إصطناعُ المعروفِ إلى مَن هوَ أهلٌ لهُ وإلى مَن هوَ ليسَ أهلاً له

كيف نوفق بين الأحاديث المروية عن العترة الطاهرة المعصومين عليهم السلام أن في بعض الأحاديث تأمر باصطناع الخير والمعروف لمن هو أهله ولمن هو ليس أهله، وأحاديث أخر تنهى عن فعل الخير الخير لمن ليس هو أهله؟ وشكرا لكم

: السيد رعد المرسومي

السّلامُ عليكم ورحمة الله: 

إنّ إصطناعَ المعروفِ إلى مَن هوَ أهلٌ لهُ وإلى مَن هوَ ليسَ أهلاً له يُعَـدُّ منَ الأمورِ الثّابتةِ في الشّريعةِ الإسلاميّةِ، والأحاديثُ الواردةُ في بابِه متنوّعةٌ مِن حيثُ الإعتبارُ فتارةً إنّها أحاديثُ صحيحةٌ لا خلافَ فيها بينَ أهلِ العلمِ وتارةً إنّها أحاديثُ ضعيفةٌ أو مُرسلةٌ إحتفَّت بها قرائنُ تثبتُ صحّتَها، فصارَ مجموعُ هذهِ الأحاديثِ يبلغُ منَ الكثرةِ حدَّ التّواترِ الذي هوَ أعلى درجاتِ الصّحّةِ والإعتبار، وهوَ مِـمّا تستيقنُ بهِ النّفسُ بكونِ الحديثِ صادراً عنِ المعصومينَ عليهم السّلام، وعليهِ فإن وُجدَ في مُقابلِ هذهِ الأحاديثِ أحاديثُ أخرى تنهى عَن فعلِ الخيرِ إلى مَن هوَ ليسَ أهلاً لهُ فهيَ ستكونُ مِن أحاديثِ الآحادِ، وعلاجُ التّعارضِ الذي يحصلُ بينَ الأحاديثِ المُتواترةِ وأحاديثِ الآحادِ يكونُ بتقديمِ الأحاديثِ المُتواترةِ على أحاديثِ الآحادِ وفقَ قواعدِ علمِ الحديثِ والدّرايةِ، هذا فضلاً عَن أنّ أحاديثَ إصطناعِ المعروفِ إلى مَن هوَ أهلٌ له وإلى مَن هوَ ليسَ أهلاً له ليسَ وارداً في كُتبِ الإماميّةِ فحسب، وإنّما هوَ مرويٌّ أيضاً في كتبِ المذاهبِ الإسلاميّةِ الأخرى معَ رواياتٍ أخرى بألفاظٍ نحوَها تتنهي إلى نفسِ المضمونِ والمعنى المُترتّبِ عليها مِن آثار، حتّى إنّ بعضَ عُلماءِ العامّةِ مِـمّن ضعّفَ أسانيدَ هذهِ الأحاديث كانَ يعترفُ صراحةً بصحّةِ المعنى والمتنِ المُترتّبِ عليها، فهوَ - إذن - يُعَـدُّ منَ الأحاديثِ المقطوعِ بصحّتِها، فإن وُجدَ ما يُخالفُ المقطوعَ بصحّتِه فإمّا أن يكونَ ضعيفَ الإسنادِ فيُطرحُ رأساً، وإمّا أن يُؤوّلَ بتأويلٍ مقبولٍ أو يُضربَ بهِ عرضُ الجدار لكونِه مِن أحاديثِ الآحادِ المرجوحة.  

وقديماً قالتِ العربُ:  

إزرَع جميلاً ولو في غيرِ موضعِه..........فلن يضيعَ جميلٌ أينَما صُنع 

إنّ الجميـــــلَ إذا طالَ الزّمانُ بهِ..........فليسَ يحصـدُه إلّا الذي زرع 

  

فإذا تبيّنَ ذلكَ، فقد آنَ الآوانُ أن نُوردَ لكَ طائفةً مِن هذهِ الأحاديثِ التي أشارَت إلى ذلكَ ونوّهَت بهِ، وقد إخترنا لكَ كتابَ وسائلِ الشّيعةِ للحُرِّ العامليّ كونَه معروفاً بجمعِ الأحاديثِ ذاتِ الموضوعِ الواحدِ في بابٍ واحد. ففي (ج16/ص294 وما بعدَها) مِن كتابِه آنفاً، أوردَ عدّةَ رواياتٍ في هذا البابِ، فمنها: 

1-ما رواهُ محمّد بنُ يعقوب، عَن عليٍّ بنِ إبراهيم، عَن أبيه، عَن إبنِ أبي عمير، عَن جميلٍ بنِ درّاج، عَن أبي عبدِ اللهِ (عليه السّلام) قال: إصنعِ المعروفَ إلى مَن هوَ أهله، وإلى مَن ليسَ مِن أهلِه، فإن لَم يكُن هوَ أهلَه فكُن أنتَ مِن أهلِه. 

2- وعنهُ، عَن أبيه، عَن أبي عُميرٍ، عَن معاويةَ بنِ عمّار قالَ: قالَ أبو عبدِ اللهِ (عليه الّسلام): إصنعوا المعروفَ إلى كلِّ أحدٍ فإن كانَ أهلَه، وإلّا فأنتَ أهله. 

ورواه الصّدوقُ مُرسلاً. 

3-وعن محمّدٍ بنِ أبي عبدِ الله، عن موسى بنِ عمران، عن عمِّه الحسينِ بنِ عيسى بنِ عبدِ الله، عَن عليٍّ بنِ جعفر، عَن أخيه أبي الحسنِ موسى (عليهِ السّلام) قالَ: أخذَ أبي بيدي ثمَّ قال: يا بُنيَّ إنَّ أبي محمّداً بنَ عليٍّ (عليه السّلام) أخذَ بيدي كما أخذتُ بيدِك، وقالَ: إنَّ أبي عليّاً بنَ الحسينِ (عليهما السّلام) أخذَ بيدي وقالَ: يا بُنيَّ إفعلِ الخيرَ إلى كلِّ مَن طلبَه مِنك فإن كانَ مِن أهلِه فقَد أصبتَ موضعَه، وإن لَم يكُن مِن أهلِه كُنتَ أنتَ مِن أهلِه وإن شتمكَ رجلٌ عَن يمينِك ثمَّ تحوّلَ إلى يسارِك فاعتذرَ إليكَ فاقبَل عُذرَه. 

4-محمّدٌ بنُ عليٍّ بنِ الحسينِ في (عيونِ الأخبارِ) بأسانيدَ تقدّمَت في إسباغِ الوضوءِ عنِ الرّضا عَن آبائِه (عليهم السّلام) قالَ: قالَ رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله): إصنعوا المعروفَ إلى مَن هوَ أهله، وإلى مَن ليسَ مِن أهلِه، فإن لم تُصِب مَن هوَ أهله فأنتَ أهله. 

5-وبهذا الإسنادِ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله): رأسُ العقلِ بعدَ الإيمانِ التّودّدُ إلى النّاسِ، وإصطناعُ الخيرِ إلى كلِّ برٍّ وفاجر. 

ورواهُ الطّبرسيّ في (صحيفةِ الرّضا عليهِ السّلام)،وكذا الذي قبلَه. 

 6-وعن محمّدٍ بنِ أحمدَ بنِ الحسينِ بن يوسفَ بنِ زريقٍ البغداديّ، عَن عليّ بنِ محمّدٍ بنِ عنبسةَ عَن دارمٍ بنِ قبيصةَ عنِ الرّضا، عَن آبائِه، عَن عليّ (عليهم السّلام) عنِ النّبيّ (صلّى اللهُ عليه وآله) قالَ: إصطنعِ المعروفَ إلى أهلِه وإلى غيرِ أهلِه فإن كانَ أهله فهوَ أهلُه، وإن لم يكُن أهلَه فأنتَ أهلُه.

وكما ترى فهيَ أحاديثُ واضحةٌ وصريحةٌ في هذا البابِ لا تحتاجُ إلى تأويلٍ أو تكلّفٍ، ومِن هُنا نجدُ الإسلامَ قَد جعلَ منَ الإحسانِ إلى الآخرينَ إحساناً إلى النّفسِ ، كما في قولِه تعالى : ( إن أحسنتُم أحسنتُم لأنفسِكم ، وإن أسأتُم فلها )، فلِذا لم يكتفِ أهلُ البيتِ ( عليهم السّلام ) في هذا المجالِ بالتّأكيدِ على الإحسانِ وحدِه ، بل طلبوا مِن أتباعِهم أن تكونَ يدُهم هيَ العُليا في الإحسانِ، لأنّ لهذا العملِ تأثيراً إيجابيّاً على المجتمعِ وعلى الأفرادِ. فعلى مستوى الفردِ فإنّ السّاعي في عملِ الخيرِ ينالُ رِضا الله عزَّ وجلّ ومحبّتَه، إذ إنَّ الخيرَ الذي حثَّ اللهُ تعالى عبادَه عليهِ حينَما يفعلُه المرءُ صادِقاً مُخلِصاً سيكونُ بعينِ اللهِ تعالى وبعلمِه.

قالَ تعالى:{وَمَا تَفعَلُوا مِن خَيرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم}، وعليهِ فما أعظمَ العملَ وأنتَ تستشعرُ أنّ اللهَ بقدرِه وجلالِه يرى ما تفعلُ منَ الخيرِ، وهوَ مـمّا يجعلُ في ذاتِ المسلمِ رغبةً مُستمرّةً لفعلِ الخير، وهذا كلُّه لا يُغني عَن جمالِ الجزاءِ والثّوابِ الذي سيناله مِن بديعِ السّماواتِ والأرضِ، إذ وعدَ اللهُ سبحانَه وتعالى فاعلَ الخيرِ بالجنّةِ والنّعيمِ المُقيمِ الأبديّ، فرضى الخالقِ سُبحانَه مِن أعظمِ المطالبِ عندَ بيانِ جزائِه يومَ القيامةِ، يقولُ تعالى: {وَرِضوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكبَرُ}، وذلكَ أعزُّ ما يسعى الإنسانُ لأجلِه. 

وأمّا على مستوى المُجتمعِ فيتحقّقُ التّكافلُ والتّماسك فيما بينَهم، إذ إنّ عملَ الخيرِ يقودُنا إلى بناءِ مُجتمعٍ متعاونٍ ومتكاملٍ وقويٍّ يُقدّمُ الكلُّ فيهِ أفضلَ ما لديهِ لتقويةِ أواصرِ المحبّةِ، وأفعالُ الخيرِ تقوّي العلاقاتِ بينَ النّاس، كالصّدقةِ والزّكاةِ والمساعداتِ المادّية أو المعنويّةِ ونحوِ ذلكَ تعدُّ مَن أفعالِ الخيرِ التي أمرَنا بها الإسلامُ وحثّنا على فعلِها، والتي في تشريعِها حكمةٌ عظيمةٌ، فالزّكاةُ تؤلّفُ بينَ القلوبِ فتُعلّمُ الغنيَّ أنّه فقيرٌ للهِ وأنّ للفقيرِ حقّاً عليه، فيشعرُ بهِ ويواسيهِ، وهوَ مـمّا يُؤدّي إلى جعلِ المُجتمعِ قويّاً خالياً منَ الفقرِ والأمراضِ المُجتمعيّةِ، ثُمَّ إنّ الصّدقةَ على الفقراءِ والمُحتاجينَ تدفعُ الضّررَ وتجلبُ الخيرَ والبركةَ لفاعلِها، فهيَ مِن أفضلِ أعمالِ الخيرِ وأعظمِها عندَ اللهِ جلّ جلاله، فآثارُ الصّدقةِ ينبغي أن تُحفّزَ كلَّ مسلمٍ على الإستمرارِ في هذا العملِ كما في الرّوايةِ المشهورةِ عنِ الرّسولِ الأكرمِ صلّى اللهُ عليهِ وآله أنّه قالَ: صنائعُ المعروفِ تقي مصارعَ السُّوءِ والصَّدَقةُ خفيّاً تُطفِئُ غضَبَ الرَّبِّ وصِلةُ الرَّحمِ زيادةٌ في العُمُر. إلى غيرِ ذلكَ منَ الآثار. ودمتُم سالِمين.