هل يمكنُنا القولُ أنَّ إنكارَ الأمورِ العقائديّةِ يوجبُ الكُفرَ سواءٌ رافقَه تكذيبُ النبيّ (ص) أم لا، وانّ إنكارَ الأمورِ الفقهيّةِ لا يوجبُ الكفرَ إلّا إذا رافقَه تكذيبُ النبيّ (ص)؟  

: السيد رعد المرسومي

السّلامُ عليكمُ ورحمة الله،  

الجوابُ عن سؤالِكم يتّضحُ مِن خلالِ بيانِ معنى الكُفرِ والكافرِ وأنواعِ الكُفرِ طبقاً لما بيّنَه أهلُ العلمِ في هذا الصّددِ، فنقولُ: الكافرُ والکُفرُ لغةً: مشتقّةٌ منَ الكُفر، والكُفرُ (بالضمّ) لغةً: له في أصلِ معناه عدّةُ معانٍ، منها: السَّتر والتَّغطِية، ولذا وصفُ الليل بالكافِرِ لِسَترِهِ الأشخاَص، وسمّيَ الزَّارعُ كافراً لسترِه البذرَ في الأَرضِ، قالَ تعالى: ﴿كَمَثَلِ غَيثٍ أَعجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾.[سورةُ الحديد: 20]  

وإستُعيرَ هذا اللّفظُ لمعنى الكافرِ؛ لأنّهُ غطّى وسترَ نداءَ فطرتِه بالوحدانيّةِ،إذ سمّيَ الكافرُ كافراً؛ لأنَّهُ مُغطّىً على قلبِه، ولم يدخُل الإيمانُ قلبَه، وهوَ ما ينسجمُ معَ المعنى اللغويّ للكُفرُ، وهوَ التَّغطِية والإخفاء. [ تاجُ العروسِ مِن جواهرِ القاموس، ج 14، ص 54.]  

كما أنَّ مُفردةَ الكُفرِ والكافرِ هيَ منَ الألفاظِ التي وردَت في القرآنِ الكريمِ والسنّةِ الشريفةِ بمعانٍ مُختلفةٍ ومتفاوتة مِن قبيلِ الجُحُودِ والردِّ، كقولِه تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعنَةُ اللَّهِ عَلَى الكَافِرِينَ ﴾.[سورةُ البقرة: 89] أو نكرانِ النّعمةِ، وهوَ ضِدُّ الشكرِ، كأن يُقالَ: (فلانٌ كَفَرَ النّعمةَ)، إذا سترَها ولم يشكرها، كما في قولِه تعالى:﴿ فَاذكُرُونِي أَذكُركُم وَاشكُرُوا لِي وَلاَ تَكفُرُونِ﴾.[سورةُ البقرة: ا152.] أو التبرّؤ والبراءة كما حكى اللهُ تعالى عن تبرّؤِ الكافرينَ بعضُهم مِن بعضٍ يومَ القيامةِ في قولِه: ﴿ ثُمَّ يَومَ القِيَامَةِ يَكفُرُ بَعضُكُم بِبَعضٍ وَيَلعَنُ بَعضُكُم بَعضًا وَمَأوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِن نَاصِرِينَ﴾.[سورةُ العنكبوت: 25.]  

وأمَّا التّعريفُ الإصطلاحيُّ للكافرِ فلم يخرُج عنِ الدّلالةِ اللغويّةِ كثيراً، إذ سمّيَ الكافرُ كافراً، لأنَّهُ مُغطّىً على قلبِه، ولم يدخُل الإيمانُ قلبَه.  

وعرّفَ السيّدُ المُرتضى الكُفرَ بقولِه: (عبارةٌ عمّا يستحقُّ بهِ دوامُ العقابِ وكثيرُه، ولحقَت بفاعلِه أحكامٌ شرعيّة). [ الذخیرةُ فی علمِ الکلام، ص 534.]  

والمرادُ بالكافرِ شرعاً: مَن كانَ مُنكِراً للألوهيّةِ أو التوحيدِ أو الرّسالةِ أو ضرورةٍ مِن ضروريّاتِ الدّين معَ الإلتفاتِ إلى كونِه ضروريّاً بحيثُ يرجعُ إنكارُه إلى إنكارِ الرّسالة. [العروةُ الوثقى، ج 1، ص 67].   

وأنواعُ الكُفرِ بحسبِ درجتِه إثنان: أحدُهما: كفرٌ مُخرِجٌ منَ الملّةِ، ويُقسمُ أربعةَ أقسام، هي:  

1- كُفرُ الإنكار (التّكذيب): وهوَ أن يَكفُرَ بقَلبِه ولسانِه، ولا يعرفُ ما يُذكرُ له منَ التّوحيدِ، ولا يقرُّ بهِ كما في قولِه تعالى: ﴿وَمَن أَظلَمُ مِمَّنِ افتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَو كَذَّبَ بِالحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيسَ فِي جَهَنَّمَ مَثوًى لِلكَافِرِينَ﴾.[سورةُ العنكبوتِ: 69.]  

سمّاهُم سبحانَه وتعالى كافرينَ بسببِ أنّهم كذّبوا بآياتِ اللهِ تعالى، وكذّبوا رسولَ اللهِ (ص) لِما جاءَهم كما كذّبَ الكُفّارُ السّابقينَ رسلَهم؛ قالَ تعالى: ﴿كَذَّبَت قَومُ نُوحٍ المُرسَلِينَ﴾. [ سورةُ الشّعراءِ: 105]. وكُفرُ الإنكارِ يتحقّقُ بإنكار وجودِ اللهِ تعالى، أي الإلحادُ (الزّندقةُ)، ويُمثّلُه قولُ المادّيّينَ ومَن شاكلهم منَ القائلينَ بالمُصادفةِ والطبيعةِ في تفسيرِ كيفيّةِ نشوءِ العالمِ والمخلوقاتِ، وقد ذكرَ القرآنُ مقولتَهم بقولِه تعالى: ﴿إِن هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنيَا نَمُوتُ وَنَحيَا وَمَا نَحنُ بِمَبعُوثِينَ﴾. [سورةُ المؤمنين: 37]  

2- كُفرُ الجُحُود: والجحودُ عموماً هو إنكارُ الحقِّ معَ العلمِ بثبوتِه، قالَ الجوهريُّ: «الجحودُ: الإنكارُ معَ العلم». [ تاجُ اللّغةِ وصحاحُ العربيّة، ج 2، ص 451.]  

ومعناهُ: أن يؤمنَ الكافرُ بما جاءَ بهِ النّبيُّ (ص) بقلبِه وينكرَه بلسانِه. وهوَ أشدُّ أنواعِ الكُفرِ؛ لأنَّ فيهِ مبارزةً للهِ تعالى عَن علمٍ وإصرار، وذلكَ بأن يكونَ عندَه معرفة للحقّ في قلبِه ويقيناً بهِ، لكنّهُ يجحدُه ظاهِراً ، وعلى هذا غالبُ الكفّار، كما قالَ تعالى: ﴿قَد نَعلَمُ إِنَّهُ لَيَحزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُم لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجحَدُونَ﴾ [الأنعامُ: 33]، وقالَ تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاستَيقَنَتهَا أَنفُسُهُم ظُلمًا وَعُلُوًّا فَانظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفسِدِين﴾. [النّملُ: 14] فأخبرَ أنّهم إستيقنَتها أنفسُهم، ولكِن جحدوها مِن أجلِ الظّلمِ والعلوِّ على النّاسِ، أو لأجلِ طمعٍ في رئاسةٍ أو غيرِ ذلكَ فهذا يُسمّى كُفرَ الجُحُود.  

3- كفرُ المعاندةِ والإستكبار: وهو أن يعرفَ اللهَ بقلبِه ويُقِرَّ بلسانِه، ولا يدينُ بهِ حسداً وبغياً. ومِن مصاديقِه كُفرُ إبليسَ (لعنَه اللهُ)، قالَ تعالى: ﴿وَإِذ قُلنَا لِلمَلَائِكَةِ اسجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبلِيسَ أَبَى وَاستَكبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ﴾.[سورةُ البقرةِ: 34]  

1. 4- كُفرُ النِّفاق: وهوَ أن يعترفَ بلسانِه ولا يقِرَّ بقلبِه.

[تاجُ العروسِ مِن جواهرِ القاموس، ج 7، ص450] بأن يُظهرَ الإسلامَ بلسانِه، ويُبطنَ الكُفرَ بقلبِه نتيجةَ مصالحَ مجتمعيّةٍ. قالَ تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِاليَومِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤمِنِينَ﴾. [سورةُ البقرة:8]. وهذا يُتعاملُ معَه بناءً على كونِه مُسلِماً على الظاّهرِ مِن أمرِه بغضِّ النّظرِ عَن واقعِه وباطنِه.  

وأمّا الكُفرُ الثّاني: فهوَ كفرٌ أصغرُ لا يُخرجُ منَ الملّةِ ، ويسمّى (الكفر الخفيّ). وهوَ يؤولُ إلى جُحُودِ النِّعمَةِ الإلهيّةِ، وهذا الصّنفُ منَ الكُفرِ لا يندرجُ ضمنَ أصنافِ الكُفرِ الحقيقيّةِ؛ بل ضمنَ الكُفرِ الأصغرِ (الخفي) ويقابله الشّكرُ، فالإنسانُ إمَّا شاكرٌ للنّعمةِ، أو كافرٌ بها، غيرُ قائمٍ بحقِّها، قالَ تعالى واصِفاً حالَ الإنسان: ﴿إِنَّا هَدَينَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾.[سورة الإنسان: 3]، وإطلاقُ الشّرعِ لفظَ الكُفرِ عليهِ مِن بابِ تعظيمِ حُرمتِه في النّفوس. ولكُفرِ النِعمَةِ مصاديقُ عدّةٌ مِن قبيلِ عدمِ الإقرارِ بنعمةِ اللهِ تعالى، كما في قولِه تعالى: ﴿وَإِذ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾. [سورةُ إبراهيم: 7]، أو قولِه عزَّ وجلَّ حكايةً عنِ النبيّ سُليمان (ع): ﴿... لِيَبلُوَنِي أَأَشكُرُ أَم أَكفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشكُرُ لِنَفسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾، [سورةُ النّمل: 40] وغيرُهما منَ الآياتِ الشّريفة. كما يندرجُ ضمنَ كفرانِ النّعمةِ الكفرُ العمليُّ بارتكابِ المعاصي الكبيرةِ والصّغيرةِ، أو حتىّ تركُ بعضِ الفرائضِ؛ فيما إذا كانَ مُقرّاً بما جاءَ بهِ الرّسولُ (ص)، لأنّ إمتثالَ أمر اللهِ شُكرٌ لنعمتِه، ومثاله كفرُ تاركِ فريضةِ الحجِّ، قالَ تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ مَنِ استَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ﴾.[سورةُ آلِ عمران: 97].  

هذا وقد إتّفقَ أكثرُ الفُقهاءِ على أنَّ الكُفرَ بالإصطلاحِ الفقهيّ يُطلقُ على مُنكرِ الألوهيّةِ أو التّوحيدِ أو الرّسالةِ أو ضرورةٍ مِن ضروريّاتِ الدّينِ مع الإلتفاتِ إلى ضرورتِه، مُعلّلينَ ذلكَ بكونِ هذا الإنكارَ يرجعُ في حقيقتِه إلى إنكارِ وتكذيبِ نفسِ الرّسالة. [العروةُ الوثقى، ج 1، ص 67.].  

وبعبارةٍ أخرى يوجدُ جانبانِ لتحقّقِ الكُفرِ بالإصطلاحِ الفقهيّ عندَ الفُقهاءِ بشكلٍ عام وهُما:  

أوّلاً- إنكارُ أصلٍ مِن أصولِ الدّينِ الأساسيّة، كالتوحيدِ، أو نبوّةِ النبيّ محمَّدٍ (ص)، أو المعادِ على قول.  

ثانياً- إنكارُ ما هوَ معلومٌ منَ الدّينِ الإسلاميّ بالضّرورةِ (مع الإلتفاتِ إلى ضروريّتِه)، مثلَ إنكارِ وجوبِ الصّلاةِ أو الصّومِ أو حُرمةِ الرّبا أو شربِ الخمر. كما أنَّ المُرادَ بالضّرورةِ الدينيّةِ في كلماتِ الفُقهاءِ هوَ الذي يرادفُ البديهيَّ والقطعيَّ واليقينَ بالإصطلاحِ المنطقي، أو ما كانَ واضِحاً عندَ عُلماءِ الإسلامِ بحيثُ لا يصحُّ الإختلافُ والتقليدُ فيه بعدَ تصوّره. [مصباحُ الفقيه، ج 1، ص 13- 14.]  

وعليهِ فإن كانَ مُنكرُ الضّرورةِ مُلتفِتاً إلى أنَّ إنكارَه لتلكَ الضّرورةِ الدّينيّةِ یلزمُ منهُ إنكارُ نبوّةِ النبيّ محمَّدٍ (ص) ورسالتِه أو جحودِها فإنّهُ يكونُ بذلكَ غيرَ مُسلمٍ بلا شك؛ لأنَّ ملاكَ الكُفرِ والخروجِ منَ الإسلام هوَ الإنكارُ الصّريحُ للرّسالةِ أو الإلتفاتُ إلى وجودِ المُلازمة. ودُمتُم سالِمين.