هلِ الخطبةُ الفدكيّةُ موضوعةٌ؟ 

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته التّشكيكُ في نسبةِ الخُطبةِ الفدكيّةِ لمولاتِنا الزّهراءِ (سلامُ اللهِ عليها) لا يرتكزُ على مُبرّرٍ تاريخيّ أو بحثٍ علميّ يقومُ مثلاً على تناقضٍ في مضامينِها أو مخالفةٍ لمُحكماتِ العقلِ أو الدّين، وإنّما تتحكّمُ فيهِ رؤيةٌ عقائديّةٌ مشوّهةٌ قائمةٌ على عدالةِ جميعِ الصّحابةِ، وبالتّالي الحفاظُ على الصّورةِ المثاليّةِ التي رسمَتها الأمّةُ عنِ السّلفِ هيَ السّببُ وراءَ إنكارِ هذهِ الخُطبةِ التي تكشفُ وتُعرّي ما فعلَهُ بعضُ الصّحابةِ في حقِّ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام)، وقد عملَ نفسُ هذا التّوجّهِ على التّشكيكِ في نهجِ البلاغةِ لِما فيهِ مِن خُطبٍ تُدينُ أصحابَ السّقيفةِ مثل الخُطبةِ الشّقشقيّةِ، والإعترافُ بالخُطبةِ الفدكيّةِ أو الشّقشقيّةِ يهدمُ مجموعةً منَ الأُسسِ التي بُنيَت عليها المدرسةُ الأُخرى؛ فالطّريقُ الأسهلُ هو إنكارُها وعدمُ التّصديقِ بها.  

وهُنا نشيرُ إلى بعضِ النّقاطِ فيما يتعلّقُ بصحّةِ هذهِ الخُطبة: 

أوّلاً: بعضُ النّصوصِ لا تحتاجُ إلى إسنادٍ؛ مثل النّصوصِ الإحتجاجيّةِ القائمةِ على البُرهانِ العقليّ والدّليلِ المنطقيّ، فإنّها تحملُ منَ المصداقيّةِ ما يُغني عنِ النّظرِ إلى سندِها ناهيكَ عنِ التّدقيقِ فيهِ، فمثلاً علمُ المنطقِ أو بعضُ المبادئِ الفلسفيّةِ التي تُنسَبُ إلى أرسطو تسالمَت عليها البشريّةُ وتناقلَتها على أنّها لهُ ولم يُشكِّك أحدٌ في نسبتِها، وذلكَ لكونِها صحيحةً في نفسِها ولم يُنازِع أرسطو أحدٌ عليها، وكذلكَ الحالُ في ما نُسبَ للزّهراءِ (سلامُ اللهِ عليها) فمُجرّدُ تسميةِ هذهِ الخُطبةِ بخطبةِ الزّهراءِ (عليها السّلام) مِن غيرِ أن يدّعيها أحدٌ غيرُها كافٍ لنسبتِها لها، ولا يُنظرُ إلى سندِها طالما كانَت محتويةً على إحتجاجاتٍ منطقيّةٍ وبراهينَ عقليّةٍ كاشفةٍ عن صدقِ محتواها. ومِن هذا القبيلِ التّعاملُ معَ القرآنِ الكريم، حيثُ هناكَ جهتانِ لنسبةِ القرآنِ، الأولى نسبتُه للرّسولِ، والثّانيةُ نسبتُه للهِ تعالى، ففي الجهةِ الأولى تثبتُ النّسبةُ بالتّواترِ القاطعِ بأنَّ النّبيَّ محمّداً هوَ الذي تلقّى الوحيَ وليسَ أحدٌ غيرُه، أمّا في الجهةِ الثّانيةِ فتثبتُ النّسبةُ بما يحتويه القرآنُ مِن علومٍ ومعارفَ وحقائق، فالقرآنُ شاهدٌ بنفسِه على أنَّ اللهَ هوَ مصدرُه، وهكذا الخطبةُ الفدكيّةُ يُنظرُ لها من جهتينِ أيضاً، الأولى: نسبتُها للزّهراءِ ويكفي في ذلكَ شُهرتُها، والثّانيةُ: ما اشتملَت عليهِ مِن حقائقَ علميّةٍ وبراهينَ عقليّةِ، فإذا ثبتَت الجهةُ الثّانيةُ وتأكّدَ أنَّ ما فيها مِن مضامينَ تُمثّلُ حقائقَ علميّةً ومنطقيّةً حينَها تثبتُ كونها للزّهراءِ طالما لم يدّعِها أحدٌ غيرُها. ومِن هذا القبيلِ لا يُبحثُ أيضاً في سندِ الأحاديثِ التي تثبتُ حقائقَ علميّةً ومنطقيّةً فهَي دالّةٌ بنفسِها عن صدقِها. 

وإذا نظرنا في مضامينِ الخُطبةِ الفدكيّةِ وجدناها قائمةً على أساسِ براهينَ عقليّةٍ "المُمتنِعُ منَ الأبصارِ رؤيتُه ومنَ الألسُنِ صفتُه ومنَ الأوهامِ كيفيّتُه" أو قولُها عليها السّلام في الاحتجاج: "أَفَخَصَّكُمُ اللهُ بآيةٍ أخرجَني وأبي منها أم تقولونَ أهلُ ملّتينِ لا يتوارثانِ أليسَ اللهُ يقولُ في كتابِه: (وورثَ سُليمانُ داود) و(يوصيكُم اللهُ في أولادِكم للذّكر مثلُ حظِّ الأنثيين)" وهكذا كلُّ مفاصلِ الخُطبةِ قائمةٌ على الإحتجاجِ العلميّ والبُرهانِ المنطقيّ، بحيثُ لو عُرضَت على الإنسانِ لا يسعُه غيرُ التّسليمِ بوصفِها قضايا عقليّةً لا يملكُ إلّا أن يُسلّمَ بها. وهناكَ بحثٌ مشهورٌ وهوَ إمكانيّةُ تصحيحِ الخبرِ مِن خلالِ المتنِ، فإذا كانَ متنُ الحديثِ موافقاً لضروراتِ الدّينِ والعقلِ واشتهرَ هذا الخبرُ بعدّةِ طُرقٍ فعندَها لا حاجةَ للبحثِ في السّندِ، كما جاءَ في الرّوايةِ عنِ الإمامِ الصّادقِ عليه السّلام قولُه: "إنَّ على كلِّ حقٍ حقيقةً وعلى كلِّ صوابٍ نوراً فما جاءَكم عنّي فاعرضوهُ على القُرآنِ فما وافقَ القُرآنَ فخذوهُ وما خالفَ القُرآنَ فدعوه" وهذا ما عليهِ حالُ الخُطبةِ الفدكيّةِ ونهجِ البلاغةِ، لِما إشتملا من فخامةِ العبارةِ ومتانةِ المعنى وبلاغةِ الأسلوبِ كاشفٌ على أنّهما لا يصدران إلّا مِن عليٍّ والزّهراءِ (سلامُ اللهِ عليهم) ولو كانَ هُناكَ أحدٌ بمقدورِه أن يقولَ مثلَ ما جاءَ فيهما لكانَ منَ الأولى أن ينسبَهما إلى نفسِه بدلَ أن ينسبَهما إلى غيرِه، ومنَ الطّريفِ أنَّ أحدَهُم قالَ أنَّ نهجَ البلاغةِ كتبَه الشّريفُ الرّضي فقالَ لهُ صاحبُه لو كانَ الشّريفُ الرّضي هو صاحبُ نهجِ البلاغةِ كانَ الشّريفُ الرّضي إماماً مُفترضَ الطّاعة.

وهذا ما دفعَ الطّبرسيّ مِن إسقاطِ الأسانيدِ عَن كتابِ الإحتجاجِ لقولِه إنّ ما فيهِ إمّا موافقاً للإجماعِ أو ممّا أدَّت إليهِ العقولُ وهو ممّا لا يحتاجُ إلى أسانيد، ومِن هنُا لا نحتاجُ إلى إثباتِ سندٍ للخطبةِ لأنّها في مقامِ الإحتجاجِ ومقامُ الإحتجاجِ إنّما يؤخذُ فيهِ بالأدلّةِ والبراهينِ المُقامةِ بغضِّ النّظرِ عن السّندِ. 

ثانياً: كثرةُ تناقلِها يُغني عن البحثِ السّندي؛ وذلكَ لكثرةِ الأسانيدِ وتظاهرِها واشتهارِها، فلو كانَت مُجرّدَ روايةٍ يتيمةٍ ومهمَلةٍ ولم يسمَع بها أهلُ الفنِّ والإختصاصِ لكانَ البحثُ السّنديّ مُبرّراً، وهذا خلافُ حالِ الخُطبةِ الفدكيّةِ، حيثُ ذكرَ لها ما يزيدُ عَن ثلاثينِ طريقاً بعضُها ينتهي إلى إبنِ عبّاس وبعضُها ينتهي وبعدّةِ طُرقٍ إلى زينبَ بنتِ أميرِ المؤمنينَ، وبعضُها ينتهي إلى زيدٍ بنِ عليٍّ بنِ الحُسينِ الشّهيدِ، وبعضُها ينتهي إلى الإمامِ الباقرِ (عليه السّلام) وبعضُها إلى عبدِ اللهِ بن الحسنِ من بني هاشم، وغيرِ ذلكَ منَ الطّرقِ المُختلفةِ، وعليهِ لا يحتاجُ في البحثِ السّنديّ مع كثرةِ هذهِ الطّرقِ.

ثالثاً: هناكَ فرقٌ في المناهجِ بينَ البحثِ عن قضيّةٍ تاريخيّةٍ والبحثِ عن قضيّةٍ فقهيّة، حيثُ يتصوّرُ البعضُ أنَّ القضايا التّاريخيّةَ يبحثُ فيها بنفسِ أدواتِ البحثِ الفقهيّ، منَ التّدقيقِ السّنديّ والقطعِ بصدورِ الحُكمِ عن المعصومِ، وهذا خلافُ التّحقيقاتِ التّاريخيّةِ القائمةِ على جمعِ القرائنِ ودراسةِ السّياقِ العامّ للأحداثِ التي يكتفي فيها المؤرّخُ برجحانِ وجودِ الواقعةِ، ولو حاكمنا التّاريخَ الإسلاميّ بالمنهجِ الفقهيّ لما تبقّى منهُ إلّا العناوينَ الرّئيسيّةَ، فمثلاً غزوةُ بدرٍ معَ ما لها منَ الشّهرةِ إلّا أنّهُ يصعبُ لأيّ مؤرّخٍ أن يأتي بكلِّ ما وردَ فيها بناءً على الأسانيدِ. 

وعليهِ حادثةُ إلقاءِ فاطمةَ (سلامُ اللهِ عليها) للخُطبةِ قضيّةٌ تاريخيّةٌ وليسَت حُكماً فقهيّاً، فعندَما أجمعَ القومُ على منعَها فدكاً خرجَت إلى المسجدِ وألقَت هذهِ الخُطبةَ، وبالتّالي التّعاملُ معها يكونُ بحسبِ المنهجِ التّاريخيّ الذي يجمعُ القرائنَ، فمثلاً عندَما نأتي في كتبِ اللّغةِ، نجدُهم يستشهدونَ بكلماتِ هذهِ الخُطبةِ، فمثلاً في كلمةِ لُمّة، جاءَت فاطمةُ في لُمّة من نسائِها. في بابِ ل.م.م، في لسانِ العربِ وفي النّهايةِ لابنِ أثيرٍ وفي غيرِه، لُمّةٌ: جماعةٌ مِن ثلاثةٍ إلى عشرةٍ. ثمَّ يوردُ وقد وردَ في الأخبارِ أنَّ فاطمةَ لمّا أجمعَ الخليفةُ على منعِها فدكاً أنّها خرجَت في لُمّةٍ من نسائِها، والنّاقلُ هُنا ليسَ بشيعيّ وليسَ بصددِ إثباتِ الأمرِ العقائديّ. وأيضاً كلمةُ هَمْبَثَة لأنّها قالَت في آخرِ الخُطبةِ: "قد كانَ بعدكَ أنباءٌ وهمبثةٌ لو كنتَ شاهدَها لم تُكثر الخُطَبُ" نجدُ الفائقَ بن الجزريّ، ولسانَ العربِ وغيرَه منَ الكتبِ اللّغويةِ تتحدّثُ أنَّ هذهِ قالَتها فاطمةُ (عليها السّلام) في نهايةِ خُطبتِها التي خطبَتها في المسجدِ بعدَ وفاةِ أبيها رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)؛ وهكذا الحالُ في كتبِ البلاغةِ مثل كتابِ بلاغاتِ النّساءِ لابنِ طيفورٍ أحمدَ بنِ طاهرٍ البغداديّ، وهوَ ليسَ منَ الشّيعةِ وكانَ همُّه الحديثَ عَن بلاغةِ النّساءِ فأوردَ خُطبةَ فاطمةَ الزّهراءِ (عليها السّلام) باعتبارِها نموذجاً أعلى في البلاغةِ. وهكذا الحالُ في الكُتبِ التّاريخيّةِ التي ذكرَت الخُطبةَ مثلَ كتابِ السّقيفةِ وفدكٍ لأحمدَ بنِ عبدِ العزيزِ الجوهريّ المتوفّى سنةَ 323 هجريّة، وهذا مِن مشايخِ ومُحدّثي المدرسةِ الأخرى ومِن مشايخِ الطّبرانيّ صاحبِ المُعجمِ، وهوَ كما وصفَهُ ابنُ أبي الحديدِ وغيرُه أنّهُ رجلٌ حافظٌ للأخبارِ، كثيرُ العلمِ، حسنُ التّصانيفِ، ورعٌ في النّقلِ وبالرّغمِ مِن أنّه لَم يكُن على مذهبِ الإماميّةِ إلّا أنّه أثبتَ هذهِ الخُطبةَ في كتابِه (السّقيفة وفدك). وهكذا يمكنُ تتبّعُ القرائنِ وجمعُها على بعضِها البعضِ التي تفيدُ حصولَ هذهِ الخُطبة.  

رابعاً: هناكَ عدّةُ طُرقٍ للخُطبةِ ذكرَها محمّدٌ بنُ جريرٍ الطّبريّ الإماميّ، ولها أسانيدُ مُعتبرةٌ وصحيحةٌ، وعليهِ يمكنُ إثباتُ الخُطبةِ حتّى من زاويةِ الأسانيدِ، وقَد نقلَ تلكَ الأسانيدَ الكثيرُ منَ المُؤرّخينَ في كُتبِهم. وقَد أوردَها في وقتٍ مُبكّرٍ المؤرّخُ والمحدّثُ لوطُ بنُ يحيى الأزديّ المتوفّى سنةَ 157هـ وقَد كانَ مُعاصِراً للإمامِ السّجّادِ والباقرِ والصّادقِ (عليهم السّلام) في كتابٍ خاصّ باسمِ خُطبةِ فاطمةَ الزّهراء (عليها السّلام) وهذا مُحدّثٌ ومؤرّخٌ كثيرُ التّصانيفِ له كتابُ واقعة الجملِ، ومقتل الحُسينِ -عليه السّلام- وله خطبةُ فاطمةَ الزّهراء (عليها السّلام) التي هيَ هذهِ الخُطبةِ. وهكذا نقلَها إبنُ أبي طيفورَ، والجوهريّ في كتابِ السّقيفةِ، والشّيخِ الصّدوقِ في كتابِه عللِ الشّرائعِ، ومحمّدٌ بنُ جريرٍ الطّبري صاحبَ دلائلِ الإمامةِ، والطّبرسيّ صاحبِ الإحتجاجِ، وابنُ أبي الحديدِ المُعتزليّ شارحُ نهجِ البلاغةِ، وهكذا نجدُ مَن أوردَها في كلِّ القرونِ الهجريّة. 

وفي المُحصّلةِ، إنَّ أهمَّ ما في الخطبةِ الفدكيّةِ هوَ ما جاءَ فيها مِن مضامينَ علميّةٍ وحُججٍ منطقيّةٍ، مُضافاً لأسلوبِها وبلاغتِها التي لا تُشبهُ إلّا بلاغةَ أهلِ البيتِ عليهم السّلام.