ما تفسيرُ قولِه تعالى: (ويومَ تقومُ السّاعةُ يقسمُ المجرمونَ ما لبثوا غيرَ ساعةٍ، كذلكَ كانوا يُؤفكون) [الرّوم: 55]

(628)/ ما تفسيرُ قولِه تعالى: (ويومَ تقومُ السّاعةُ يقسمُ المجرمونَ ما لبثوا غيرَ ساعةٍ، كذلكَ كانوا يُؤفكون) [الرّوم: 55]. وهل يتساوى الذينَ رقدوا في قبورِهم إلى قيامِ السّاعةِ قبلَ مجيءِ يومِ القيامةِ بيومٍ أو ساعةٍ معَ الذينَ رقدوا آلافَ السّنين، وكيفَ تتحقّقُ العدالةُ الإلهيّةُ في ذلك؟    

: السيد رعد المرسومي

 

السّلامُ عليكم ورحمة الله،  

الجوابُ: فيما يتعلّقُ بالقسمِ الأوّلِ مِن سؤالِك، فقد ذهبَ جمهورُ المُفسّرينَ منَ الفريقينِ إلى أنّ المُرادَ بهذهِ الآيةِ، أنّ هناكَ فئةً منَ المُجرمينَ في يومِ القيامةِ يحلفونَ أنّهم لبثوا في القبورِ مقدارَ ساعةٍ، أو لبثوا في الدّنيا ساعةً أو بعدَ انقطاعِ عذابِ القبر، وقولهم هذا - مهما كانَ - ليسَ صحيحاً، فلذا عُدَّ منَ الكذبِ، لأنّ هؤلاءِ المجرمينَ كانوا في الدّنيا يُؤفكون. أي يُصرفونَ عن الحقّ بسببِ جهلِهم. [ينظر: تفسيرُ كنزِ الدّقائق للمشهديّ (ج10/ص214)، وتفسيرُ أبي السّعود (ج5/ص361)].  

وإنّما قلنا في بادئِ الأمر: إنّ هذا القولَ إنّما هوَ لفئةٍ من المُجرمينَ وليسَ لكلِّ المُجرمين، وذلكَ لأنّه في آياتٍ أُخر وردَت أقوالٌ لغيرِهم تفيدُ غيرَ ذلك، منها: قوله تعالى : ( قَالَ كَم لَبِثتُم في الأرضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثنَا يَوماً أَو بَعضَ يَومٍ فَاسأَلِ العَآدِّينَ) [المؤمنونَ: 112]. وكذلكَ قوله تعالى : ( يَتَخَافَتُونَ بَينَهُم إِن لَّبِثتُم إِلاَّ عَشراً ) [طه: 103]. إذ أفادَت هذه الآياتُ أنَّ بعضَهم يقولُ لبِثنا يوماً أو بعضَ يوم ، ويقولُ بعضٌ آخرُ منهم : لبثنا ساعةً ويقولُ البعضُ الآخرُ منهم : لبثنا عشراً . واختلافُ تقديراتِ مدّةِ اللّبثِ، يرجعُ لاختلافِ القائلينَ، وكلٌّ منهم قد عبّرَ عن قصرِ المدّةِ حسب َما يتصوّرُ أو يظنّ، والقاسمُ المُشتركُ لكلِّ التقديراتِ هوَ أنَّ المدّةَ قصيرةٌ جدّاً.  

وأمّا ما يتعلّقُ بالقسمِ الثاني مِن سؤالِك، فقد بيّنَ القرآنُ العظيمُ في أكثر مِن آيةٍ أنّ كلَّ أمّةٍ منَ الأممِ مسؤولةٌ عن أعمالِها وأفعالِها، فلا ينفعُها إلّا ما كسبوا مِن أعمالِ الخير، ولا يؤاخذونَ بسيّئاتِ غيرِهم منَ الأمم ، ولا يُثابونَ بحسناتِهم. قالَ تعالى: {تِلكَ أُمَّةٌ قَد خَلَت لَهَا مَا كَسَبَت وَلَكُم مَا كَسَبتُم وَلَا تُسأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعمَلُونَ} [البقرةُ : 134]، وكذلكَ قولُه تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدعَى إِلَى كِتَابِهَا اليَومَ تُجزَونَ مَا كُنتُم تَعمَلُونَ} [الجاثيةُ : 28]، فاللهُ سبحانَه وتعالى هوَ خالقُ الخلقِ وهوَ أعرفُ بهم وبما يُلائمُهم مِن مكانٍ وزمان ، فيقدّمُ قوماً، ويؤخّرُ آخرين، وهوَ تعالى جلّ شأنُه مُقدّرُ الأمورِ وفقَ موازينَ عادلةٍ لا يشكُّ فيها إلّا جاهلٌ أو معاندٌ، قالَ تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمرُ : 49]، وكذلك قوله تعالى: {وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسطَ لِيَومِ القِيَامَةِ فَلَا تُظلَمُ نَفسٌ شَيئًا وَإِن كَانَ مِثقَالَ حَبَّةٍ مِن خَردَلٍ أَتَينَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء : 47]، بل كيفَ يخطرُ في ذهنِ بعضِهم أنّ اللهَ غيرُ عادلٍ أو لا يحقّقُ العدالةَ بينَ خلقِه (تعالى اللهُ عن ذلكَ علوّاً كبيراً)، ولا سيّما أنّه القائلُ في كتابِه العزيز: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو العِلمِ قَائِمًا بِالقِسطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [آلُ عمران : 18]، وتأمَّل قولَه تعالى: {قُل أَمَرَ رَبِّي بِالقِسطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُم عِندَ كُلِّ مَسجِدٍ وَادعُوهُ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُم تَعُودُونَ} [الأعرافُ : 29]، فاللهُ عزّ وجلّ في هذهِ الآيةِ وفي آياتٍ أخر كثيرةٍ هو الذي يأمرُ خلقَه بالقسطِ أي بالعدلِ، إذن: فلا يصحُّ الأمرُ بالعدلِ ممَّن لا تتحقّقُ عندَه العدالةُ كما هوَ محرّرٌ في علمِ الكلام. ودمتُم سالِمين.