أحتاجُ إلى توضيحٍ بخصوصِ الخضرِ عليه السّلام في حالةِ إذا لم يكُن نبيّاً، فكيفَ كانَ يتلقّى التّعليماتِ والأوامرَ منَ اللهِ عزَّ وجل ؟ 

: سيد حسن العلوي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته  :  

نذكرُ الجوابَ على هذا السّؤالِ على شكلِ نقاط : 

النّقطةُ الأولى : إنّ مقاماتِ الحُججِ الإلهيّينَ والأصفياءِ المُصطفينَ غيرُ مُنحصرةٍ بالنّبوّةِ والرّسالةِ ، كذلكَ الوحيُ غيرُ مُختصٍّ بالنّبيّ والرّسولِ ، كما أنّهُ ليسَ بالضّرورةِ أن يكونَ رجلاً ، فقد تكونُ إمرأةً ، فإنّ الملائكةَ قد أوحَت إلى أمِّ موسى وهي ليسَت بنبيّةٍ ، قالَ تعالى : { وَأَوحَينا إِلى أُمِّ موسى أَن أَرضِعيهِ فَإِذا خِفتِ عَلَيهِ فَأَلقيهِ فِي اليَمِّ وَلا تَخافي وَلا تَحزَني إِنّا رادّوهُ إِلَيكِ وَجاعِلوهُ مِنَ المُرسَلينَ } [القصصُ: ٧] . 

ونقرأ في آياتٍ عديدةٍ حديثَ الملائكةِ معَ السّيّدةِ مريمَ وإيحاؤهم إليها ، وإخبارُهم لها وتكليفُهم إيّاها بأمور عديدةٍ ، وهيَ ليسَت بنبيّة . 

وقالَ تعالى : { وَإِذ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَريَمُ إِنَّ اللَّهَ اصطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصطَفاكِ عَلى نِساءِ العالَمينَ، يا مَريَمُ اقنُتي لِرَبِّكِ وَاسجُدي وَاركَعي مَعَ الرّاكِعينَ } [آل عمران: ٤٢-٤٣]  

وقالَ تعالى : { إِذ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَريَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنهُ اسمُهُ المَسيحُ عيسَى ابنُ مَريَمَ وَجيهًا فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبينَ، وَيُكَلِّمُ النّاسَ فِي المَهدِ وَكَهلًا وَمِنَ الصّالِحينَ، قالَت رَبِّ أَنّى يَكونُ لي وَلَدٌ وَلَم يَمسَسني بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمرًا فَإِنَّما يَقولُ لَهُ كُن فَيَكونُ } [آل عمران: ٤٥-٤٧] . 

وقالَ تعالى : { فَأَجاءَهَا المَخاضُ إِلى جِذعِ النَّخلَةِ قالَت يا لَيتَني مِتُّ قَبلَ هذا وَكُنتُ نَسيًا مَنسِيًّا، فَناداها مِن تَحتِها أَلّا تَحزَني قَد جَعَلَ رَبُّكِ تَحتَكِ سَرِيًّا، وَهُزّي إِلَيكِ بِجِذعِ النَّخلَةِ تُساقِط عَلَيكِ رُطَبًا جَنِيًّا، فَكُلي وَاشرَبي وَقَرّي عَينًا فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَدًا فَقولي إِنّي نَذَرتُ لِلرَّحمنِ صَومًا فَلَن أُكَلِّمَ اليَومَ إِنسِيًّا } [مريم: ٢٣-٢٦] . 

ومِن هذا القبيلِ ما وردَ في الرّواياتِ أنّ سيّدتنا ومولاتنا فاطمةَ الزّهراء (ع) كانَت الملائكةُ تُحدّثُها بعدَ وفاةِ رسولِ الله (ص) .  

 

النّقطةُ الثّانية : هناكَ مقامٌ تسالمَ جميعُ المُسلمينَ على وجودِه ، يُسمّى بمقامِ المُحدَّثِ ، وهوَ الذي تُحدّثهُ الملائكةُ وتتواصلُ معَه ، وتخبرُه بأخبارِ السّماءِ والأرضِ ، أو يُلهمُ لهُ ويُلقى في روعِه شيءٌ منَ العلمِ على وجهِ الإلهامِ و المُكاشفةِ منَ المبدأ الأعلى ، أو ينكتُ لهُ في قلبِه مِن حقائقَ تخفى على غيرِه ، أو غيرِ ذلكَ منَ المعاني التي يمكنُ أن ترادُ منه ، ولكِن مِن دونِ أن يكونَ نبيّاً . 

وقد أخبرَ نبيُّنا (ص) أنّهُ كانَ في الأممِ السّابقةِ مَن لهم هذا المقامُ ، وقد وردَ ذلكَ في قراءةٍ مشهورةٍ معروفةٍ ، أمّا ما يرتبطُ بهذهِ الأمّةِ فالشّيعةُ الإماميّة تذهبُ أنّهم الأئمّةُ المعصومونَ مِن أهلِ بيتِ النّبيّ (ص) والسّيّدة الزّهراء (ع) ووردَ أيضاً سلمانُ المُحمّدي، وأبناءُ العامّةِ يذهبونَ أنّ منهُم عمرَ بنَ الخطّاب .  

روى البُخاريُّ بسندِه عَن أبي هريرةَ قالَ قالَ النّبيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم: لقَد كانَ فيمَن كانَ قبلَكم مِن بني إسرائيلَ رجالٌ يُكلّمونَ مِن غيرِ أن يكونوا أنبياءَ فإن يكُن مِن أمّتي منهُم أحدٌ فعُمر .  

قال إبنُ عبّاس رضيَ اللهُ عنهما ما مِن نبيٍّ ولا محدّثٍ . (صحيحُ البُخاري : 4 / 200) . 

قالَ الحافظُ إبنُ حجرٍ : ( قولُه قالَ إبنُ عبّاس مِن نبيٍّ ولا محدّث ) أي في قولِه تعالى : { وما أرسلنا مِن قبلِك مِن رسولٍ ولا نبيٍّ إلّا إذا تمنّى } الآيةُ، كانَ إبنُ عبّاس زادَ فيها { ولا محدَّثٍ } أخرجَه سفيانُ بنُ عيينةَ في أواخرِ جامعِه وأخرجَه عبد بنُ حميد مِن طريقِه وإسنادِه إلى إبنِ عبّاسٍ صحيحٌ ولفظُه عَن عمرو بنِ دينار قالَ كانَ إبنُ عبّاس يقرأ : { وما أرسلنا مِن قبلِك مِن رسولٍ ولا نبيٍّ ولا محدّث .} (فتحُ الباري : 7 / 42) . 

فأصلُ هذا المقامِ لا شكَّ ولا خلافَ فيهِ بينَ جميعِ المُسلمينَ ، سواءٌ على مستوى الأممِ السّابقةِ أم هذهِ الأمّة . 

نذكرُ بعضَ رواياتِ الشّيعةِ الإماميّة :

1- روى الكُلينيّ وغيرُه بالإسنادِ عَن حمرانَ بنِ أعين قالَ : قالَ أبو جعفرٍ عليهِ السّلام إنَّ عليّاً عليهِ السّلام كانَ مُحدّثاً ، فخرجتُ إلى أصحابي فقلتُ : جئتُكم بعجيبةٍ ، فقالوا : وما هيَ ؟ فقلتُ : سمعتُ أبا جعفرٍ عليهِ السّلام يقولُ ، كانَ عليٌّ عليه السّلام مُحدّثاً فقالوا : ما صنعتَ شيئاً ألّا سألتَه مَن كانَ يُحدّثُه ، فرجعتُ إليهِ فقلتُ : إنّي حدّثتُ أصحابي بما حدّثتني فقالوا : ما صنعتَ شيئاً ألا سألتَه مَن كانَ يُحدّثُه ؟ ، فقالَ لي : يُحدّثُه ملكٌ ، قلتُ : تقولُ : إنّهُ نبيٌّ ؟ قالَ : فحرّكَ يدَه - هكذا - : أو كصاحبِ سليمانَ أو كصاحبِ موسى أو كذي القرنينِ ، أوما بلغَكُم أنّهُ قالَ : وفيكُم مثله . (الكافي للكُلينيّ: 1 / 271، بصائرُ الدّرجات: 1 / 570) . 

قوله : (حرّك يدَه هكذا) يعني بالنّفي ، بمعنى أنّهم ليسوا بأنبياء.

2- روى الكُلينيّ بسندِه عنِ الحكمِ بنِ عُتيبة قالَ : دخلتُ على عليّ بنِ الحُسين عليهما السّلام يوماً فقالَ : يا حكمُ، هل تدري الآيةَ التي كانَ عليُّ بنُ أبي طالب عليهِ السّلام يعرفُ قاتله بها ويعرفُ بها الأمورَ العظامَ التي كانَ يُحدّثُ بها النّاسَ ؟ قالَ الحكمُ : فقلتُ في نفسي : قَد وقعتُ على علمٍ مِن علمِ عليٍّ بنِ الحُسين ، أعلمُ بذلكَ تلكَ الأمورُ العظامُ ، قالَ : فقلتُ : لا واللهِ لا أعلمُ ، قالَ : ثمَّ قلتُ : الآيةُ تُخبرني بها يا ابنَ رسولِ اللهِ ؟ قالَ : هوَ واللهِ قولُ اللهِ عزَّ ذكرُه : " وما أرسلنا مِن قبلِك مِن رسولٍ ولا نبيٍّ ( ولا محدّث ) " وكانَ عليُّ بنُ أبي طالب عليهِ السّلام محدّثاً فقالَ لهُ رجلٌ يقالُ له : عبدُ اللهِ بنُ زيدٍ ، كانَ أخا عليٍّ لأمّه ، سبحانَ اللهِ محدّثاً ؟ ! كأنّه ينكرُ ذلكَ ، فأقبلَ علينا أبو جعفرٍ عليهِ السّلام فقالَ : أما واللهِ إنَّ إبنَ أمِّك بعدُ قَد كانَ يعرفُ ذلكَ ، قالَ : فلمّا قالَ ذلكَ سكتَ الرّجلُ ، فقالَ : هيَ التي هلكَ فيها أبو الخطّابِ فلم يدرِ ما تأويلُ المُحدّثِ والنّبي . (الكافي للكُليني: 1 / 270) . 

3- وروى الصّفّارُ بسندِه عَن أبي حمزةَ الثّمالي قالَ كنتُ أنا والمُغيرةُ بنُ سعيدٍ جالسينَ في المسجدِ، فأتانا الحكمُ بنُ عتيبةَ فقالَ: لقد سمعتُ مِن أبي جعفرٍ عليهِ السّلام حديثاً ما سمعَهُ أحدٌ قط، فسألناهُ فأبى أن يُخبرَنا به، فدخَلنا عليهِ، فقُلنا: إنَّ الحكمَ بنَ عُتيبةَ أخبرَنا أنّهُ سمعَ منكَ ما لم يسمَعهُ منكَ أحدٌ قطّ، فأبى أن يُخبرَنا به. 

 فقالَ: نعم، وجَدنا علمَ عليٍّ عليهِ السّلام في آيةٍ مِن كتابِ اللهِ {وما أرسلنا مِن قبلِك مِن رسولٍ ولا نبيٍّ - ولا محدّثٍ - }  

فقلنا: ليسَت هكذا هي.  

فقالَ: في كتابِ عليٍّ : { وما أرسلنا مِن قبلِك مِن رسولٍ ولا نبيٍّ - ولا محدّثٍ - إلّا إذا تمنّى ألقى الشيطانُ في أمنيتِه }.  

فقلتُ: وأيُّ شيءٍ المُحدّثُ ؟ فقالَ: يُنكَتُ في أذنِه، فيسمعُ طنيناً كطنينِ الطستِ، أو يُقرعُ على قلبِه فيسمعُ وقعاً كوقعِ السّلسلةِ على الطّست . 

فقلتُ: إنّهُ نبيّ ؟ 

قالَ: لا، مثلُ الخضرِ ومثلُ ذي القرنين . (بصائرُ الدّرجاتِ: 1 / 574) . 

4- روى الكُلينيّ بسندِه عَن محمّدٍ بنِ إسماعيل قالَ : سمعتُ أبا الحسنِ عليهِ السّلام يقولُ : الأئمّةُ علماءُ صادقونَ مُفهّمونَ مُحدّثون . ( الكافي للكُليني: 1 / 271) . 

5- وروى الصّفّارُ بسندِه عن أبي بصيرٍ عَن أبي عبدِ اللهِ عليهِ السّلام قالَ كانَ عليٌّ عليه السّلام مُحدّثاً، وكانَ سلمانُ مُحدّثاً، قالَ قلتُ: فما آيةُ المُحدّث؟ قالَ: يأتيهِ ملكٌ فينكتُ في قلبِه كيتَ وكيت . (بصائرُ الدّرجات: 1 / 571) . 

وهذهِ الأحاديثُ فيها دلالةٌ على عدّةِ أمور : 

الأوّلُ : تفسيرُ مقامِ المُحدَّثِ بتحديثِ الملائكةِ في الأذنِ ، أو الإلقاءِ في القلبِ . 

الثّاني : لا ملازمةَ بينَ تحديثِ الملائكةِ والنّبوّةِ ، فليسَ كلُّ مَن تُحدّثُه الملائكةُ نبيّاً ، كما يتّهمُنا أبناءُ العامّةِ ، وكما إشتبهَ فيهِ أبو الخطّابِ رأسُ الغلاةِ لمّا سمعَ بمقامِ المُحدّثِ فظنّ أنّها نبوّة .   

الثّالثُ : إنّ الرّاوي توهّمَ النّبوّةَ مِن حديثِ الملائكةِ ، فنفى الإمامُ النّبوّةَ ، عندَما أشارَ لهُ الإمامُ بيدِه بالنّفي . 

الرّابعُ : الإمامُ ذكرَ بعضَ الأفرادِ والمصاديقِ لمقامِ المُحدّثِ من دونِ نبوّةٍ ممّا يعلمُ به جميعُ المسلمين وهُم : آصفُ بنُ برخيا صاحبُ سليمانَ ووصيُّه ، صاحبُ موسى وهوَ الخضرُ ، ذو القرنين .  

الخامسُ : إنَّ أئمّةَ أهلِ البيتِ (ع) منَ المُحدّثين . 

السّادسُ : إنّ مقامَ المُحدّثِ غيرُ مُنحصرٍ بالأئمّةِ مِن أهلِ البيتِ (ع) أو بالخضرِ وآصفَ وذي القرنينِ ، فقد وردَ في بعضِ الرّواياتِ أنّ سيّدتنا فاطمةَ الزّهراء (ع) منهُم ، ووردَ أنّ سلمانَ المُحمّديَّ أيضاً منهُم .  

 

النّقطةُ الثّالثة : إنّ ليلةَ القدرِ لم تُرفَع بعدَ وفاةِ رسولِ اللهِ (ص) فهيَ باقيةٌ إلى يومِ القيامةِ، كما هوَ رأيُ جمهورِ المُسلمينَ، والملائكةُ والرّوحُ تنزلُ في ليلةِ القدرِ على إمامِ الزّمانِ وخليفةِ اللهِ في الأرضِ، وتُسلّمُه ملفّاتٍ خطيرةً، ممّا يرتبطُ بمقامِ خلافتِه عنِ اللهِ، وإمامتِه على المُسلمين. 

والحالُ أنّ بابَ النّبوّةِ قد أغلقَ بعدَ وفاةِ رسولِ اللهِ (ص) ولكنَّ الملائكةَ والرّوحَ تنزلُ وتُخبرُ مُراداتِ اللهِ لخليفةِ اللهِ في كلِّ ليلةِ قدرٍ مِن كلِّ سنة. 

قالَ تعالى : { إِنّا أَنزَلناهُ في لَيلَةِ القَدرِ، وَما أَدراكَ ما لَيلَةُ القَدرِ، لَيلَةُ القَدرِ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ، تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرّوحُ فيها بِإِذنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أَمرٍ، سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطلَعِ الفَجرِ } [القدرُ: ١-٥] 

 

 

والحمدُ للهِ ربِّ العالمين .