لماذا يُفرّقُ بينَ الحرِّ والعبدِ في القصاص؟ 

وفي تهذيبِ الأحكامِ (ج10/ص191): عَن صفوانَ، عَن ابنِ مسكانَ، عَن أبي بصير، عن أحدِهما - عليهما السّلامُ - قالَ: قلتُ: قولُ اللَّهِ تعالى «كُتِبَ عَلَيكُمُ القِصاصُ فِي القَتلى الحُرُّ بِالحُرِّ والعَبدُ بِالعَبدِ والأُنثى بِالأُنثى». قالَ: قالَ: لا يُقتَلُ حرٌّ بعبد. ولكِن يُضرَبُ ضرباً شديداً. ويُغرّمُ ثمنَ العبد.  لماذا هذا الفرقُ في العقوبةِ، بينَ الحرِّ والعبدِ وبينَ الرّجلِ والمرأةِ معَ أنّنا نتعاملُ مع جريمةِ قتلٍ سلبَت الحياةَ منَ المقتولِ؟ أليسَ الإنسانُ واحِداً مِن جهةِ الحياةِ والموتِ والكرامةِ الإنسانيّة؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :  

الرّواياتُ في هذا الشأنِ كثيرةٌ وقد جاءَت تفسيراً للآيةِ الكريمةِ المُشارِ لها في السّؤالِ، وفتاوى الفقهاءِ في كتبِهم الفقهيّةِ مطابقةٌ لهذهِ الرّواياتِ؛ وذلكَ لكونِ الفقيهِ لا يسعُه الفتوى إعتماداً على رؤيتِه الشّخصيّةِ وإنّما يعودُ إلى النّصوصِ الدّينيّةِ ويلتزمُ بما فيها مِن أحكامٍ، ومِن هُنا ما نقدّمُه مِن معالجةٍ لهذه المسألةِ ينطلقُ منَ الفلسفةِ العامّةِ لمقاصدِ الشّريعةِ وغاياتِها، ويجبُ ألّا تُحسبَ على أنّها رؤيةٌ فقهيّةٌ معارضةٌ لِما هوَ مشهورٌ بينَ الفقهاءِ، وإنّما هيَ معالجةٌ ثقافيّةٌ ترتكزُ على مراعاةِ البُعدِ التّاريخيّ لمسارِ الأحكامِ الشّرعيّة. 

وقبلَ الإشارةِ إلى هذهِ المُعالجةِ لابدَّ مِن بيانِ بعضِ الأمورِ التي تُمثّلُ ضوابطَ أوّليّةً لفهمِ الأحكامِ الشرعيّةِ، وذلكَ حتّى لا تخرجَ المُعالجاتُ المُقترحةُ عنِ المسارِ العامِّ للفقهِ الإسلامي.  

فمنَ المُسلّمِ بهِ أنَّ الأحكامَ الشّرعيّةَ تتّبعُ المصالحَ والمفاسدَ الواقعيّةَ، بمعنى إذا كانَ في الأمرِ مصلحةٌ مهمة بحيث لا يمكن تركها حُكمَ فيها بالوجوبِ، وإن كانَت المفسدةُ بهذه الأهمية والخطورة حُكمَ بالحُرمةِ، ثمَّ تتراوحُ الأحكامُ بينَ الإستحبابِ والكراهةِ والإباحةِ بمقدارِ نسبِ المصالحِ والمفاسدِ فيها، ومنَ المُسلّمِ أيضاً أنَّ الإحاطةَ بما في الواقعِ مِن مفاسدَ ومصالحَ ليسَ مُتيسِّراً بمُطلقِه للإنسانِ، ولذا كانَ منَ الضّروريّ تدخّلُ الشّارعِ لبيانِ الأحكامِ لكثيرٍ منَ الموضوعاتِ، وبما أنَّ الأحكامَ التي بيّنَتها الشّريعةُ محدودةٌ والوقائعُ في قبالِ ذلكَ غيرُ محدودةٍ، علِمنا أنَّ بعضَ الموضوعاتِ يستقلُّ العقلُ في إدراكِ ما فيها مِن مصالحَ ومفاسدَ، فمثلاً يمكنُ للفقيهِ أن يُفتي بحُرمةِ المُخدّراتِ حتّى لو لم يرِد في حُرمتِها نصٌّ، كما يمكنُه أن يُفتي بوجوبِ أخذِ اللّقاحِ إن كانَ فيهِ نجاةُ الإنسانِ منَ المرضِ والموتِ، فكلُّ ما ثبتَت مصلحتُه أو مفسدتُه بالضّرورةِ يمكنُ الحكمُ على موجبه. 

ومِن جهةٍ أخرى إذا علِمنا بأنَّ الأحكامَ الشّرعيّةَ تدورُ مدارَ موضوعاتِها وجوداً وعدماً، علِمنا أيضاً إمكانيّةَ تبدّلِ الأحكامِ بتبدّلِ الموضوعاتِ، وكما يُقالُ لو إستحالَ الخمرُ خلّاً لأصبحَ حلالاً، وكذلكَ إذا حرّمَ الشّارعُ المُتاجرةَ في ما لا ماليّةَ فيه، مثلَ بيعِ الأعيانِ النّجسةِ مثلَ الدّمِ والعُذرةِ، ومِن ثمَّ بتطوّرِ الزّمنِ أصبحَ لهُما فوائدُ مُعتدٌّ بها عُرفاً مثلَ بيعِ العذرةِ للتسميدِ وبيعِ الدّمِ في عملياتِ نقلِ الدّم فحينَها يجوزُ للفقيهِ أن يُفتي بجوازِ بيعِهما ولا يكونُ بذلكَ مُخالِفاً للنّصوصِ التي حرّمَت ذلكَ، وهكذا يمكنُنا القولُ أنَّ التّشخيصَ الدّقيقَ لموضوعاتِ الأحكامِ يُمثّلُ الخطوةَ الأهمَّ في معرفةِ الأحكامِ، ومنَ المعلومِ أنَّ تشخيصَ الموضوعاتِ وتحديدَها في الخارجِ مسؤوليّةُ العُرفِ والعقلاءِ، فمثلاً إذا حكمَ الشّارعُ بطهارةِ الماءِ ونجاسةِ الخمرِ، فإنَّ مهمّةَ العُرفِ حينَها تقومُ على إيجادِ المصاديقِ الخارجيّةِ لكلٍّ منَ الماءِ والخمرِ، وهذا بخلافِ موضوعاتِ العباداتِ فإنَّ الشّارعَ هوَ الذي يتكفّلُ بتحديدِها مثل الصّلاةِ والزّكاةِ والحجِّ والصّومِ، وما دونَ ذلكَ لا يتدخّلُ الشّارعُ في تحديدِ موضوعاتِه إلّا نادراً، وبذلكَ يكونُ الشّارعُ قد فتحَ المجالَ للمُكلّفِ للإجتهادِ في تحديدِ الموضوعاتِ، وبخاصّةٍ الموضوعاتِ المُعقّدةَ والمُركّبةَ مثل الموضوعاتِ المُتعلّقةِ بالشّأنِ الإجتماعيّ والسّياسيّ وغيرِها منَ الموضوعاتِ التي تحتاجُ أحياناً للإستعانةِ في تحديدِها بأهلِ الخبرةِ والإختصاص.

وإذا إتّضحَ ذلكَ يمكنُنا أن نجزمَ بأنَّ أحكامَ القصاصِ فُصّلَت على المصالحِ والمفاسدِ الواقعيّةِ ولا تشذُّ عَن بقيّةِ الأحكامِ الشّرعيّةِ، وبما أنَّ أحكامَ القصاصِ تستهدفُ بالأساسِ وضعَ ضوابطَ لمشكلةِ القتلِ التي تحدثُ في المُجتمعاتِ، فلابُدَّ حينَها أن تتناسبَ الأحكامُ معَ البُنيةِ الثّقافيّةِ والإجتماعيّةِ وإلّا تصبحُ الحلولُ لواقعٍ غيرِ الواقعِ المنظورِ، ومنَ المعروفِ مِن طبيعةِ القوانينِ أنّها تقومُ على سدِّ الثغراتِ التي لو تُركَت أحدثَت خرقاً كبيراً في المُجتمعِ، ولا تقومُ القوانينُ بإحداثِ ثغراتٍ جديدةٍ لم تكُن موجودةً في المجتمعِ، فمثلاً لو كانَ المُجتمعُ لا يُفرّقُ في ثقافتِه بينَ الحرِّ والعبدِ وينظرُ لهُما بعينٍ واحدةٍ، ومعَ ذلكَ جاءَت أحكامُ القصاصِ بالتّفريقِ بينَهُما لتسبّبَ ذلكَ في خلقِ مُشكلةٍ إجتماعيّةٍ لم تكُن في الحسبانِ، والعكسُ بالعكسِ فلو كانَ المُجتمعُ لا يستوعبُ المساواةَ بينَ الحرِّ والعبدِ، ولا يرى في العبدِ سوى كونِه منفعةً تُباعُ وتُشترى فلا يملكُ حتّى نفسَه وإنّما يملكُه سيّدُه، فحينَها لا يمكنُ أن تأتيَ أحكامُ القصاصِ بفرضِ التّساوي بينَهُما لأنَّ ذلكَ يكونُ بالضّرورةِ على خلافِ المصلحةِ التي يقتضيها الظّرفُ الإجتماعيّ والتّاريخيّ، وعليهِ فإنَّ تحديدَ المصلحةِ الإجتماعيّةِ رهينٌ بالظّرفِ التّاريخيّ والثّقافي، والظّواهرُ الإجتماعيّةُ بطبيعتِها لا تُحكمُ بقوانينَ ثابتةٍ لأنّها في حالةٍ منَ التّغيّرِ والتّبدّلِ الدّائمِ، فما يكونُ مقبولاً في مجتمعٍ يكونُ مذموماً في مجتمعٍ آخر، وقد أشرنا في إجابةٍ سابقةٍ في ما يتعلّقُ بظاهرةِ الرّقِّ، بأنّها منَ الظواهرِ التي لا يمكنُ تفهّمُها وقبولها بحسبِ الثّقافةِ المُعاصرةِ، معَ أنّها كانَت مقبولةً ومُتفهّمةً في تلكَ الفترةِ التّاريخيّةِ، وعليهِ فإنَّ محاكمةَ العقلِ الإجتماعيّ المُعاصرِ للعقِل الإجتماعيّ قبلَ 1400 عامٍ مُحاكمةٌ خاطئةٌ تتجاهلُ التّفاوتَ الذي تفرضُه البُنيةُ الإجتماعيّةُ والثقافيّةُ والتاريخيّةُ، ومِن هُنا فإنَّ تغييرَ الظّواهرِ الإجتماعيّةِ المُتجذّرةِ في المُجتمعِ لا يكونُ إلّا عبرَ التّدرّجِ الزّمنيّ وضمنَ رؤيةٍ مدروسةٍ تستصحبُ البُعدَ النّفسيَّ للمُجتمعاتِ، وقد ضرَبنا هناكَ مثلاً بتحريمِ الخمرِ الذي إستغرقَ عشرينَ سنةً تقريباً وبثلاثِ مراحلَ بعدَ السّكوتِ عنهُ لسنواتٍ، معَ أنَّ التّخلي عنِ الخمرِ أقلُّ مؤنةً لكونِه قراراً فرديّاً بخلافِ الرّقِّ الذي كانَ يُمثّلُ ظاهرةً إجتماعيّةً تتشابكُ معَ أبعادٍ أخرى في المُجتمعِ، إلى درجةِ أنّها كانَت تُمثّلُ عصبَ الحياةِ الإجتماعيّة والسّياسيّة والإقتصاديّةَ، ومِن هُنا فإنَّ تغييرَ النّمطِ الحياتيّ للمُجتمعِ يحتاجُ إلى تدرّجٍ مِن نوعٍ خاصٍّ يستهدفُ البُنيةَ الثّقافيّةَ المُتحكّمةَ فيه، والمُعالجةُ التي تستهدفُ القضاءَ على ظاهرةِ الرّقِّ طويلةُ الأمدِ؛ لكونِها تقومُ على تغييرِ البُنيةِ الثّقافيّةِ لكلِّ المُجتمعِ، وفي نفسِ الوقتِ لا يمكنُ الإنتظارُ حتّى يكتملَ ذلكَ المُجتمعُ مِن دونِ تقديمِ معالجاتٍ وقتيّةٍ لبعضِ الإشكالاتِ التي تحدثُ فيهِ مثل القتلِ الذي قد يحدثُ بينَ الحرِّ والعبدِ، ومِن هُنا جاءَ حكمُ القصاصِ بهذا الشّكلِ مُراعياً المصلحةَ بحسبِ الظّرفِ الإجتماعيّ والتّاريخيّ، وإذا تغيّرَ هذا الظرفُ سواءٌ بانعدامِ ظاهرةِ الرّقِّ أو بتطوّرِ الحقوقِ بحيثُ باتَ المجتمعُ لا يُفرّقُ بينَ السّيّدِ والعبدِ حينَها يمكنُنا القولُ أنَّ المصلحةَ تقتضي المساواةَ بينَهما في القصاصِ، وما عُرضَ على السّائلِ مِن إشكالٍ هوَ نتيجةُ مقاربتِه لهذا الحكمِ بثقافةِ الحاضرِ الذي لا يتقبّلُ ظاهرةَ الرّقِّ مِن أساسِها أو لا يتقبّلُ التّفريقَ بينَ البشرِ في الحقوقِ، في حينِ أنَّ هذا الحُكمَ ينسجمُ معَ ثقافةِ المُجتمعِ في تلكَ الفترةِ التّاريخيّةِ ولا يرى فيهِ أيَّ تعارضٍ معَ العدالةِ والمساواة.

وإذا رجعنا إلى مقاصدِ الدّينِ وغاياتِه الكُبرى نجدُه يقومُ أساساً على كرامةِ الإنسانِ بما هوَ إنسانٌ قالَ تعالى: (وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلنَاهُم فِي البَرِّ وَالبَحرِ وَرَزَقنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلنَاهُم عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّن خَلَقنَا تَفضِيلًا) والآيةُ نصٌّ في أنَّ التّكريمَ وقعَ على بني آدمَ وهوَ شاملٌ لجميعِ البشرِ، كما أنَّ القرآنَ لم يُفرِّق بينَ النّاسِ على أساسِ العرقِ والهويّةِ وإنّما جعلَ الجميعَ متساوينَ في الإنسانيّةِ، قالَ تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلنَاكُم شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقَاكُم ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) فالآيةُ بدأت خطابَها للنّاسِ وجعلَتهم جميعاً في مرتبةٍ واحدةٍ، وعلى ذلكَ إستهدفَ الإسلامُ قيامَ نظامٍ إجتماعيٍّ للمؤمنينَ لا يتمايزُ أفرادُه بأيّ شكلٍ مِن أشكالِ الطّبقيّةِ قالَ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسخَر قَومٌ مِّن قَومٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيرًا مِّنهُم وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيرًا مِّنهُنَّ ۖ وَلَا تَلمِزُوا أَنفُسَكُم وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلقَابِ ۖ بِئسَ الِاسمُ الفُسُوقُ بَعدَ الإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّم يَتُب فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فإذا حرّمَ الإسلامُ مُجرّدَ التّنابزِ بالألقابِ حفاظاً على وحدةِ المُجتمعِ فكيفَ يسمحُ بوجودِ شرخٍ إجتماعيٍّ يقسمُ المُجتمعَ إلى أحرارٍ وعبيد؟ وعليهِ إذا ثبتَ ذلكَ ثبتَ أيضاً أنَّ أيَّ حُكمٍ يقومُ على مُخالفةِ هذا المبدأ يكونُ حُكماً ظرفيّاً إستهدفَ مُعالجاتٍ وقتيّةً لا تستقيمُ الحياةُ في وقتِها إلّا به، أي أنّه حكمٌ في واقعةٍ كما يُقال، وإذا إنتفَت الواقعةُ إنتفى معها الحكمُ، ومِن هُنا يمكنُنا الجزمُ أنَّ الإسلامَ مِن خلالِ التّفريقِ بينَ العبدِ والحرِّ في القصاصِ لا يُؤسّسُ لمبدأٍ عامٍّ، بلِ المبدأ العامُّ في نظرِ الإسلامِ هوَ المساواةُ بينَ النّاسِ جميعاً في الحقوقِ والواجباتِ، قالَ تعالى: (وَكَتَبنَا عَلَيهِم فِيهَا أَنَّ النَّفسَ بِالنَّفسِ) وهذهِ الآيةُ تحكمُ بالمساواةِ في القصاصِ بينَ البشر جميعاً، وإن كانَت الآيةُ هُنا عامّةً وآيةُ القصاصِ مُفصّلة، وبحسبِ القواعدِ المرعيّةِ في الإستنباطِ فإنَّ المُفصّلَ مُقدّمٌ على المُجملِ والعامِّ، إلّا أنَّ الرّجوعَ إلى حُكمِ العامِّ يكونُ موافِقاً للإحتياطِ في حالِ الشّكِّ في جريانِ حُكمِ الخاصِّ، وبخاصّةٍ إذا كانَ حكمُ العامِّ ينسجمُ معَ المقصدِ العامِّ للشّريعةِ الإسلاميّة.