَلَم يَسِيرُوا فِي الأَرضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلُوبٌ يَعقِلُونَ بِهَا أَو آذَانٌ يَسمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعمَى الأَبصَارُ وَلَٰكِن تَعمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (46 الحج). قد تطرّقَت هذه الآيةُ للوظيفةِ النهائيّة للعلم، وهيَ تحصيلُ التعقّلِ والبصيرة، وقد كشفَت الآيةُ عن المسؤولِ عن هذهِ الوظيفةِ وهوَ القلب، ولذلكَ مُجرّدُ امتلاكِ السمعِ والبصرِ لا يكونُ مُجدياً ما لم يكُن القلبُ سليماً ولذا ختمَت الآيةُ بقولِه: (فَإِنَّهَا لَا تَعمَى الأَبصَارُ وَلَٰكِن تَعمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ). وقالَ تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِم وَعَلَىٰ سَمعِهِم ۖ وَعَلَىٰ أَبصَارِهِم غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ) (7 البقرة). وقالَ تعالى: (قُل أَرَأَيتُم إِن أَخَذَ اللَّهُ سَمعَكُم وَأَبصَارَكُم وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّن إِلَٰهٌ غَيرُ اللَّهِ يَأتِيكُم بِهِ..) (46الأنعام). وهناكَ آيةٌ تتحدّثُ عَن سببِ ختمِ القلبِ وهوَ اتّباعُ الهوى، كما تتحدّثُ عَن أنَّ هذا الختمَ يحصلُ مع وجودِ العلم، ممّا يعني أنَّ العلمَ بمعنى مُجرّدِ الكشفِ لا يكونُ مُجدياً ما لم تترتّب عليهِ البصيرةُ والتعقّل، قالَ تعالى: (أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمعِهِ وَقَلبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهدِيهِ مِن بَعدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (23 الجاثية).   

وفي المُحصّلةِ تحدّثَت آياتُ القرآنِ عَن أدواتِ المعرفةِ ضمنَ سياقاتٍ مُختلفة، ومعَ ذلكَ تخدمُ نتيجةً واحدةً وهيَ حصولُ التعقّلِ لدى الإنسان، وبالتّالي لا يمكنُ حصولُ نوعٍ منَ التضاربِ أو التعارضِ بينَ هذهِ الأدوات وإنّما هيَ مُتكاملةٌ ومُتناغمةٌ بالشكلِ الذي تمكّنُ الإنسانَ منَ التعرّفِ على الحقائق، ومنَ المُفيدِ التدبّرُ في آياتِ القرآنِ والوقوفُ على الصّيغِ التي وردَت فيها تلكَ الأدواتُ المعرفيّة.