أحدُ المُلحدينَ يقولُ:لماذا أُخّرَت عقوبةُ إبليس ولم تُؤخّر عقوبةُ مَن أنزلَ اللهُ بهم العذابَ في الدّنيا؟ 

السّلامُ عليكم أحدُ المُلحدينَ يقولُ: عندَما نطالعُ قصّةَ الشّيطانِ وخروجهِ منَ الجنّةِ نجدُ أنّ إلهَ المُسلمينَ قد أعطاهُ وقتاً لحسابِه وعقابِه حسبَ قولكم؛ في حينِ نجدُ التّناقضَ في قصصِ أهلِ قُرىً آخرينَ مثلَ المصريّينَ وغرقِهم وقومِ عادٍ وقومِ هود وغيرِهم، فلماذا يتمُّ التّعاطفُ معَ أحدٍ دونَ الآخر! فأيُّ عدالةٍ ومساواةٍ هذه؟! 

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :  

كما عوّدَنا الملحدونَ دائماً أنّهم لا يعرفونَ أبسطَ قواعدِ المنطِق والإستدلالِ، فلو نظرنا لصاحبِ الإشكالِ وجدنا أنّهُ يتحدّثُ عَن وجودِ تناقضٍ بينَ قضيّتينِ مُختلفتينِ، الأمرُ الذي يكشفُ عَن جهلِه بطبيعةِ التّناقضِ والشّروطِ التي تحكمُه، فتأخيرُ عقوبةِ إبليس وتعجيلُ عقوبةِ أقوامٍ آخرينَ يمكنُ حدوثُها مِن دونِ أن يكونَ في الأمرِ تناقضٌ؛ وذلكَ لكونِهما يختلفانِ في الموضوعِ كما يختلفانِ في اللّحاظِ والوقتِ وغيرِ ذلكَ ممّا يُشترطُ في إستحالةِ إجتماعِ النّقيضينِ، فمنَ الواضحِ أنَّ السّائلَ لا يتحلّى بروحِ البحثِ العلميّ ولا يتحرّى الموضوعيّةَ مِن أجلِ الوصولِ إلى الحقائقِ، وإنّما يحاولُ خداعَ البُسطاءِ مِن خلالِ خلطِ الأمورِ وتشويهِ الحقائقِ، فالفرقُ كبيرٌ بينَ مَن يسألُ مِن أجلِ الحقيقةِ الموضوعيّةِ وبينَ مَن يبرزُ حقدَه وأمراضَه النّفسيّةَ في صورةِ سؤالٍ وإشكال. 

وإذا فكّكنا الإشكالَ وأرجعناهُ إلى عناصره الأوليّةِ لوجدنا أنّه يجمعُ بينَ أمورٍ ليسَ بينَها جامعٌ، ومنَ البديهيّ لا يعدُّ الإشكالُ إشكالاً إلّا إذا أدّى الى إثباتِ قضيّةٍ ما ونفي قضيّةٍ أخرى، كأن ينفي ضرورةً عقليّةً أو ضرورةً علميّةً ثبتَ صحّتُها في مكانٍ آخر أو كانَ مُخالِفاً لقيمةٍ منَ القيمِ الأساسيّةِ، وفي غيرِ هذهِ الحالاتِ يكونُ الإشكالُ مُجرّدَ هرطقةٍ ولقلقةِ لسانٍ، وإذا رجعنا للسّائلِ لوجدنا أنّهُ إعتمدَ في إشكالِه على أمرينِ، الأوُّل: التّناقضُ، في قولِه: (في حينِ نجدُ التّناقضَ في قصصِ أهلِ قرىً آخرين)، والأمرُ الثّاني: مخالفةُ قيمةِ العدلِ والمساواةِ، في قولِه: (فأيُّ عدالةٍ ومساواةٍ هذه؟)  

بالنّسبةِ للأمرِ الأوّلِ: إذا رجعنا للتّناقضِ المزعومِ لما وجدنا لهُ أثراً، وذلكَ كما بيّنّا في مدخلِ الإجابةِ أنّ التّناقضَ لا يكونُ إلا بتحقّقِ مجموعةٍ منَ الشّروطِ، وهيَ غيرُ مُتحقّقةٍ في موضوعِ الإشكالِ، فلا تناقضَ بينَ تأخيرِ عقوبةِ إبليس إذا صحَّت، وتعجيلِ عقوبةِ قومِ عادٍ وثمودَ وغيرِهم بأيّ وجهٍ منَ الوجوه. 

أمّا الأمرُ الثّاني: منَ الواضحِ أنّه جعلَ العدلَ والمساواةَ أمراً واحداً ولم يُفرِّق بينَهُما، فالعدلُ الذي يقصدُه هوَ المساواةُ في الموقفِ والحكمِ، ولم يقصِد العدلَ الذي لا يشترطُ فيهِ المساواةُ دائِماً وإنّما تكونُ الحِكمةُ هي الضّابطةَ فيه، وبكِلا المعنيينِ فإنَّ العدلَ والمساواةَ مُتحقّقةٌ في تأخيرِ عقوبةِ إبليسَ بالمعنى الظّاهرِ، وتعجيلِ عقوبةِ آخرينَ، ولفهمِ ذلكَ لابدَّ مِن ملاحظةِ مجموعةٍ منَ الأمور:  

1- المحكمةُ النّهائيّةُ التي يحاسَبُ فيها العبادُ على ذنوبِهم هيَ يومُ القيامةِ، وفي تلكَ المحكمةِ يصطفُّ إبليسُ ومَن تبعَه في صفٍّ واحدٍ ويحاسبُ كلُّ واحدٍ بما قدّمَت يداهُ، وهذا مُنتهى العدالةِ والمساواة. 

2-   فلسفةُ العقوبةِ والعذابِ في الدّنيا هيَ قطعُ دابرِ الذينَ ظلموا وطردُهم مِن رحمةِ اللهِ بعدَ أن يستنفذوا كلَّ سبلِ الهدايةِ وينقطعَ الرّجاءُ منهُم، قالَ تعالى: (وَقَضَينَا إِلَيهِ ذَٰلِكَ الأَمرَ أَنَّ دَابِرَ هَٰؤُلَاءِ مَقطُوعٌ مُّصبِحِينَ)، وقالَ تعالى: (فَأَنجَينَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤمِنِينَ)، وقالَ تعالى: (فَقُطِعَ دَابِرُ القَومِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ) والمتأمّلُ في ذلكَ يجدُها هيَ ذاتُها العقوبةُ التي وقعَت على إبليسَ حيثُ طُردَ مِن رحمةِ اللهِ وأصبحَ منَ الملعونينَ، قالَ تعالى: (قَالَ فَاخرُج مِنهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيكَ اللَّعنَةَ إِلَىٰ يَومِ الدِّينِ) وبذلكَ وقعَ العذابُ بالفعلِ على إبليسَ وأصبحَ مطروداً مِن رحمةِ اللهِ إلى يومِ الدّين، فأيُّ عذابٍ أشدُّ يمكنُ أن يعيَشه وهوَ بعيدٌ عَن رحمةِ اللهِ؟ وكيفَ بعدَ ذلكَ يظنُّ الظّانُّ أنَّ هذا كانَ رحمةً في حقِّ إبليس؟

3- يصبحُ الوقتُ الممنوحُ لإبليسَ مزيّةً إيجابيّةً إذا كانَ يدخله مِن جديدٍ في رحمةِ اللهِ، أمّا إذا كانَ يزيدُ في حسابِه ويبعدُه أكثر مِن رحمةِ اللهِ فإنَّ ذلكَ يكونُ مزيداً منَ العذابِ وليسَ العكس، قالَ تعالى: (يَوَدُّ أَحَدُهُم لَو يُعَمَّرُ أَلفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعمَلُونَ)، فإذا كانَ طولُ العمرِ لا يُزحزحُ عنِ العذابِ فما هيَ الجدوى منه؟ كما أنَّ العيشَ معَ الطّردِ مِن رحمةِ اللهِ هوَ عذابٌ فعليٌّ، وبذلكَ يكونُ إبليسُ نالَه ما نالَ الأقوامَ التي قطعَ اللهُ دابرَها وطردَها مِن رحمتِه، وهذا خلافُ ما تصوّرَه السّائلُ بقولِه: (قد أعطاهُ وقتاً لحسابِه وعقابِه) فإذا كانَ يقصدُ الحسابَ والعقابَ يومَ القيامةِ، فهذا يتساوى فيهِ معَ الآخرينَ، وإن كانَ يقصدُ الحسابَ والعقابَ الذي هو طردٌ مِن رحمةِ اللهِ فهوَ واقعٌ فيهِ ولم يؤخَّر في حقِّه.

4- منَ الواضحِ أنَّ فهمَ أيّ موقفٍ أو حدثٍ يجبُ أن يقترنَ بالأسبابِ والغاياتِ والحِكمةِ النّهائيّةِ، فالحِكمةُ مِن وجودِ الإنسانِ تختلفُ عنِ الحِكمةِ مِن وجودِ إبليس، وما يترتّبُ على كِلا الحِكمتينِ لا يكونُ واحداً بالضّرورةِ، وقد شرحَت الآياتُ القرآنيّةُ فلسفةَ الخلقةِ بما لا تدانيها أيُّ فلسفةٍ على وجهِ الأرض، والإلحادُ الذي يحاولُ أن يعترضَ على ما قدّمَهُ القرآنُ مِن أسبابِ الخلقةِ وغاياتِها لا يقدّمُ في قبالِها إلّا رؤيةً عدميّةً مظلمةً، فأصلُ الحياةِ عندَهم هوَ العدمُ، والحكمةُ في نظرِهم عدمٌ وجهلٌ، والغايةُ النّهائيّةُ عدمٌ أيضاً، فكيفَ بعدَ ذلكَ يمكنُه بهذا المنظار المُظلمِ أن يرى ما بيّنَهُ القرآنُ مِن حِكمةٍ وفلسفةٍ لهذا الوجود؟