هل يولد الإنسان خاليا من المعارف ؟

: سيد حسن العلوي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته  :  

يُولدُ الإنسانُ مفطوراً على معرفةِ خالقِه ، وقَد حملَ هذهِ المعرفةَ معَه مِن عوالمَ سابقةٍ على هذا العالمِ ، فاللهُ تباركَ وتعالى قَد عرّفَ نفسَه لعبادِه وأخذَ عليهم الميثاقَ في عالمِ الذّرّ ، قالَ تعالى : { وَإِذ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آَدَمَ مِن ظُهُورِهِم ذُرِّيَّتَهُم وَأَشهَدَهُم عَلَى أَنفُسِهِم أَلَستُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى شَهِدنَا أَن تَقُولُوا يَومَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غَافِلِينَ ، أَو تَقُولُوا إِنَّمَا أَشرَكَ آَبَاؤُنَا مِن قَبلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِن بَعدِهِم أَفَتُهلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبطِلُونَ ، وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ وَلَعَلَّهُم يَرجِعُون } [الأعرافُ 172 - 174] . 

روى الصّدوقُ والكُلينيّ بسندٍ صحيحٍ عَن زرارةَ ، عَن أبي جعفرٍ عليه السّلام قالَ : سألتُه عَن قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ : { حنفاءَ للهِ غيرَ مشركينَ به } وعِن الحنيفيّةِ ، فقالَ : هيَ الفطرةُ التي فطرَ اللهُ النّاسَ عليها لا تبديلَ لخلقِ اللهِ ، وقالَ : فطرَهُم اللهُ على المعرفةِ ، قالَ زرارةُ : وسألتُه عَن قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ : { وإذ أخذَ ربُّكَ مِن بني آدمَ مِن ظهورِهم - الآيةُ } قالَ : أخرجَ مِن ظهر آدمَ ذُرّيّتَه إلى يومِ القيامةِ فخرجوا كالذّرّ ، فعرّفَهُم وأراهُم صنعَه ، ولولا ذلكَ لم يعرِف أحدٌ ربَّه ، وقالَ : قالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله : كلُّ مولودٍ يُولدُ على الفطرةِ . يعني على المعرفةِ بأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ خالقَه ، فذلكَ قوُله : { ولئِن سألتَهم مَن خلقَ السّماواتِ والأرضَ ليقولنَّ الله } . (التّوحيدُ للصّدوق ص330 ، الكافي للكُليني : 2 / 13) 

وروى الكُلينيّ بسندٍ صحيحٍ عَن عبدِ اللهِ بنِ سنان عن أبي عبدِ الله (عليه السّلام) قالَ : سألتُه عَن قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ : { فطرةَ اللهِ التي فطرَ النّاسَ عليها } ما تلكَ الفطرةُ ؟ قالَ : هيَ الإسلامُ ، فطرَهم اللهُ حينَ أخذَ ميثاقَهم على التّوحيدِ ، قالَ : { ألستُ بربّكُم } وفيهِ المؤمنُ والكافر . (الكافي : 2 / 12)  

وروى الصّدوقُ بسندٍ صحيحٍ عَن زرارةَ قالَ : قلتُ لأبي جعفرٍ عليهِ السّلام : أصلحكَ اللهُ قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ في كتابِه { فطرةَ اللهِ التي فطرَ النّاسَ عليها } قالَ : فطرَهُم على التّوحيدِ عندَ الميثاقِ على معرفتِه أنّهُ ربُّهم . قلتُ : وخاطبوهُ ؟ قالَ : فطأطأ رأسَه ثمَّ قالَ : لولا ذلكَ لم يعلموا مَن ربُّهم ولا مَن رازقُهم . (التّوحيدُ للصّدوق ص330) .  

وروى الصّدوقُ بسندِه عَن داود الرّقّي ، عَن أبي عبدِ اللهِ عليهِ السّلام قالَ : لمّا أرادَ اللهُ عزَّ وجلَّ أن يخلقَ الخلقَ خلقَهم ونشرَهم بينَ يديهِ ، ثمَّ قالَ لهم : مَن ربُّكم ؟ فأوّلُ مَن نطقَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأميرُ المؤمنينَ والأئمّةُ صلواتُ اللهِ عليهم أجمعينَ فقالوا : أنتَ ربُّنا ، فحمّلَهُم العلمَ والدّينَ ، ثمَّ قالَ للملائكةِ : هؤلاءِ حملةُ ديني وعلمي وأمنائِي في خلقِي ، وهُم المسؤولونَ . ثمَّ قالَ لبني آدم : أقرّوا للهِ بالرّبوبيّةِ ، ولهؤلاءِ النّفرِ بالطّاعةِ والولايةِ فقالوا : نعَم ربّنا أقرَرنا ، فقالَ اللهُ جلَّ جلالُه للملائكةِ : إشهدوا ، فقالَت الملائكةُ شهِدنا على أن لا يقولوا غداً إنّا كُنّا عَن هذا غافلينَ ، أو يقولوا إنّما أشركَ آباؤنا مِن قبلُ وكُنّا ذُرّيّةً مِن بعدِهم أفتُهلِكُنا بما فعلَ المُبطلونَ ; يا داودُ الأنبياءُ مؤكّدةٌ عليهم في الميثاق . عللُ الشّرائعِ للصّدوق : 1 / 118 باب 97) . 

 

ولكنَّ اللهَ ضربَ حجابَ الغفلةِ والنّسيانِ على الإنسانِ لمّا ولدَ في هذا العالمِ ، فيُولدُ الإنسانُ ناسياً لذلكَ الموقفِ ولتلكَ المعرفة . 

روى الصّدوقُ بسندٍ مُعتبرٍ عَن زرارةَ قالَ : سألتُ أبا جعفرٍ عليهِ السّلام عَن قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ : { وإذ أخذَ ربُّكَ مِن بني آدمَ مِن ظهورِهم ذرّيّتَهُم وأشهدَهم على أنفسِهم ألستُ بربِّكم قالوا بلى } قالَ : ثبتَت المعرفةُ ونسوا الوقتَ ( خ ل الموقفَ ) وسيذكرونَه يوماً ، ولولا ذلكَ لم يدرِ أحدٌ مَن خالقُه ولا مَن رازقُه . (عللُ الشّرائعِ للصّدوق : 1 / 117 بابُ 97) . 

وروى العيّاشيّ عَن زرارةَ قالَ : سألتُ أبا عبدِ اللهِ عليه السّلام عَن قولِ اللهِ : { وإذا أخذَ ربّكَ مِن بني آدمَ مِن ظهورِهم } إلى { قالوا بلى } قالَ : كانَ محمّدٌ عليه وآله السّلام أوّلَ مَن قالَ: بلى ، قلتُ : كانَت رؤيةَ معاينةٍ ؟ قالَ : ( نعَم ظ ) فأثبتَ المعرفةَ في قلوبِهم ونسوا ذلكَ الميثاقَ ، وسيذكرونَه بعدُ ، ولولا ذلكَ لم يدرِ أحدٌ مَن خالقُه ولا مَن رازقُه . (تفسيرُ العيّاشي : 2 / 39) .

الإربليّ : مِن كتابِ دلائلِ الحميريّ ، عَن أبي هاشمٍ الجعفريّ قالَ : كنتُ عندَ أبي محمّدٍ عليهِ السّلام فسألَه محمّدٌ بنُ صالحٍ الأرمنيّ عَن قولِ اللهِ : " وإذ أخذَ ربُّكَ مِن بني آدمَ مِن ظهورِهم ذرّيّتَهم وأشهدَهم على أنفسِهم ألستُ بربّكُم قالوا بلى شهِدنا " قالَ أبو محمّدٍ عليه السّلام ثبتَت المعرفةُ ونسوا ذلكَ الموقفَ وسيذكرونَه ، ولولا ذلكَ لم يدرِ أحدٌ مَن خالقُه ولا مَن رازقُه . (بحارُ الأنوار : 5 / 260) .

فالإنسانُ يُولدُ وهوَ يحملُ معرفةً فطريّةً مكنونةً في باطنِه ، ولكِن ضُرِبَ عليها حجابُ النّسيانِ والغفلةِ ، ولأجلِ ذلكَ يمكنُ أن يُقالَ بأنّهُ لا يعلمُ شيئاً ، قالَ تعالى : { وَاللَّهُ أَخرَجَكُم مِن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُم لَا تَعلَمُونَ شَيئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصَارَ وَالأَفئِدَةَ لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ } [النحل 78] . وذلكَ لأجلِ غفلتِه وعدمِ إلتفاتِه ونسيانِه لتلكَ المعرفة . 

فهذهِ الآيةُ الكريمةُ تُقرّرُ أنَّ الإنسانَ يُولدُ وهوَ لا يعلمُ شيئاً ، والآيةُ السّابقةُ معَ الرّواياتِ المُتواترةِ تؤكّدُ أنَّ الإنسانَ عرفَ ربَّه في عوالمَ سابقةٍ ، فمُقتضى الجمعِ بينَهما هوَ ما وردَ في نفسِ الرّواياتِ أنَّ تلكَ المعرفةَ قَد ضُرِبَ عليها حجابُ الغفلةِ والنّسيانِ . فالإنسانُ يُولدُ وهوَ لا يعلمُ بإعتبارِ أنّهُ غافلٌ وغيرُ مُلتفتٍ وناسٍ لتلكَ المعرفة . 

 

ومِن هُنا إحتاجَ الإنسانُ إلى الأنبياءِ والرّسلِ حتّى يذكّروهم بتلكَ المعرفةِ ، قالَ أميرُ المؤمنينَ (ع) : وإصطفى سبحانَه مِن ولدِه أنبياءً أخذَ على الوحي ميثاقَهم ، وعلى تبليغِ الرّسالةِ أمانتَهم لمّا بدّلَ أكثرُ خلقِه عهدَ اللهِ إليهم فجهلوا حقَّه ، وإتّخذوا الأندادَ معَه ، وإجتالَتهم الشّياطينُ عن معرفتِه ، وإقتطعتهُم عَن عبادتِه ، فبعثَ فيهم رُسلَه وواترَ إليهم أنبياءَه ، ليستأدوهم ميثاقَ فطرتِه ، ويُذكّروهم منسيّ نعمتِه ، ويحتجّوا عليهم بالتّبليغِ ، ويُثيروا لهُم دفائنَ العقول . (نهجُ البلاغةِ ، الخُطبة الأولى) .  

 

والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.