هل بيتُ المقدس أرضٌ لفلسطين أو لبني إسرائيل؟ وما علاقةُ العرب ببيت المقدس ومسرى الرسول (ص)؟

: السيد رعد المرسومي

السّلامُ عليكم ورحمة الله، 

تُعدُّ القدسُ، مدينةً في فلسطين وهيَ أولى القبلتينِ وثالثُ الحرمينِ الشريفينِ أي: مكّةَ والمدينة، مسرحَ النبوّاتِ ومعراجَ النّبيّ محمّدٍ صلّی اللهُ عليهِ وآله وسلّم ومهدَ المسيحِ عليه السّلام وزهرةَ المدائن، وموضعَ أنظار البشرِ منذُ أقدمِ العصور.  

عُرفَت مدينةُ القُدسِ عبرَ التاريخِ بأسماءَ عدّةٍ من أقدمِها: ما أطلقَه الكنعانيّونَ عليها: "أوروساليم:، أو: أورسالم، أو: أُورسُلَيمٌ؛ بمعنى: مدينةُ السّلام، أو دارُ السّلام. وهو إسمٌ عربيٌّ كنعانيّ، عُرفَت بهِ المدينةُ قبلَ وصولِ النبيّ يعقوب إليها، وحرّفَه العبريّونَ ليتناسبَ مع لغتِهم فقالوا: أُورشَلِيم، كقولِهم عن «بِئرِ السَّبعِ»: (بِيرشِيبَع).ومجملُ القولِ إنّ حاخاماتِ اليهودِ وجدوا أنَّ أحسنَ طريقةٍ يمكنُ إتّباعُها لربطِ تاريخِهم بأقدمِ العصورِ، ولجعلِ عصرِ اليهودِ مُتّصلاً بأقدمِ الأزمنةِ هوَ إستعمالُ مُصطلحٍ عبريٍّ للدلالةِ على اليهودِ بوجهٍ عام وبذلكَ يصبحُ تاريخُ فلسطين تاريخاً واحِداً مُتّصلاً ومرتبطاً، منذُ أقدمِ العصورِ بالشّعبِ اليهودي.[ الموسوعةُ الفلسطينيّةُ: مادةُ القدس].  

وقد وردَ في لسانِ العربِ لابنِ منظور: التقديسُ، تنزيهُ اللهِ عزَّ و جل. وفي التهذيب: القدسُ تنزيهُ الله، ويقالُ القدّوسُ منَ القُدسِ بمعنى الطّهارة، والتقديسُ أي التطهيرُ والتبريكُ، والقدسُ البركةُ، والأرضُ المُقدّسةُ منه، وبيتُ المقدسِ مِن ذلكَ أيضاً، والأرضُ المقدّسةُ الطّاهرةُ هي دمشقُ وفلسطين وبعضُ الأردن، ويقالُ أرضٌ مقدّسةٌ أي مباركةٌ . [إبنُ منظور، لسانُ العربِ، ص 168.]، فمدارُ المعنى، على السّلامةِ والتنزّهِ والطهارةِ والبراءةِ مِن كلِّ عيبٍ ونقصٍ ودنسٍ، وعلى كثرةِ الخيرِ والبركةِ والزكاةِ والعظمةِ والفضل.  

(علاقةُ اليهودِ بالقدس)  

کانَ یوشعُ بنُ نون أحدَ نقباءِ بني إسرائیلَ الذي کانَ بخدمةِ النبيّ موسى عليهِ السّلام وأصبحَ بعدهَ خلیفتَه وإماماً لبني إسرائیلَ، [الصفّارُ، بصائرُ الدرجات فی فضائلِ آلِ محمّد (ص): ج 1، ص99.]، ولم یُذکَر اسمُ یوشعَ في القرآنِ الکریم، و لکنَّ المُفسّرینَ اعتبروهُ أحدَ النّقباءِ في تفسیرِ الآیةِ 12 والآیة 23 من سورةِ المائدة.[ الفیضُ الکاشانی، البحرُ المحیط في التفسیر، ج 4، ص219]، وطبّقوا الآیةَ 60 من سورةِ الكهفِ على یوشعَ بنِ نون أیضاً.[ محمّد سبزواري، الأصفی في تفسیر القرآن: ج 2، ص 720.]  

ويعتبرُ دخولُ يشوعَ بلادَ فلسطين بدايةَ عهدِ اليهودِ بهذهِ الأرضِ وارتباطَهم بها نظريّاً.[ ابنُ كثيرٍ، البدايةُ والنّهاية، ج 1، ص 323.]، فإنّهم في زمنِ إبراهيمَ عليه السّلام لم يكونوا أمّةً بعد، بل كانَ إبراهيمُ عليه السّلام نفسُه يعيشُ حالةَ التنقّلِ والتغرّبِ في تلكَ البلاد، وكذلكَ الحالُ في إسحاقَ عليه السّلام ويعقوبَ عليهِ السّلام. ولم تستطِع التوراةُ أن تقدّمَ لنا صورةً واضحةً وصريحةً حولَ دخولِهم أرضَ فلسطين، فبينَما يصوّرُه سِفرُ يشوع على أنّهُ دخولٌ عسكريٌّ وقهرٌ للأممِ التي كانَت ساكنةً في تلكَ الأرضِ واستعباداً لها، وتنتهي الحربُ بتملّكِ الإسرائيليّينَ الأرضَ يقول: "فأخذَ يشوع كلَّ الأرضِ حسبَ ما كلّمَ به الرّبُّ موسى وأعطاها يشوع ملكاً لإسرائيلَ حسبَ فرقِهم وأسباطِهم واستراحَت الأرضُ منَ الحرب". [سِفر يشوع: 11-23]  

ولكنَّ سفرَ القُضاةِ يغايرُ لما وردَ في سفرِ يشوع عن قضيّةِ الدّخولِ هذه. فلا دخلَ للأرضِ بالحربِ، ولا هُم كانوا يسلكونَ طريقَ الإستقامةِ، فكانَ جزاؤهم العذابُ والتشريدُ مرّةً أخرى إلى ما بعدَ موتِ يشوع. بل إنَّ سكّانَ الأرضِ هم الذينَ نهبوهم وشرّدوهم، لأنّهم تعدّوا حدودَ اللَّهِ ونقضوا عهودَه ولم يسمعوا لصوتِه، فحميَ غضُبه عليهم حتّى ضاقَ بهم الأمرُ ولم يكونوا يرتدعونَ بقولِ نبيٍّ أتاهم، فبدأ يتسلّطُ عليهم الملوكُ الظالمونَ يذلّونَهم. وظهرَ عليهم العمالقةُ وعلى رأسِهم ملكُهم جالوت وهوَ منَ القبطِ فتسلّطوا عليهم وفرضوا عليهم جزية. ولم يجمَع اليهودُ كيانٌ واحدٌ بعدَ موتِ يشوع بل كانَ يتولّى أمورَهم قضاةٌ يفصلونَ بينَهم في المُنازعاتِ والمُخالفاتِ وكثيراً ما كانَ اليهودُ يرتدّونَ إلى عبادةِ الأصنامِ، والتجرّؤِ على حرماتِ التّوراةِ، فكانَ ذلكَ سبباً في تسلّطِ الآخرينَ عليهم كما ذكرَت التوراةُ.  

فبعدَ موتِ يوشع جاءَ عهدٌ عُرفَ ب"عهدِ القُضاة" يقولُ صاحبُ تاريخِ الإسرائيليّين: "كانت البلادُ فلسطين في عهدِ القضاةِ أشبهَ شيءٍ بولاياتٍ متّحدةٍ، في كلِّ ولايةٍ سبطٌ منَ الأسباطِ الإثني عشرَ يحكمُه كبارُ العشائر، وهذهِ الأسباط جميعُها مرتبطةٌ برباطٍ واحد، وكانوا يشتركونَ في الحفلاتِ الدينيّةِ الكُبرى على أنّهم كثيراً ما إرتّدوا عن عبادةِ اللهِ إلى عبادةِ الأصنام".  

وفي التوراةِ جاءَ: "إنَّ ذلكَ كانَ سبباً في تسلّطِ الأجانبِ عليهم، فكانَ لهم من قضاتِهم هؤلاءِ قوّادٌ يلمّونَ شعثَهم." [ المرصفي، أسطورةُ الوطنِ

اليهودي، ج 1، ص 88.]  

  

و جاءَ في تفسيرِ القمّي: أنَّ أبا جعفرٍ عليه السّلام قالَ: "إنَّ بني إسرائيل بعد موتِ موسى عليه السّلام عملوا بالمعاصي وغيّروا دينَ اللهِ، وعتوا عن أمرِ ربّهم، وكانَ فيهم نبيٌّ يأمرُهم وينهاهم فلم يطيعوهُ، فسلّطَ عليهم اللهُ جالوتَ وهو من القبطِ فأذلّهم وقتلَ رجالَهم وأخرجَهم من ديارِهم وأموالِهم، واستعبدَ نساءَهم". [الطباطبائيّ، تفسيرُ الميزان: ج 2، ص 301.]

ويُعتبرُ هذا العهدُ بدايةَ إنهيارِ المملكةِ العبرانيّةِ فبعدَ موتِ سليمانَ عليهِ السّلام إنقسمَت المملكةُ إلى مملكتينِ مملكةٌ جنوبيّةٌ وعاصمتُها القدسُ مملكةُ يهوذا، يحكمُها أحفادُ داودَ عليهِ السّلام، ومملكةٌ شماليّةٌ وعاصمتُها السّامرةُ مملكةُ اسرائيلَ يحكمُها يربعام. [ المسيري، اليهودُ واليهوديّة والصهيونيّة: ص 179.] وفي هذا العهدِ قامَ النّزاعُ بينَ الدّولتين ونسيَ اليهودُ تعاليمَ اللهِ وعبدوا الأوثانَ فسلّطَ اللهُ عليهم جيرانَهم الذينَ أذاقوهم العذابَ وأنزلوا بهِم الهزائمَ المُتلاحقة.  

واستطاعَ سرجونُ الثّاني ملكُ أشور الاستيلاءَ على مملكةِ الشّمالِ وأعملَ في أهلِها تنكيلاً وشتّتَهم خارجَ بلادِهم سنةَ 720 ق.م. أمّا مملكةُ الجنوبِ فقد استولى عليها "نخاو" أحدُ ملوكِ مصرَ وضمّها إلى الامبراطوريّةِ المصريّة إلى أن جاءَ بوختنصر ملكُ البابليّينَ فقضى على البقيّةِ الباقيةِ منَ اليهودِ ودكَّ القدسَ سنةَ 586 ق.م. وأسرَ البقيّة.  

1. وبعدَ دخولِ ملكِ الفُرس قورش فلسطينَ عندَها بدأت رحلةُ العودةِ لليهودِ إلى فلسطين، تلطّفَ الملكُ قورش على الأسرى مِن بني اسرائيل وأذنَ لهم في الرّجوعِ إلى الأرضِ المُقدّسةِ وأعانَهم على تعميرِ المسجدِ الأقصى وتجديدِ الأبنية. [ الطباطبائي، تفسيرُ الميزان: ج13، ص44.]، غيرَ أنَّ قسماً كبيراً منهم آثروا البقاءَ في بابل وبعضُهم بقيَ في مصر، وأمّا مَن عادَ إلى فلسطين ظلَّ تحتَ حكمِ الفُرسِ، ولم يكُن لهم أيُّ دورٍ في إدارةِ البلاد، وإستمرَّ حكمُ الفرسِ إلى عامِ 320 قبلَ الميلاد حيثُ غزا "الاسكندر" البلادَ بما فيها فلسطين واحتلّها وتوالَت الغزواتُ إلى أن جاءَ الرّومانُ بقيادةِ هيرودس وغزا فلسطينَ وملكَ على بني إسرائيل، ولكن سنة 70 ميلادية دمّرَ تيطس ملكُ الرّومانِ القدسَ ردّاً على ثورةِ اليهودِ عليه، وبعدَ ذلكَ بدأت المسيحيّةُ تنتشرُ في القدس. [ المسيري، اليهودُ واليهوديّة والصهيونيّة: ص 182وما بعدَها]. وبعدَ أن فتحَ المسلمونَ الشامَ جمعَ أبو عُبيدةَ بنُ الجرّاحِ المسلمينَ واستشارَهم بالمسيرِ إلى بيتِ المقدسِ أو إلى قيسارية، فقالَ له معاذُ بنُ جبل: "اكتُب إلى عُمر، فحيثُ أمركَ فامتثِله، فكتبَ ابنُ الجرّاحِ إلى عُمر بالأمرِ، فلمّا قرأ الكتابَ، استشارَ المسلمينَ بالأمر.  

ویروى أنّ عمرَ بنَ الخطّابِ استشارَ الإمامَ عليّاً بنَ أبي طالبٍ عليه السّلام عَن تحريرِ مدینةِ بیتِ المقدسِ منَ الرّوم، فأشارَ علیهِ بالذّهابِ بنفسِه لاستلامِها. فأخذَ بمشورتِه وولّاهُ على المدینةِ في غیابه .  

وذكرَ أبو جعفرٍ بنُ جرير عن روايةِ سيفٍ بنِ عمر، وملخّصُ ما ذكرَه هوَ وغيره: "أنَّ أبا عبيدةَ لمّا فرغَ مِن دمشقَ كتبَ إلى أهلِ إيليا يدعوهم إلى اللهِ وإلى الإسلامِ، أو يبذلونَ الجزيةَ، أو يأذنونَ بحربٍ، فأبوا أن يجيبوا إلى ما دعاهُم إليه، فركبَ إليهم في جنودِه، واستخلفَ على دمشقَ سعيداً بنَ زيدٍ، ثمَّ حاصرَ بيتَ المقدسِ وضيّقَ عليهم حتّى أجابوا إلى الصّلحِ، بشرطِ أن يقدمَ إليهم الخليفةُ عمرُ بنُ الخطّاب. فكتبَ إليهِ أبو عبيدةَ بذلكَ فاستشارَ عمرُ النّاسَ في ذلكَ فأشارَ عثمانُ بنُ عفّان بأن لا يركبَ إليهم ليكونَ أحقرَ لهم وأرغمَ لأنوفهم. وأشارَ الإمامُ عليٌّ عليه السّلام بالمسيرِ إليهم ليكونَ أخفَّ وطأةً على المسلمينَ في حصارِهم بينَهم، فهويَ ما قالَ الإمامُ علي ولم يهوَ ما قالَ عُثمان. [ ابنُ كثيرٍ، البدايةُ و النّهاية: ج 7، ص 55]  

وللقدسِ في رواياتِ أهلِ البيتِ (ع) مكانةٌ واضحةٌ، فمِن ذلكَ ما وردَ عن الإمامِ أبي جعفرٍ الباقرِ (ع) أنّهُ قالَ لأبي حمزةَ الثّمالي:" المساجدُ الأربعةُ، المسجدُ الحرامُ ومسجدُ الرّسولِ صلّی اللهُ عليهِ وآله وسلّم، ومسجدُ بيتِ المقدسِ، ومسجدُ الكوفةِ، يا أبا حمزةَ الفريضةُ فيها تعدلُ حجّةً، والنافلةُ تعدلُ عُمرة. [  الصّدوقُ، مَن لا يحضرُه الفقيه، ج 1، ص 163].  

روى الشّيخُ الصّدوقُ في مَن لا يحضرُه الفقيه عنِ الإمامِ عليٍّ عليهِ السّلام قوله: "صلاةٌ في بيتِ المقدسِ تعدلُ ألفَ صلاةٍ، وصلاةٌ في المسجدِ الأعظمِ تعدلُ مائةَ ألفِ صلاةٍ.[   الصّدوقُ، مَن لا يحضرُه الفقيه: ج 1، ص 167].  

وقالَ أبوعبدِ اللهِ عليه السّلام: الغاضریّة -إسمٌ مِن أسماءِ كربلاء- مِن تربةِ بیتِ المقدس. [  القمّي، كاملُ الزّيارات، ص 352، باب 88].  

يقولُ الإمامُ عليٌّ عليهِ السّلام: "ويسيرُ المهديُّ حتّى ينزلَ بيتَ المقدسِ... ويخرجُ قبلَه رجلٌ مِن أهلِ بيتِه بأهلِ المشرقِ، يحملُ السّيفَ على عاتقِه ثمانيةَ أشهرٍ "ثمانيةَ عشرَ شهراً في كتابِ البرهانِ في علاماتِ مهديّ آخرِ الزمانِ"، يقتلُ ويمثّلُ، ويتوجّهُ إلى بيتِ المقدس. فلا يبلغُه أحد".[معجمُ أحاديثِ الإمامِ المهدي، ج 4، ح 261، ص 175].