لماذا يجعلُ اللهُ تعالى عذاباً وحساباً قبلَ يومِ القيامةِ؟ وبالتّالي يُسمِّي يومَ القيامةِ بيومِ الحِسابِ؟ أينَ الحسابُ في يومِ القيامةِ اذا كانَ الإنسانُ يتعذَّبُ فِي قبرهِ؟

: اللجنة العلمية

الأخُ المُحترمُ، السّلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ 

يَستبطنُ هذا السّؤالُ إشكالَ تقديمِ العذابِ على الحساب، إذ كيفَ يُعذّبُ الإنسانُ في قبرِه وهوَ لَم يتمَّ حسابهُ بعد؟ فإذا كانَ يومُ القيامةِ هوَ يومُ الحسابِ فلِماذا يتمُّ عذابهُ في القبرِ قبلَ الحساب؟ وللإجابةِ على ذلكَ لابُدَّ مِن توضيحِ مجموعةٍ منَ النّقاط : 

أوّلاً: الحسابُ ليسَ محصوراً في يومِ القيامةِ بَل غايةُ ما في الأمرِ أنَّ يومَ القيامةِ هوَ يومُ الحسابِ النّهائيّ والشّاملِ لكُلِّ أعمالِ العباد، وقبلَ ذلكَ يمرُّ الإنسانُ بعدّةِ محطّاتٍ في حياتِه بمثابةِ تنبيهاتٍ وتحذيراتٍ، فبعدَ أن يُرشدَ اللهُ الإنسانَ إلى الخيرِ ويُحذّرُه منَ الشّرِّ ثمَّ يُوجِدُ لهُ محكمةً خاصّةً مِن ضميرِه فقَد أقامَ لهُ بالفعلِ حسابَه وجعلَهُ قاضياً على نفسِه، فإذا عاقبهُ في الدّنيا بعدَ أن بيّنَ لهُ الطّريق (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) لا يعنِي أنّهُ عذّبَه من دونِ أن يُحاسبَه. 

ثانياً: العذابُ ليسَ موقوفاً فقَط على الحسابِ يومَ القيامة، حتّى نستنكرَ عذابَ القبرِ قبلَ الحساب، وإنّما قَد يُصيبُ الإنسانَ في الدّنيا أيضاً، قالَ تعالى: (لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ ۖ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ) والحِكمةُ مِن ذلكَ هوَ تنبيهُ الإنسانِ وتحذيرُه مِن عذابٍ أشدّ في الآخرةِ، وهذا مِن تمام رحمةِ اللهِ وعدلِه، حيثُ يكشفُ للإنسانِ سوءَ عملِه في الدّنيا حتّى يتجنّبهُ هوَ أو يتّعظَ به غيرُه. 

ثالِثاً: بيّنَتِ الرّواياتُ حسابَ الإنسانِ في قبرِه قبلَ وقوعِ العذابِ عليه، حيثُ يُرسلُ اللهُ للميّتِ ملكينِ يسألانِه عَن ربّهِ الذي كانَ يعبدُه، ودينهِ الذي كانَ يدينُ به، ونبيّهِ الذي أُرسِلَ إليه، وكتابِه الذي كانَ يتلوه، وإمامِه الذي كانَ يتولّاهُ، وعُمرِه فيما أفناه، ومالِه مِن أينَ إكتسبَه، وفيما أنفقَه، فإن أجابَ بالحقِّ إستقبلَتهُ الملائكةُ بالرَّوحِ والرّيحان، وبشّرتهُ بالجنّةِ والرّضوان وفسحَت لهُ في قبرِه مدّ البصر، وإن تردّد في الكلامِ وعجزَ عَن إحكامِ الجواب، أو أجابَ بغيرِ الحقِّ، أو لم يدرِ ما يقول، إستقبلَتهُ الملائكةُ وبشّرتهُ بالنّار.  

رابِعاً: العذابُ الذي يصيبُ الإنسانَ هوَ مِن جنسِ عملِه ومُعبّرٌ عَن سريرتِه، وبما أنَّ الرّوحَ - وهيَ حقيقةُ الإنسانِ وأصلُه - لا تموتُ وإنّما تنتقلُ إلى عالمٍ خاصٍّ، فالعذابُ الذي يُصيبُها هوَ مِن جنسِها ومُعبّرٌ عَن طبيعتِها، فعالمُ البرزخِ ليسَ عدماً وإنّما هوَ حياةٌ مِن نوعٍ آخر، فإن كانَت روحُه طيّبةً فستكونُ في البرزخِ أيضاً طيّبةً (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِم) وإن كانَت خبيثةً فحياتُها خبيثةٌ، ولا مجالَ للرّجوعِ إلى الدّنيا وإستدراكِ ما فاتَ، قال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) 

خامساً: في عالمِ البرزخِ تتهيّأُ النّفوسُ وتُروّضُ لِما ينتظِرُها يومَ القيامة، فلا يُغمضُ الإنسانُ عينيهِ في الدّنيا ليفتحَها مُباشرةً في الجنّةِ أو في النّار، وإنّما يمرُّ بمرحلةِ البرزخِ كمحطّةٍ وسيطةٍ بينَ الدّنيا والآخرةِ، وهوَ بذلكَ مِن مظاهرِ رحمةِ اللهِ تعالى، فما يصيبُ الإنسانَ في البرزخِ مِن نعيمٍ أو عذابٍ يُهيّئُ الإنسانَ لدخولِ الجنّةِ أو النّار، وقَد تحدّثَ القُرآنُ عمّا يُصيبُ آلَ فرعونَ في البرزخِ حيثُ يتمُّ عرضُهُم على النّارِ غُدوّاً وعشيّاً أمّا في يومِ القيامةِ فسوفَ يكونُ مصيرُهم خالدينَ فيها، قالَ تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)