موقفُ الشّيعةِ منَ الصّحابةِ الذينَ بايعُوا أبا بكرٍ وعُمرَ

هشام /: الإمامُ عليٌّ قالَ "بايَعنِي القومُ الذينَ بايَعُوا أبا بكرٍ وعُمرَ" أيَّ قومٍ يعنِي؟ هلِ الذينَ تعتبرونَهُم كفرةً ؟؟ وتُسمّونَهُ أميرَ المؤمنينَ !!

: الشيخ مقداد الربيعي

السّلامُ عليكُم ذكرنَا مِراراً وتِكراراً أنَّ الشّيعةَ لا تقولُ بكُفرِ الصّحابةِ الذينَ بايعُوا أبا بكرٍ ولَم يُبايعوا أميرَ المُؤمنينَ (عليهِ السّلامُ) وتنصّلُوا عَن بيعةِ الغديرِ،  فحاصلُ ما تذهبُ إليهِ الشّيعةُ في موضوعِ الصّحابةِ: أنّهُم لا يَرونَهُم عُدولاً جميعَهُم، كمَا لا يقولونَ بإرتدادِهِم كُلّهِم  بعدَ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ)، بَل يقولونَ بوجودِ صحابةٍ نجباءَ عدولٍ وفيهِم مَنْ هُم دونَ ذلكَ .. وهذا مطلبٌ واضحٌ قَد صدحَتْ بهِ الآياتُ القُرآنيّةُ الكثيرةُ منَ القُرآنِ الكريمِ (انظُر سورةَ التّوبةِ، الآياتُ: 102، 106، 107، ولاحظِ التّقسيمَ الإلهيّ لواقعِ الأصحابِ)، وكذلكَ الأحاديثُ الصّريحةُ الصّحيحةُ في السّنّةِ الشّريفةِ.فانظُرْ على سبيلِ المثالِ الحديثَ المعروفَ بحديثِ الحوضِ، الواردِ في صحاحِ أهلِ السّنّةِ البخاري ومسلمٍ، والذي جاءَ بألسنةٍ مُتعدّدةٍ معروفةٍ، وحاصلهُ : أنّهُ يؤتى بأناسٍ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) يومَ القيامةِ فيُؤمَرُ بهِم إلى النّارِ، فيقولُ النّبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) : أصحابي أصحابي ، فيُقالُ لهُ : إنّكَ لا تدري ما أحدَثُوا مِنْ بعدِكَ، قَد إرتدّوا على أعقابِهِم القهقرى، فيقولُ النّبيُّ: سُحقاً سُحقاً لمَنْ غيّرَ بعدِي، فلا أراهُ يخلصُ مِنهُم إلّا مثلُ هملِ النّعمِ ...أي لا ينجو منَ الصّحابةِ إلّا النّزرُ القليلُ جِدّاً.فدَعوى إرتدادِ الصّحابةِ بعدَ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ  عليهِ وآلهِ وسلّمَ)  تزخرُ بهَا كُتبُ أهلِ السّنّةِ قبلَ كتبِ الشّيعةِ، ومحاولةُ البعضِ تمييعَ هذهِ الرّواياتِ ورَميهَا بحقِّ المُرتدّينَ في أطرافِ الباديةِ أو الجزيرةِ هيَ محاولةٌ  فاشلةٌ واقعاً  ؛ لأنَّ هذهِ الرّواياتِ قَد جاءَت بألسنةٍ فصيحةٍ صريحةٍ تُعلنُ بأنَّ هؤلاءِ المُرتدّينَ هُم صحابةُ رسولِ اللهِ لا غير، فقَد وردَ فيهَا قولهُ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ): (أصحابي أصحابي)، ووردَ قولهُ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) : (أعرفُهُم ويعرفونِي)، إلى غيرِهَا منَ الألفاظِ الدّالّةِ بالدّلالةِ المُطابقيّةِ على أنّهُم مِن أصحابِ رسولِ اللهِ لا غيرُ، والمُخالفُ لهذا الظّهورِ والدّلالةِ المُطابقيّةِ للحديثِ يكونُ خارجاً عَن جماعةِ العُقلاءِ، لأنّهُ يُخالفُ بذلكَ دلالةَ الألفاظِ على معانيهَا الظّاهرةِ الذي أجمعَ العُقلاءُ جميعاً على حُجّيّتِهَا !!!!وها هوَ التّفتازانيّ - أحدُ كبارِ عُلماءِ أهلِ السّنّةِ - يُصرّحُ في كتابهِ "شرحُ المقاصدِ": ((وأمّا ما وقعَ بينَ الصّحابةِ مِنَ المُحاربةِ والمُشاجراتِ على الوجهِ المَسطورِ في كتبِ التّواريخِ، والمذكورِ على ألسنةِ الثّقاتِ يدلُّ بظاهرهِ على أنَّ بعضَهُم قَد حادَ عَن طريقِ الحقِّ، وبلغَ حدَّ الظّلمِ والفسقِ، وكانَ الباعثُ لهُ الحقدُ والحسدُ واللّدادُ وطلبُ المُلكِ والرّياسةِ والميلُ إلى اللّذّاتِ والشّهواتِ إذ ليسَ كلُّ صحابيٍّ معصوماً ولا كُلُّ مَن لقيَ النّبيَّ (صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ ) بالخيرِ موسوماً)) (شرحُ المقاصدِ 2: 306). إنتهى . وها هوَ الألبانيُّ - مُحدّثُ العصرِ عندَ الوهابيّةِ - ينسفُ عدالةَ الصّحابةِ مِن أساسِهَا ويجعلُهَا قاعاً صفصفاً لا عُشبَ فيهِ ولا ماءَ ، ويضطرُّ للتّعاملِ معَ قضيّةِ عدالةِ الصّحابةِ كمَا يتعاملُ الشّيعةُ في الموضوعِ مِنَ الجمعِ بينَ الأدلّةِ بالتّخصيصِ والتّقييدِ ، فهوَ بعدَ أن ثبتَ عندهُ الحديثُ الصّحيحُ (قاتلُ عمّارٍ وسالبُهُ في النّارِ)، وثبُتَ عندهُ أيضاً أنَّ قاتلَ الصّحابيّ عمّارٍ بنِ ياسرٍ (رضوانُ اللهِ عليهِ) هوَ الصّحابيُّ أبوالغاديةِ - الذي شهدَ إبنُ حزمٍ وغيرهُ بأنّهُ مِن أهلِ بيعةِ الرّضوانِ -، قالَ في "السّلسلةِ الصّحيحةِ ":((وأبو الغاديةِ هوَ الجهنيُّ وهوَ صحابيٌّ كمَا أثبتَ ذلكَ جمعٌ ، وقَد قالَ الحافظُ في آخرِ ترجمتهِ مِنَ الإصابةِ بعدَ أن ساقَ الحديثَ، وجزمَ إبنُ مُعينٍ بأنّهُ قاتلُ عمّارٍ: والظّنُّ بالصّحابةِ في تلكَ الحروبِ أنّهُم كانُوا فيها مُتأوّلينَ، وللمُجتهدِ المُخطىءِ أجرٌ، وإذا ثبُتَ هذا في حقِّ آحادِ النّاسِ ، فثبوتهُ للصّحابةِ بالطّريقِ الأولى. وأقولُ: هذا حقٌّ ، لكنَّ تطبيقَهُ على كُلِّ فردٍ مِن أفرادِهِم مُشكلٌ لأنّهُ يلزمُ تناقضَ القاعدةِ المذكورةِ بمثلِ حديثِ التّرجمةِ، إذ لا يُمكنُ القولُ بأنَّ قاتلَ عمّار-أبا الغاديةِ- مأجورٌ لأنّهُ قتلَهُ مُجتهِداً، ورسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ يقولُ: قاتلُ عمّارٍ في النّارِ! فالصّوابُ أن يُقالَ: إنَّ القاعدةَ صحيحةٌ إلّا ما دلَّ الدّليلُ القاطعُ على خلافِهَا ، فيُستثنى ذلكَ مِنهَا كمَا هوَ الشّأنُ هُنا وهذا خيرٌ مِن ضربِ الحديثِ الصّحيحِ بِهَا. واللهُ أعلمُ)) (سلسلةُ الأحاديثِ الصّحيحةِ 5: 19). إنتهى فهُنا نجدُ الألبانيَّ قَد تعاملَ معَ قضيّةِ عدالةِ الصّحابةِ كمَا يتعاملُ الشّيعةُ مِنَ الجمعِ بينَ الأدلّةِ مِن حيثُ تخصيصُ عمومِهَا أو تقييدُ إطلاقِهَا، ولا يذهبُ في الموضوعِ إفراطُ المُفرّطينَ الذينَ يلتفّونَ على الأدلّةِ والقواعدِ ويحاولونَ تمييعَ الأدلّةِ بمَا يتوافقُ وأهواءَهُم المذهبيّةَ !!هذا فضلاً على أنَّ الشّيعةَ الإماميّةَ وإن قالُوا بإرتدادِ بعضِ الصّحابةِ وإحداثِهِم في الدّينِ بعدَ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ ) ، بمُقتضَى أحاديثِ الحوضِ الواردةِ في صِحاحِ أهلِ السّنّةِ وغيرِهَا ، إلّا أنّهُم لَم يقولوا بكُفرِهِم كُفراً مُخرِجاً عنِ المِلّةِ ، بَل عدُّوا فعلَهُم هذا - سواءٌ في موضوعِ رزيّةِ يومِ الخميسِ أو إعراضِهِم عَن حديثِ الثّقلينِ أو حديثِ الغديرِ أو غيرِهِمَا - مِن كُفرانِ النّعمِ ، أي الكفرِ الأصغرِ لا الكُفرِ الأكبرِ المُقابلِ للإسلامِ ، فهُم مُتابعونَ في هذا الجانبِ لإمامِهِم أميرِ المُؤمنينَ عليٍّ ( عليهِ السّلامُ )، حيثُ الثّابتُ مِن سيرةِ عليٍّ ( عليهِ السّلامُ ) معَ مُخالفيهِ منَ الصّحابةِ أنّهُ كانَ يُعاملُهُم على ظاهرِ الإسلامِ ولَم يقُل بكُفرِهِم، رُغمَ تصريحهِ بأنَّ  القومَ  قَد إستحوذُوا  على حقّهِ ، وهوَ الحقُّ  الشّرعيُّ الذي منحهُ إيّاهُ اللهُ ورسولُهُ ( صلّى اللهُ  عليهِ وآلهِ وسلّمَ )، كمَا يشيرُ إلى هذهِ الحقيقةِ الإمامُ الغزاليُّ بكُلِّ وضوحٍ في كتابهِ " سرُّ العالمينَ " بقولهِ : (( لكِن أسفرتِ الحُجّةُ وجهَهَا، وأجمعَ الجماهيرُ على متنِ الحديثِ، مِن خُطبتهِ في يومِ غديرِ خُمٍّ، بإتّفاقِ الجميعِ، وهوَ يقولُ: مَن كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاهُ. فقالَ عُمرُ: بخٍ بخٍ يا أبا الحسنِ، لقَد أصبحتَ مولايَ ومولى كُلِّ مُؤمنٍ ومُؤمنةٍ. فهذا تسليمٌ ورِضىً وتحكيمٌ, ثمَّ بعدَ هذا غلبَ الهوى لحُبِّ الرّياسةِ، وحملِ عمودِ الخلافةِ، وعقودِ البنودِ، وخفقانِ الهوى في قعقعةِ الرّاياتِ، وإشتباكِ ازدحامِ الخيولِ، وفتحِ الأمصارِ؛ سقاهُم كأسَ الهوى، فعادُوا إلى الخلافِ الأوّلِ، فنبذوهُ وراءَ ظهورِهِم، وإشترُوا بهِ ثمناً قليلاً)). إنتهَى [ مجموعةُ رسائلِ الإمامِ الغزاليّ، كتابُ سرِّ العالمينَ: 483]ودُمتُم سالِمينَ.