هل يزيد امر بقتل الحسين

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله

المُتتبّعُ للصّراعِ الذي حدثَ بينَ الأئمّةِ مِن أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) والأنظمةِ السّياسيّةِ التي إستأثرَت بالسُّلطةِ في التّاريخِ، يجدُ كثيراً منَ الشّواهدِ التي تُؤكّدُ الدّورَ السّلبيَّ الذي قامَ بهِ الإعلامُ المُضلّلُ، حيثُ عملَ على قلبِ الحقائقِ الواضحةِ حتّى صارَت موردَ شُبهةٍ وتردّدٍ عندَ البعضِ، فمثلاً عندَما بلغَتِ الأمورُ ذِروتَها بينَ الإمامِ عليّ (ع) ومعاويةَ، ودقَّت طبولُ الحربِ، صارَ بعضُ النّاسِ في حالةِ ترقّبٍ لموقفِ عمّارٍ بنِ ياسرٍ بوصفِه معياراً لمَن معهُ الحقُّ، فقَد شاعَ بينَ المُسلمينَ قولُ النّبيّ (صلى الله عليه وآله) بشأنِه: (‏ويحَ ‏عمّارٍ! ‏تقتلُه الفئةُ ‏الباغيةُ. ‏يدعوهُم إلى الجنّةِ، ويدعونَه إلى النّارِ). 

وبعد استشهادِ عمّارٍ في صفّينَ على يدِ أصحابِ معاويةَ، أحدثَ ذلكَ إرتباكاً في مُعسكرِ الشّام، فتحرّكَت بشكلٍ مُباشرٍ الدّعايةُ المُضلّلةُ لتقولَ: (إنّما قتلَهُ الذي خَرجَ بهِ) فصدّقوا ذلكَ، وبلعُوا الطّعمَ، واستمرّوا في قتالِ الإمامِ عليّ (ع) وهكذا تحوّلَ حديثُ النّبيّ (ص) مِن معيارٍ للتّقييمِ، إلى مادّةٍ إعلاميّةٍ وُظِّفَت لصالحِ طرفٍ مُعيّنٍ، إعتماداً على التّأويلِ الباطلِ، وعلى استعدادِ النّاسِ للتّصديقِ والخضوعِ. 

وهذا بعينِه ما جرى عندَ استشهادِ الإمامِ الحُسينِ (ع)، فقد تناقلَ المُسلمونَ أحاديثَ النّبيّ (ص) بشأنِ سبطِه وريحانَتِه، ومكانتِه الكبيرةِ عندَه وما لهُ مِن فضلٍ ومنزلةٍ، كما رووا أحاديثَ بكاءِ النّبيّ عليه، ومِن أجلِ ذلكَ شكّلَ استشهادُه (ع) صدمةً عندَ المُسلمينَ، وتدخّلَت الماكنةُ الإعلاميّةُ مرّةً أخرى مِن أجلِ أن تلتفَّ على الحقيقةِ، وتُوظِّفَ الحدثَ لصالحِ الجهازِ الحاكمِ، فاتّهموا شيعتَهُ بقتلِه وبرّأوا بشكلٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشرٍ يزيدَ بنَ معاويةَ ِمن دمهِ الشّريفِ. ومعَ الأسفِ ما زالَ هذا النّهجُ قائماً إلى اليوم وما زالَ البعضُ من الذينَ أُشربُوا عجلَ بني أميّةَ في قلوبِهم يُمجّدونَ يزيدَ ويمدحونَه، ولِذا ليسَ منَ المُستغربِ أن يُطرحَ اليومَ سؤالٌ عَن مسؤوليّةِ يزيد عَن دمِ الإمامِ الحُسين (عليه السّلام).  

صحيحٌ أنَّ يزيد لَم يُباشِر بيدِه قتلَ الحسينِ (عليه السّلام) كحالِ كلِّ الطّواغيتِ الذين يرتكبونَ المجازرَ بأيدي جنودِهم وأتباعِهم، إلّا أنَّ ذلكَ لا يجعلُ الطّواغيتَ غيرَ مُرتكبينَ لتلكَ الجرائمِ، والمُتابعُ للأحداثِ التّاريخيّةِ يجدُ أنَّ يزيد كانَ مُستهدفِاً للحسينِ (عليه السّلام) منذُ موتِ معاويةَ وتولّيهِ عرشَ الخلافةِ، وحتّى تتّضحَ الصّورةُ سوفَ أسردُ الأحداثَ بشكلٍ مُختصَرٍ:

 

منَ المعلومِ والمُتّفقِ عليهِ تاريخيّاً هوَ مدى حرصِ يزيد على أخذِ البيعةِ منَ الحُسينِ (عليه السّلام)، والمعلومُ أيضاً رفضُ الحسينِ لتلكَ البيعةِ حتّى لو أدّى ذلكَ إلى مقتلِه. ولِذا عزمَ يزيدُ على التّنكيلِ بكُلِّ مَن عارضَ بيعتَه، وأوّلُ مَن كانَ يُفكّرُ فيهِ هوَ الإمامُ الحسينُ (عليه السّلام)؛ لأنّهُ يتمتّعُ بنفوذٍ واسعِ النّطاقِ ومكانةٍ مرموقةٍ بينَ المُسلمينَ، فهوَ حفيدُ صاحبِ الرّسالةِ وسيّدُ شبابِ أهلِ الجنّةِ، وهوَ الخليفةُ الشّرعيُّ بنصِّ رسولِ اللهِ (ص) وبنصِّ الصّلحِ الذي وُقّعَ بينَ معاويةَ والإمامِ الحسنِ (عليه السّلام)، إذ إشترطَ الإمامُ الحسنُ (ع) أن يكونَ الحُسينُ هوَ الخليفةَ بعدَ معاويةَ في حالِ موتِ الإمامِ الحسنِ (ع)، ولِذا كانَ يزيدُ مُصرّاً على أخذِ البيعةِ منَ الحُسينِ (عليه السّلام) حتّى يتجاوزَ تبعاتِ ما تعهّدَ بهِ مُعاوية للإمامِ الحسنِ (عليه السّلام)، فأصدرَ يزيدُ أوامرَه المُشدّدةَ إلى عاملِه على يثربَ الوليدِ بنِ عُتبةَ بإرغامِ المُعارضينَ لهُ على البيعةِ، وقد كتبَ إليهِ رسالةً صغيرةً وُصفَت كأنّها أُذنُ فأرةٍ، رواها الطّبريّ واليعقوبيّ وابنُ عساكرَ، جاءَ فيها (إذا أتاكَ كتابي فأحضِر الحُسينَ بنَ عليّ وعبدَ اللهِ بنَ الزّبيرِ فخُذهُما بالبيعةِ، فإن اِمتنعا فاضرِب أعناقَهُما وابعَث إليَّ برأسيهِما، وخُذ النّاسَ بالبيعةِ فمَنِ امتنعَ فانفِذ فيهِ الحُكمَ، وفي الحُسينِ بنِ عليّ وعبدِ اللهِ بنِ الزّبير، والسّلام) ( ). ففزعَ الوليدُ ممّا عهدَ إليهِ يزيدٌ وهو يعلمُ أنَّ أخذَ البيعةِ منَ الحُسينِ (عليه السّلام) ليسَ بالأمرِ السّهلِ فقد عجزَ مُعاويةُ عَن ذلكَ فكيفَ بالوليدِ، ولِذا حاولَ أن يستدرجَ الحُسينَ إلى قصرِ الإمارةِ قبلَ أن يشيعَ موتُ معاوية ويُجبرَه على بيعةِ يزيد، فقالَ لهُ الإمامُ الحُسينُ (ع) في حضورِ مروان: «إنّ مثلي لا يبايعُ سرّاً ولا يُجتزئ بها منّي سرّاً، فإذا خرجتَ إلى النّاسِ ودعوتَهم للبيعةِ دعوتَنا معهم، وكانَ الأمرُ واحداً». فاعترضَهُ مروانُ وقالَ للوليدِ: لئِن فارقكَ السّاعةَ ولمْ يُبايِع لا قدرتَ منهُ على مثلِها أبداً حتّى تكثُرَ القتلى بينَكُم وبينَه، إحبسهُ فإنْ بايعَ وإلاّ ضربتَ عُنقَه. فوثبَ الإمامُ الحسينُ عليه السّلام وقالَ لهُ يا بنَ الزّرقاءِ، أأنتَ تقتلُني أم هو؟ كذبتَ واللهِ ولؤمتَ»( ). ثمَّ إتّجهَ نحوَ الوليدِ وأخبرَه بموقفِه المبدئيّ مِن بيعةِ يزيد بقولِه: «أيّها الأميرُ، إنّا أهلُ بيتِ النّبوّةِ ومعدنُ الرّسالةِ، ومُختلَفُ الملائكةِ ومحلُّ الرّحمةِ، بنا فتحَ اللهُ وبنا يختمُ. ويزيدُ رجلٌ فاسقٌ، شاربُ الخمرِ، قاتلُ النّفسِ المُحرّمةِ، مُعلنٌ بالفسقِ، ومثلي لا يُبايعُ مثلَه، ولكِن نصبحُ وتصبحونَ، وننظرُ وتنظرونَ أيّنا أحقُّ بالخلافةِ والبيعةِ؟»( ). وقالَ لمروانَ: ويحكَ يا مروان! أتأمُرني ببيعةِ يزيد وهوَ رجلٌ فاسقٌ؟! لقَد قُلتَ شططاً منَ القولِ. لا ألومكَ على قولِك؛ لأنّكَ اللّعينُ الذي لعنَك رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليه وآله) وأنتَ في صُلبِ أبيكَ الحكمِ بنِ أبي العاص».

وعندَما علمَ يزيدُ بموقفِ الحُسينِ (عليه السّلام) أصدرَ أوامرَهُ المُشدّدةَ إلى الوليدِ بأخذِ البيعةِ مِنْ أهلِ المدينةِ ثانياً، وقتلِ الحُسينِ (عليه السّلام) وإرسالِ رأسِه إليه. وهذا نصُّ كتابِه: مِن عبدِ اللهِ يزيد أميرِ المؤمنينَ إلى الوليدِ بنِ عُتبةَ، أمّا بعدُ، فإذا وردَ عليكَ كتابُنا هذا فخُذِ البيعةَ ثانياً على أهلِ المدينةِ بتوكيدٍ منكَ عليهم وذَر عبدَ اللهِ بنَ الزّبيرِ؛ فإنّه لَن يفوتَ أبداً ما دامَ حيّاً، وليكُن معَ جوابكَ إليّ برأسِ الحُسينِ بنِ علي، فإنْ فعلتَ ذلكَ فقَد جعلتُ لكَ أعنّةَ الخيلِ ولكَ عندي الجائزةَ والحظّ الأوفرَ والنّعمةَ، والسّلام. ورفضَ الوليدُ رسميّاً ما عهدَ إليه يزيدُ مِن قتلِ الحُسين، وقالَ: لا واللهِ، لا يراني اللهُ قاتلَ الحُسينِ بنِ علي. لا أقتلُ إبنَ بنتِ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليه وآله) ولو أعطاني يزيدُ الدّنيا بحذافيرِها. 

ولِذا تركَ الحُسينُ مدينةَ رسولِ الله وهاجرَ إلى مكّةَ إلّا أنَّ يزيدَ تآمرَ عليه وسعى لقتلِه في الكعبةِ، فتركَ الحسينُ (عليه السّلام) بيتَ اللهِ حتّى لا يُسفكَ دمهُ فيها، فقالَ: "واللهِ لأن أُقتلَ خارجاً منها بشبرٍ أحبُّ إليَّ مِن أن أُقتلَ داخلاً منها بشبرٍ، وأيمُ اللهِ لو كنتُ في جُحرِ هامةٍ مِن هذهِ الهوامِ لاستخرجوني حتّى يقضوا فيَّ حاجتَهُم، وواللهِ ليُعتدنَّ عليَّ كما اعتدَت اليهودُ في السّبتِ( ). 

وعندَما قصدَ الحسينُ (ع) العراقَ بعدَ أن وصلَتهُ رسائلُهم ورسائلُ مُسلمٍ بنِ عقيلٍ في ما بعد، نجدُ أنَّ يزيدَ قَد أعدَّ لمُلاقاتِه العُدّةَ فكوّنَ الجيوشِ وعيّنَ عُبيدَ اللهِ بنَ زيادٍ والياً على الكوفةِ وأمرَهُ بمُقاتلةِ الحُسينِ (ع) معَ أنّهُ كانَ ناقِماً عليهِ إلّا أنّهُ اختارَهُ لذلكَ لعلمِه بمدى بطشِه وقسوتِه، فعهدَ لهُ بولايةِ الكوفةِ والبصرةِ، وكتبَ إليه: أمّا بعدُ، فإنّهُ كتبَ إليّ شيعتي مِنْ أهلِ الكوفةِ يخبرونَني أنَّ ابنَ عقيلٍ بالكوفةِ يجمعُ الجموعَ لشقّ عصا المُسلمينَ، فسِرْ حينَ تقرأُ كتابي هذا حتّى تأتي الكوفةَ فتطلُبَ ابنَ عقيلٍ كطلبِ الخرزةِ حتّى تثقفَهُ فتوثقَه أو تقتلَهُ أو تنفيهِ، والسّلام. وهذا ما حدثَ بالفعلِ حيثُ ضيّقَ ابنُ زياد على مسلمٍ وفرّقَ الجمعَ مِن حولِه حتّى أصبحَ فريداً ثمَّ قتلَهُ صبراً وهوَ أسيرٌ بينَ يديه. ثمَّ بعثَ برأسِه معَ رأسِ هاني بنِ عروة إلى يزيد، فسُرَّ يزيدُ بذلكَ سروراً بالغاً، وكتبَ لابنِ مرجانةَ جواباً عن رسالتِه شكرَهُ فيها، وهذا نصُّها: أمّا بعدُ، فإنّكَ لم تعُد إذ كُنتَ كما أحبُّ. عملتَ عملَ الحازمِ وصُلتَ صولةَ الشّجاعِ الرّابضِ. فقَد كفيتَ وصدّقتَ ظنّي ورأيي فيكَ ...وقد بلغني أنَّ الحُسينَ بنَ عليٍّ قَد عزمَ على المسيرِ إلى العراقِ، فضَع المراصدَ والمناظرَ واحترِس واحبِس على الظّنّ، واكتُب إليّ في كلِّ يومٍ بما تجدّدَ لكَ مِنْ خيرٍ أو شرٍّ، والسّلام ( ). الأمرُ الذي يعني المُتابعةَ اللّصيقةَ مِن يزيد لكلِّ ما جرى في الكوفةِ وتولّيهِ بشكلٍ مُباشرٍ كلَّ مُجرياتِ الصّراعِ معَ الإمامِ الحُسينِ (عليه السّلام) فكيفَ بعدَ ذلكَ يمكنُ تبرئةُ يزيد مِن دمِ الحُسينِ (عليه السّلام)؟ وقد ذكرَ ابنُ الأثيرِ أنَّ عُبيدَ اللهِ بنَ زياد حمّلَ يزيدَ  قتلَ الحُسينِ بقولِه: "أمّا قتلي الحُسينَ فإنّهُ أشارَ عليَّ يزيدُ بقتلِه أو قتلي فاخترتُ قتلَه"( ) 

 وقتلُ يزيد للحُسين (عليه السّلام) منَ الأمورِ التي صرّحَ بها أعلامُ أهلِ السّنّةِ والجماعةِ، أمثال سبطِ ابنِ الجوزيّ، والقاضي أبو يُعلّى، والتّفتازاني، والجلالِ السّيوطيّ، والذّهبيّ، والمسعوديّ، وغيرهم كثير.