ما معنى قولهِ تعالى {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}.

: الشيخ مقداد الربيعي

جواد رضا/: السّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ .. أقرأ في القرآنِ الكريمِ قولَهُ تعالى {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} وأحاولُ إيجادَ الفرقِ بينَ الكلمتينِ أليستْ هي بمعنىً واحدٍ وهو النزولُ سوى أنّها تكرّرتْ أو أنّ هناكَ فارقاً ومائزاً بينَ الكلمتينِ أتمنّى أنْ توضّحوا لنا معنى هذهِ الآيةِ وشكراً لجهودِكم.الجوابُ:الأخُ جوادٌ المحترمُ, السّلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتهُذكرَ المفسّرونَ آراءَ مُختلفةً في الفرقِ بينَ الجملةِ الأُولى: (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ) والجملةِ الثّانية: (وَبِالْحَقِّ نَزَل) مِنها:1 ـ المرادُ مِن الجملةِ الأُولى: إِنّنا قَدّرنا أن ينزلَ القرآنُ بالحقِّ. بينما تضيفُ الجملةُ الثّانيةُ أنَّ هذا الأمرَ أو التّقديرَ قد تحقّقَ، لذا فإِنَّ التّعبيرَ الأوّلَ يُشيرُ إِلى التّقديرِ، بينما يشيرُ الثّاني إِلى مرحلةِ الفعلِ والتّحقّقِ(يُراجعُ تفسيرُ القرطبي، ج 6، ص 3955).2 ـ الجملةُ الأُولى تشيرُ إِلى أنَّ مادّةَ القرآنِ ومحتواهُ هو الحقُّ، أمّا التّعبيرُ الثّاني فانَّهُ يبيّنُ أنّ نتيجتَهُ وثمرتَهُ هي الحقُّ أيضاً(في ظلالِ القرآن).3 ـ الرأيُ الثّالثُ يرى أنَّ الجملةَ الأُولى تقولُ: إِنّنا نزَّلنا هذا القرآنَ بالحقِّ بينما الثّانيةُ تقول: إِنَّ الرّسولَ(صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّم) لم يتدخّلْ في الحقِّ ولم يتصرّفْ بهِ، لذا فقد نزلَ الحقّ.وثمّةَ إحتمالٌ آخرُ قد يكونُ أوضحَ مِن هذهِ التّفاسيرِ، وهو ان قوله تعالى : (وَبِالْحَقِّ) أي : بلا باطل أو عبث أو كذب (أَنْزَلْنَاهُ ) بمشيئتنا (وَبِالْحَقِّ)  بلا باطل أو عبث (نَزَلَ) بواسطة الروح الأمين (=جبرائيل) على النبي ؛ لقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ).تحصل أن هناك حقين ، أحدهما أشرف من الآخر ، أو أن الثاني مترتب وجودا على الأول :الحق الأول : انتفاء الباطل والعبث في فعل الله تعالى ، وهو أصل إنزال الله القرآن .الحق الثاني : انتفاء الباطل والعبث ، في أن يكون جبرائيل واسطة لنزوله على النبي صلى الله عليه واله ، وأن يكون النبي هو المنذر .وبالجملة : كل من الإنزال والنزول بالحق ، أي : ليس عبثا ولا باطلا، لكن حق الإنزال أشرف وجودا من حق النزول ، والثاني مترتب عليه ؛ لتعلق الأول بالله تعالى ، والثاني بجبريل الأمين.وبعبارة أوضح: إنَّ الإِنسانَ قد يبدأ في بعضِ الأحيانِ بعملٍ ما، ولكنّهُ لا يستطيعُ إتمامهُ بشكلٍ صحيحٍ وذلكَ بسببِ منْ ضعفه، أمّا بالنّسبةِ للشّخصِ الذي يعلمُ بكلّ شيءٍ ويقدرُ على كلّ شيءٍ، فإِنَّهُ يبدأ بدايةً صحيحةً، ويُنهي العملَ نهايةً صحيحة. وكمثالٍ على ذلكَ : الشّخصُ الذي يُخرجُ ماءً صافياً مِن أحدِ العيونِ، ولكنْ خلالَ مسيرِ هذا الماءِ لا يستطيعُ ذلكَ الشّخصُ أن يُحافظَ على صفاءِ هذا الماءِ ونظافتهِ أو يمنعهُ مِن التّلوثِ، فيصلُ الماءُ في هذهِ الحالةِ إِلى الآخرينَ وهو مُلَوَّث. إِلاَّ أنَّ الشّخصَ القادرَ والمحيطَ بالأُمور، يحافظُ على بقاءِ الماءِ صافياً وبعيداً عن عواملِ التّلوثِ حتّى يصلَ إِلى العُطاشى والمُحتاجينَ له.القرآنُ كتابٌ نزلَ بالحقِ مِن قِبَلِ الخالقِ، وهو محفوظٌ في جميعِ مَراحلهِ سواءٌ في المرحلةِ التي كانَ الوسيطُ فيها جبرائيلُ الأمينُ، أو المرحلةِ التي كانَ الرّسولُ فيها هوَ المتلقّي، وبمرورِ الزّمنِ لهُ تستطيعُ يدُ التّحريفِ والتّزويرِ أنْ تمتدَّ إِليهِ بمقتضى قولهِ تعالى: (إِنا نحنُ نزَّلنا الذكرَ وإِنّا لهُ لحافظون) فاللهُ هو الذي يتكفّلُ حمايتَهُ وحراستَه.لذا فإِنَّ هذا الماءَ النّقيَ الصّافيَ الوحيَ الإِلهيَّ القويمَ لم تنلهُ يَدُ التّحريفِ والتبديلِ مُنذُ عصرِ الرّسول(صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلم) وحتّى نهايةِ العالم.[راجعْ تفسيرَ الأمثل].ويمكن أن يقال ايضاً: ودُمتُم سالِمين.