فلسفةُ التّعايشِ فِي الإسلامِ ومَا يقومُ بهِ السّيّدُ السّيستانيّ (دام ظله)

حسينٌ البغدادي/: السّنّةُ أنفســنَا! كيفَ أنفسنَا وهوَ يكَفّرُ أهلَ السّنّةِ عَلناً لأنّهُم يتكتّفونَ فِي الصّلاةِ! كيفَ أنفسنَا وهوَ يكَفّرُ أهلَ السّنّةِ لأنّهُم يقولونَ "آمينَ" فِي الصّلاةِ! أيُّ تعايشٍ وأيُّ وحدةٍ يدّعيهَا جماعةُ الوحدةِ الوطنيّةِ. هذا هوَ المرجعُ الأعلى السّيستانيّ.

: اللجنة العلمية

الأخُ حسينٌ المحترمُ، السّلامُ عليكُم

ما أفدتَهُ أخِي الكريمُ سنجيبكَ عليهِ كُبرى وصُغرى بإذنِ اللهِ:

أمَّا الكُبرى فالتّعايشُ معَ الآخرِ المُخالفِ فِي الدّينِ أوِ المذهبِ هوَ أمرٌ ثابتٌ كتاباً وسنّةً نبويّةً، فالاختلافُ بينَ النّاسِ فِي العقائدِ والاتّجاهاتِ والميولِ والأشكالِ والألوانِ هوَ سُنّةٌ إلهيّةٌ وحكمّةٌ ربانيّةٌ صرّحَ بهَا المولى سبحانهُ فِي كتابهِ الكريمِ، يقولُ تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} هود: 118و119.

وأمامَ هذا الاختلافِ الواقعِ بينَ البشرِ لم يترُكِ المولى سبحانهُ عبادَهُ يعيشونَ كالوحوشِ ينهشُ بعضهُم لحمَ بعضٍ ويذبحُ  بعضهُم بعضاً بسببِ الاختلافِ في العقائدِ والآراءِ كمَا يفعلُ ويتصرّفُ الدّواعشُ وأمثالهُم مِن شُذّاذِ الآفاقِ ولُقَطاءِ الأرضِ اليومَ، بَل سنَّ المولى سبحانَهُ لعبادهِ المؤمنينَ أسُسَ التّعايشِ معَ غيرهِم فبيّنَ أنَّ الأساسَ فِي المجتمعِ البشريّ هوَ التّعارفُ والتّفاهمُ وليسَ الحربُ والتّنافرُ، فقالَ عزَّ مِن قائلٍ:

{ يا أيّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ } الحُجراتُ: 13.

وعندَ الدّعوةِ إلى العقيدةِ أمرَنَا سبحانهُ بأن ندعُوَ الآخرَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ والجدالِ بالتي هيَ أحسنُ.

قالَ تعالى: {ادعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} النّحلُ : 125.

ولم يأمرْنَا بالقطيعةِ مَع مَن يُخالفنَا فِي الدّينِ والعقيدةِ، بلِ العكسُ أُمِرنَا ببّرهِم والتّعاملِ العادلِ معهُم.

قالَ تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} المُمتحنةُ: 8.

وكانَ النّهيُ عنِ التّواصلِ والبرِّ مخصوصاً بأهلِ الحربِ والعداوةِ والظّالمينَ لنَا مِنَ الكُفّارِ فقَط.

قالَ تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الممتحنة : 9.

وانظُر إلى قولهِ تعالى فِي سورةِ الأعرافِ، الآية 87 وهو يحكِي قولَ نبيّهِ شعيبٍ لقومهِ: { َوإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } .

فهنا نجدُ بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ دعوةَ نبيّ اللهِ شعيبٍ (عليهِ السّلامُ) للتّعايشِ بينَ قومهِ، سواءٌ اتّفقُوا جميعاً على قولٍ واحدٍ أو اختلفُوا فِي ذلكَ، فالصّبرُ على هذا الاختلافِ وإيكالُ أمرهِ إلى اللهِ سبحانهِ وعدمُ إعلانِ حربِ الإبادةِ للآخرِ هوَ مِن أجلِ المعانِي التي تصدعُ بهَا هذهِ الآيةُ الكريمةُ.

وهكذا تجدُ غيرَ هذهِ الآياتِ العشراتِ منَ الآياتِ الكريمةِ التي تحثُّ على التّعايشِ والسّلمِ بينَ المُختلفينَ ونبذِ التّنابزِ والتّقاطعِ والتّدابرِ إلّا فِي حالاتٍ محدودةٍ هيَ حالاتُ الاعتداءُ والظّلمُ، التي أذنَ المولى سبحانهُ للمؤمنينَ بالرّدِّ على مَن يعتدِي عليهِم ويظلمهُم حتَّى لا يَطمعَ في التّجاوزِ عليهِم أكثرَ مِن ذلكَ، فإنَّ العزّةَ للهِ ولرسولهِ وللمؤمنينَ.

وفِي السّنّةِ النّبويّةِ نجدُ التّشديدَ مِنَ النّبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) على مَن يظلمُ معاهداً أو ذمّيّاً أو ينتقصهُ، فقَد جاءَ عنهُ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ): (ألاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا ، أو انْتَقَصَهُ ، أوْ كَلَّفهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ ، أوْ أخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة). [ سلسلةُ الأحاديثِ الصّحيحةِ 1: 729].

وهذا العدلُ والتّسامحُ والإنصافُ ورثهُ صحابةُ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) عَن رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) وطبّقوهُ فِي حياتهِم عمليّاً، فقَد حُكِيَ  بأنَّ عليّاً أميرَ المؤمنينَ (عليهِ السّلامُ) افتقدَ دِرعاً كانَت عزيزةً عندهُ فوجدهَا عندَ يهوديٍّ فقاضاهُ إلى قاضيهِ شريحٍ، وعليٌّ يومئذٍ هوَ الخليفةُ والحاكمُ للبلادِ، فسألَ شريحٌ أميرَ المؤمنينَ عَن قضيّتهِ فقالَ: الدّرعُ درعِي، ولم أَبِعْ ولم أهَبْ، فسألَ شُريحٌ اليهوديّ: مَا تقولُ فيمَا يقولُ أميرُ المؤمنينَ؟، فرَدَّ هذا مُتلاعباً: الدّرعُ درعِي، ومَا أميرُ المؤمنينَ عندِي بكاذبٍ - يريدُ أن يمسكَ العصا مِن منتصفهَا- فالتفتَ شُريحٌ إلى أميرِ المؤمنينَ: هَل مِن بيّنةٍ؟ فلَم يُظهِرْ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السّلامُ) شهوداً لهُ سِوى دعواهُ بأنَّ الدّرعَ لهُ فحكمَ شريحٌ بالدّرعِ لليهوديّ لعدمِ وجودِ البيّنةِ، فأخذَ الرّجلُ الدّرعَ ومضَى وهوَ لا يكادُ يصدّقُ نفسهُ، ثمَّ عادَ بعدَ خطواتٍ ليقولَ: يا الله.. أميرُ المؤمنينَ يقاضينِي إلى قاضيهِ فيقضِي عليهِ؟ إنَّ هذهِ أخلاقُ أنبياءٍ! أشهدُ أن لا إلهَ إلّا اللهُ، وأنَّ مُحمّداً رسولُ اللهِ. الدّرعُ درعُكَ يا أميرَ المؤمنينَ، خرجتْ مِن بعيركَ الأورقِ فاتبعتهَا فأخذتهَا. فقالَ لهُ عليٌّ (عليهِ السّلامُ): أمَّا إذا أسلمتَ فهيَ لكَ! [انظُر: رجالٌ أنزلَ اللهُ فيهِم قُرآناً، للعريفي، ص 39].

وبنفسِ هذهِ الأخلاقِ الرّفيعةِ والسّجايا العاليةِ أوصَى أئمّةُ أهلِ البيتِ (عليهمُ السّلامُ) شيعتَهُم فِي التّعاملِ مَع مَن يُخالفهُم فِي المذهبِ:

فقَد روى الكُلينيّ فِي (الصّحيحِ)، عَن معاويةَ بنِ وهبٍ قالَ: « قلتُ لأبِي عبدِ اللهِ (عليهِ السّلامُ : كيفَ ينبغِي لَنا أن نصنعَ فيمَا بيننَا وبينَ قومِنَا، وفيمَا بيننَا وبينَ خُلطائنَا منَ النّاسِ؟ قالَ: فقالَ: تؤدّونَ الأمانةَ إليهِم، وتقيمونَ الشّهادةَ لهُم وعليهِم، وتعودونَ مرضاهُم، وتشهدونَ جنائزهُم». [وسائلُ الشّيعةِ 12 : 5 ، ح 1 - ط : مؤسّسةُ آلِ البيتِ].

وفِي (الصّحيحِ) عَن عبدِ اللهِ بنِ سنانٍ قالَ: «سمعتُ أبا عبدِ اللهِ (عليهِ السّلامُ) يقولُ: أُوصيكُم بتقوى اللهِ، ولا تحملُوا النّاسَ على أكتافِكُم فتذلُّوا، إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقولُ فِي كتابهِ: (وقولُوا للنّاسِ حُسناً) ثمَّ قالَ: عودُوا مرضاهُم، واحضرُوا جنائزَهُم، واشهدُوا لهُم وعليهِم، وصلّوا معهُم فِي مساجدهِم حتّى يكونَ التّمييزُ، وتكونَ المُباينةُ منكُم ومنهُم». [المصدرُ السّابقُ:7، ح 6].

وعَن معاويةَ بنِ عمّارٍ قالَ: قالَ أبو عبدِ اللهِ (عليهِ السّلامُ): « وطِّنْ نفسكَ على حسنِ الصّحابةِ لمَن صحبتَ، فِي حُسنِ خلقكَ، وكفَّ لسانكَ، واكظُمْ غيظكَ، وأقلَّ لغوَكَ، وتغرّسْ عفوَكَ، وتَسخّو نفسَكَ». [ المصدرُ السّابقُ : 9 ، ح 2].

هذا كلّهُ مِن حيثُ الكُبرى، وقَد ثبتَ أنَّ التّعايشَ كمبدأٍ وكقيمةٍ عُليا هوَ أمرٌ ثابتٌ كِتاباً وسنّةً نبويّةً وسيرةً.

يبقى الكلامُ فِي الصّغرى ( والمُرادَ بالصّغرى: هَل فعلاً السّيّدُ السّيستانيُّ دامَ ظلّهُ الوارفُ يكفّرُ المخالفينَ؟)، فنقولُ:

هذهِ الدّعوى - بأنَّ السّيّدَ السّيستانيَّ حفظهُ اللهُ يكفّرُ المخالفينَ - سببُهَا إمَّا الجهلُ أوِ الفتنةُ، وإلّا ففتاوى سماحةِ السّيّدِ ( دامَ ظلّهُ ) مطبوعةٌ ومنشورةٌ، تملأُ شرقَ الأرضِ وغربَهَا، يصرّحُ فيهَا جهاراً نهاراً بإسلامِ المخالفينَ (والمُرادُ بالمخالفينَ أهلُ السّنّةِ والجماعةِ) وطهارتهِم والصّلاةِ على جنائزهِم والأكلِ مِن ذبائحهِم والتّزوّجِ منهُم، وأنّهُ تحرّمُ دماؤهم وأعراضهُم وأموالهُم كحرمةِ دمِ الشّيعيّ الموالِي لأهلِ البيتِ (عليهمُ السّلامُ) تماماً، وإليكَ الفتاوى:

قالَ فِي المسألةِ ( 282 ) مِن رسالتهِ العمليّةِ المُسمّاةِ بـ"منهاجُ الصّالحينَ": ( يجبُ تغسيلُ كلِّ مسلمٍ ومَنْ بحكمهِ حتَّى المُخالفُ).

فمَا الذي نفهمهُ مِن هذهِ الفتوى؟

هَل نفهمُ منهَا أنَّ السّيّدَ السّيستانيَّ هُنا يقولُ بكفرِ المُخالفِ أم أنّهُ يحكمُ بإسلامهِ؟

مِنَ الواضحِ جدّاً أنَّ الفتوى تقولُ بإسلامِ المُخالفِ لأنّهَا أوجبَتْ تغسيلَ كلِّ مسلمٍ ومنهمُ المُخالفُ.

وجاءَ فِي الكتابِ نفسهِ ( مسألةٌ رقمُ 837 منَ الجزءِ الثّالثِ): ( مسألة 838 : يشترطُ فِي ذكاةِ الذّبيحةِ أمورٌ:

الأوّلُ: أن يكونَ الذّابحُ مسلماً أو مَن بحكمهِ كالمتولّدِ منهُ.

فلا تحلُّ ذبيحةُ الكافرِ مُشركاً كانَ أو غيرَهُ حتّى الكتابيّ وإن سمّى على الأحوطِ، ولا يُشترطُ فيهِ الإيمانُ فتحلُّ ذبيحةُ جميعِ فرقِ المُسلمينَ عدا المُنتحلينَ للإسلامِ المحكومينَ بالكفرِ مِمَّن مرَّ ذكرهُم فِي كتابِ الطّهارةِ). انتهى

وقولهُ ( حفظهُ اللهُ ): ( ولا يشترطُ فيهِ الإيمانُ فتحلُّ ذبيحةُ جميعِ فرقِ المُسلمينَ)، هوَ حكمٌ صريحٌ بإسلامِ المخالفينَ لمذهبِ أهلِ البيتِ ( عليهمُ السّلامُ )؛ لأنَّ اصطلاحَ ( الإيمانِ ) فِي عباراتِ فقهاءِ الإماميّةِ يُقصدُ بهَا الإثنيّ عشريّ، وهُنا نجدُ السّيّدَ السّيستانيّ (حفظهُ اللهُ) بعدَ اشتراطهِ للإسلامِ للذّابحِ فِي حليّةِ أكلِ ذبيحتهِ حكمَ على جميعِ الفرقِ المُخالفةِ للمذهبِ الجعفريّ بالإسلامِ واستثنَى منهُم جماعةً سبقتِ الإشارةُ إليهِم فِي كتابِ الطّهارةِ وهُم: الغُلاةُ، والنّواصبُ، والخوارجُ. [ راجِعْ منهاجَ الصّالحينَ للسّيّدِ السّيستانيّ، الجزء الأوّل ص 139، كتاب الطّهارةِ: الأعيانُ النّجسةُ].

وهكذا تجدُ قولهُ ( حفظهُ اللهُ ) فِي جوازِ زواجِ المؤمنةِ ( الإثنيّ عشريّةِ ) منَ المُخالفِ ( السّنيّ غيرِ النّاصبيّ )، كمَا فِي المسألةِ 215 مِنَ الجزءِ الثّالثِ، كتاب النّكاحِ، وكذلكَ غيرهَا الكثيرُ مِنَ الفتاوى فِي هذا الجانبِ.   

فهذهِ الفتاوى الصّريحةُ جدّاً بإسلامِ المخالفينَ عندَ السّيّدِ السّيستانيّ، وفِي رسالتهِ العمليّةِ التي يعملُ بهَا عشراتُ الملايينِ مِنَ المُسلمينَ الشّيعةِ فلا ندرِي بعدهَا كيفَ ساغَ لهذا السّائلِ أن يقولَ بأنَّ السّيّدَ السّيستانيّ يقولُ بكفرِ مَن يقولُ "آمينَ" فِي صلاتهِ أو يتكتّفُ؟

إنّه أمرٌ غريبٌ حقّاً وَ يُعزى سببهُ إمَّا إلى الجهلِ أو إثارةِ الفتنةِ لا غير.

نعَم، هوَ ( حفظهُ اللهُ ) يحكمُ ببطلانِ الصّلاةِ إذا جاءَ فيهَا لفظُ آمينَ بعدَ قراءةِ سورةِ الفاتحةِ في الصّلاةِ، أو وقفَ فيهَا المُصلِّي متكتّفاً، وهذا الحكمُ بالبطلانِ لا يعنِي تكفيرَ صاحبهِ أو إخراجَهُ منَ الإسلامِ، بَل يعنِي خطأهُ بحسبِ الدّليلِ الذي توّفرَ عندَ الفقيهِ على ذلكَ، فالتّكفيرُ شيءٌ والحكمُ ببطلانِ الأعمالِ وفقَ الدّليلِ الذي يراهُ الفقيهُ شيءٌ آخرُ، فها هُم أهلُ المذاهبِ الأربعةِ يخطّئونَ بعضَهُم بعضاً فِي أحكامهِمُ الفقهيّةِ، وسنكتفِي هُنا بذكرِ حادثةٍ معروفةٍ مشهورةٍ جرَتْ فِي عهدِ السّلطانِ محمودٍ بنِ سبكتكينَ:

 قالَ ابنُ خلّكانَ في وفيّاتِ الأعيانِ: ذكرَ إمامُ الحرمينِ أبو المعالي عبدُ الملكِ الجوينيّ في كتابهِ الذي سمّاهُ ( مغيثُ الخلقِ في اختيارِ الأحقِّ ) أنَّ السّلطانَ محموداً [ ابنَ سبكتكينَ ] كانَ على مذهبِ أبي حنيفةَ رضيَ اللهُ عنهُ، وكانَ مولعاً بعلمِ الحديثِ، وكانُوا يسمعونَ الحديثَ مِنَ الشّيوخِ بينَ يديهِ وهوَ يسمعُ ، وكانَ يستفسرُ الأحاديثَ، فوجدَ أكثرهَا موافقاً لمذهبِ الشّافعيّ رضيَ اللهُ عنهُ، فوقعَ فِي خلدهِ حكّةٌ، فجمعَ الفقهاءَ منَ الفريقينِ في مرو، والتمسَ منهمُ الكلامَ فِي ترجيحِ أحدِ المذهبينِ على الآخرِ، فوقعَ الاتّفاقُ على أن يصلّوا بينَ يديهِ ركعتينِ على مذهبِ الإمامِ الشّافعيّ رضيَ اللهُ عنهُ، وعلى مذهبِ أبي حنيفةَ رضيَ اللهُ عنهُ، لينظرَ فيهِ السّلطانُ ويتفكّرَ ويختارَ مَا هوَ أحسنهمَا، فصلّى القفّالُ المروزيّ بطهارةٍ مسبغةٍ وشرائطَ معتبرةٍ مِنَ الطّهارةِ والسّترةِ واستقبالِ القبلةِ، وأتى بالأركانِ والهيئاتِ والسّننِ والآدابِ والفرائضِ على وجهِ الكمالِ والتّمامِ، وقالَ: هذهِ صلاةٌ لا يجوزُ الإمامُ الشّافعيُّ رضيَ اللهُ عنهُ دونهَا، ثمَّ صلّى ركعتينِ على مَا يجوزُ أبو حنيفةَ رضيَ اللهُ عنهُ، فلبسَ جلدَ كلبٍ مدبوغاً، ولطّخَ ربعهُ بالنّجاسةِ، وتوضّأَ بنبيذِ التّمرِ، وكانَ في صميمِ الصّيفِ في المفازةِ، واجتمعَ عليهِ الذّبابُ والبعوضُ، وكانَ وضوؤهُ منكساً منعكساً، ثمَّ استقبلَ القبلةَ، وأحرمَ للصّلاةِ مِن غيرِ نيّةٍ في الوضوءِ، وكبّرَ بالفارسيّةِ، ثمَّ قرأ آيةً بالفارسيّةِ ( دو برك سبز ) [ يريدُ قولهُ تعالى ( مدهامتان ) ]، ثمَّ نقرَ نقرتينِ كنقراتِ الدّيكِ مِن غيرِ فصلٍ ومِن غيرِ ركوعٍ، وتشهّدَ، وضرطَ فِي آخرهِ مِن غيرِ نيّةِ السّلامِ. وقالَ: أيّهَا السّلطانُ، هذهِ صلاةُ أبي حنيفةَ. فقالَ السّلطانُ: لو لم تكُن هذهِ الصّلاةُ صلاةَ أبِي حنيفةَ لقتلتكَ، لأنَّ مثلَ هذهِ الصّلاةِ لا يجوّزهَا ذو دينٍ. فأنكرتِ الحنفيّةُ أن تكونَ هذهِ صلاةَ أبِي حنيفةَ، فأمرَ القفّالَ بإحضارِ كتبِ أبي حنيفةَ، وأمرَ السّلطانَ نصرانيّاً كاتباً يقرأُ المذهبينِ جميعاً، فوجدتُ الصّلاةَ على مذهبِ أبي حنيفةَ على ما حكاهُ القفّالُ، فأعرضَ السّلطانُ عَن مذهبِ أبي حنيفةَ، وتمسّكَ بمذهبِ الشّافعيّ رضيَ اللهُ عنهُ.  [  وفيّاتُ الأعيانِ 5 : 180 ، وانظُر : مرآةُ الجنانِ وعبرةُ اليقظانِ لليافعيّ 3:19، وقَد ذكرَ ابنُ القيّمِ في أعلامِ الموقّعينَ 2 : 222 هذهِ الصّلاةَ ولم يذكُرْ مَن قالَ بإجزائهَا].

والخُلاصةُ : أنَّ السّيّدَ السّيستانيَّ ( دامَ ظلّهُ الوارفُ على المسلمينَ ) لا يُفتِي بكفرِ المُخالفِ، ولا يقولُ بجوازِ قتلهِ، كمَا هوَ حالُ فقهاءِ الوهابيّينَ، المعروفينَ للجميعِ، بَل كانَ ومَا زالَ هوَ صمّامَ الأمانِ للعراقِ والمُنقذَ لهُ مِن أتونِ الحربِ الطّائفيّةِ التي يشعِلُ أوارَهَا بينَ فترةٍ وأخرى فقهاءُ السّوءِ هؤلاءِ، المخالفونَ فِي فتاواهُم للهِ ورسولهِ (صلّى الله عليهِ وآلهِ وسلّمَ)!

ودُمتُم سالِمينَ.