هَل طالبَ أميرُ المؤمنينَ عليٌّ (عليهِ السّلامُ) بحقّهِ بالخلافةِ أو لا؟

أبو دجانةَ/: هَل خرجَ عليٌّ رضيَ اللهُ عنهُ يطالبُ بحقّهِ بالإمامةِ أم أنّهُ اكتفَى بالعزلةِ وندبِ حظّهِ؟

: اللجنة العلمية

بعدَ ثبوتِ الحقِّ الشّرعيّ الذي صدعَ بهِ النّبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) بالإمامةِ العامّةِ والخلافةِ لأميرِ المؤمنينَ عليٍّ (عليهِ السّلامُ) مِن بعدهِ فِي يومِ غديرِ خمٍّ، حينَ قالَ أمامَ عشراتِ الألوفِ منَ الصّحابةِ: (مَن كنتُ مولاهُ فهذا عليٌّ مولاهُ)، هذا النّصُّ الذي خالفَهُ الأصحابُ، وقَد ثبتَ غدرُ الأمّةِ بأميرِ المؤمنينَ (عليهِ السّلامُ) فِي أحاديثَ صحيحةٍ روَتهَا كتبُ أهلِ السّنّةِ قبلَ الشّيعةِ.

فقَد روى الحاكمُ في مستدركهِ بسندٍ صحيحٍ عَن أبي إدريسَ الأوديّ عَن عليٍّ (عليهِ السّلامُ) أنّهُ قالَ: (إنَّ مِمَّا عهدَ إليّ النّبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ) أنَّ الأمّةَ ستغدرُ بِي بعدهُ). [ المُستدركُ على الصّحيحينِ 3: 150، صحّحهُ الحاكمُ ووافقهُ الذّهبيّ].

هذا الغدرُ الذي صرّحَ بهِ الإمامُ الغزاليّ ومخالفةُ الأصحابِ لرسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) فيمَا يتعلّقُ بحديثِ الغديرِ، حيثُ قالَ فِي "سرِّ العالمينَ": ( لكِنْ أسفرَتِ الحجّةُ وجههَا، وأجمعَ الجماهيرُ على متنِ الحديثِ، مِن خطبتهِ فِي يومِ غديرِ خمٍّ، باتّفاقِ الجميعِ، وهوَ يقولُ: مَن كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاهُ. فقالَ عمرُ: بخٍ بخٍ يَا أبا الحسنِ، لقَد أصبحتَ مولاي ومولى كلِّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ. فهذا تسليمٌ ورضىً وتحكيمٌ، ثمّ بعدَ هذا غلبَ الهوى لحبِّ الرّياسةِ، وحملِ عمودِ الخلافةِ، وعقودِ البنودِ، وخفقانِ الهوى فِي قعقعةِ الرّاياتِ، واشتباكِ ازدحامِ الخيولِ، وفتحِ الأمصارِ؛ سقاهُم كأسَ الهوى، فعادُوا إلى الخلافِ الأوّلِ، فنبذوهُ وراءَ ظهورهِم، واشترُوا بهِ ثمناً قليلاً). انتهَى. [ مجموعةُ رسائلِ الإمامِ الغزاليّ، كتابُ سرِّ العالمينَ: 483].

يأتِي السّؤالُ هُنا مَا هيَ المواقفُ التي اتّخذهَا الإمامُ أميرُ المؤمنينَ عليٌّ (عليهِ السّلامُ) أمامَ غدرِ الأمّةِ ومخالفتِهَا لنبيّهَا فيمَا يتعلّقُ بخلافتهِ (عليهِ السّلامُ)؟

نقولُ: لقَد كانَ الإمامُ (عليهِ السّلامُ) مأموراً بالسّلمِ ومعالجةِ الأمورِ بالتّروّي حتّى لا تكونَ هُناكَ فرصةٌ لليهودِ والمنافقينَ المتربّصينَ بالإسلامِ، والنّاسُ قريبُوا عهدٍ بالجاهليّةِ بعدَ وفاةِ نبيّهِم (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ).

روى أحمدُ فِي مُسندهِ عَن إياسَ بنِ عمرُو الأسلميّ عَن عليٍّ بنِ أبِي طالبٍ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ): ( إنّهُ سيكونُ بعدِي اختلافٌ أو أمرٌ، فإنِ استطعتَ أن تكونَ السّلمَ فافعَل). قالَ أحمد محمّد شاكر - المحقّقُ للمُسندِ -:  إسنادهُ صحيحٌ. [مسندُ أحمدَ بنِ حنبلٍ 1:  469].

وعليهِ؛ فقَد كانَت مطالبةُ أميرِ المؤمنينَ عليٍّ (عليهِ السّلامُ) بحقّهِ مطالبةً سلميّةً لَم يرفَعْ فيهَا سيفاً أو يداهمْ ثكنةً أو يقتلْ أحداً، فاكتفَى ( عليهِ السّلامُ ) بإعلانِ معارضتهِ السّلميّةِ بالمكوثِ في بيتهِ والامتناعِ عَنِ الاعترافِ بخلافةِ أبي بكرٍ؛ لأنّهَا خلافةٌ غيرُ شرعيّةٍ بنظرهِ ومخالفةٌ لحديثِ الغديرِ، ووافقهُ على معارضتهِ هذهِ جماعةٌ منَ الصّحابةِ وأعلنُوا معارضتهُم أيضاً لخلافةِ أبِي بكرٍ واعتصمُوا فِي بيتهِ كحالةٍ مِن إعلانِ المعارضةِ السّلميّةِ، لكنَّ القومَ ( أصحابَ السّقيفةِ ) لم ترُقْهُم هذهِ المُعارضةُ السّلميّةُ وأقبلُوا يهدّدونَ النّاسَ بالبيعةِ جبراً وإلّا سيحرقونَ بيتَ الزّهراءِ ( عليهَا السّلامُ ) على رؤوسهِم بمَا فيهِ، وفيهِ بضعةُ المُصطفى (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ)! [ كمَا يروي ذلكَ إبنُ أبِي شيبةَ بسندٍ صحيحٍ فِي مُصنّفهِ 8: 572].

ولم يترُكْ أميرُ المؤمنينَ ( عليهِ السّلامُ ) المطالبةَ بحقّهِ هذا رُغمَ هذهِ التّهديداتِ، وبقيَ يُمارسُ دورَ المعارضِ لخلافةِ أبي بكرٍ لمدّةِ ستّةِ أشهرٍ حتّى رأى وجوهَ النّاسِ تغيّرَتْ عليهِ بعدَ وفاةِ الصّدّيقةِ الزّهراءِ (عليهَا السّلامُ) فآثرَ المُصالحةَ معَ القومِ حتّى لا تسوءَ الأمورُ أكثرَ، كمَا يصرّحُ بهِ البُخاريّ فِي بابِ غزوةِ خيبرٍ.

 مِن صحيحِ البُخاريّ فِي حديثٍ طويلٍ:  فوجدَتْ فاطمةُ على أبِي بكرٍ فِي ذلكَ فهجرتهُ فلم تكلّمْهُ حتّى توفّيَتْ وعاشَتْ بعدَ النّبيّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ ستّةَ أشهرٍ فلمَّا توفّيَتْ دفنهَا زوجُهَا عليٌّ ليلاً ولم يؤذنْ بهَا أبا بكرٍ وصلّى عليهَا وكانَ لعليٍّ منَ النّاسِ وجهٌ حياةَ فاطمةَ فلمَّا توفّيَتْ استنكرَ عليٌّ وجوهَ النّاسِ فالتمسَ مصالحةَ أبِي بكرٍ ومُبايعتهُ ولم يكُنْ يبايعُ تلكَ الأشهرَ. [ صحيحُ البخاريّ 5: 83] .

ومنَ الواضحِ جدّاً أنَّ هذهِ المُصالحةَ والبيعةَ لم تكُنْ عَن قناعةٍ وقبولٍ بَل هيَ بيعةُ إكراهٍ وبيعةُ الإكراهِ لا تعدّ بيعةً شرعاً.

ومعَ كلِّ ذاكَ لم يترُكِ الإمامُ أميرُ المؤمنينَ عليٌّ ( عليهِ السّلامُ ) الإشارةَ إلى حقّهِ فِي الخلافةِ فمَا زالَ يصدحُ بهذا الحقِّ وينبّهُ الأمّةَ عليهِ في كلِّ فرصةٍ تسنحُ لهُ حتّى تعرفَ الأمّةُ مَن هوَ المُخالفُ للهِ ورسولهِ فِي هذهِ المسألةِ ومَن هوَ المُطيعُ.

فقَد ذكرَ المحدّثونَ والعلماءُ مِن أهلِ السّنّةِ احتجاجَ أميرِ المؤمنينَ ( عليهِ السّلامُ ) بحديثِ الغديرِ عندمَا نُوزِعَ فِي خلافتهِ:

1ـ جاءَ عَن ابنِ حجرٍ المكيّ، المتوفّى سنةَ 974هـ،  فِي "الصّواعقِ المُحرقةِ": ( وفِي روايةٍ لأحمدَ أنّهُ سمعهُ منَ النّبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ) ثلاثونَ صحابيّاً، وشهدُوا بهِ لعليٍّ لمَّا نُوزِعَ أيّامَ خلافتهِ...). انتهَى [ الصّواعقُ المحرقةُ 1: 107].

2ـ عَنِ المُلّا عليّ القاريّ، المُتوفّى سنةَ 1014هـ، قالَ فِي "مِرقاةُ المفاتيحِ": ( فِي روايةِ أحمدَ أنّهُ سمعهُ منَ النّبيّ ثلاثونَ صحابيّاً، وشهدُوا بهِ لعليٍّ لمَّا نوزعَ أيّامَ خلافتهِ). انتهَى [ مرقاةُ المفاتيحِ 11: 248].

3ـ عَن أبي عبدِ اللهِ الزّرقانيّ المالكيّ، المتوفّى 1122هـ، قالَ فِي "شرحِ المواهبِ": (وهوَ متواترٌ رواهُ ستّةَ عشرَ صحابيّاً، وفِي روايةٍ لأحمدَ أنّهُ سمعهُ منَ النّبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ) ثلاثونَ صحابيّاً وشهدُوا بهِ لعليٍّ لمّا نوزعَ أيّامَ خلافتهِ). انتهى [ شرحُ المواهبِ 7: 13].

4- وقالَ عليٌّ بنُ برهانِ الدّينِ الحلبيّ فِي "سيرتهِ": ( أنّهُ كرّمَ اللهُ وجههُ لَم يحتجَّ بذلكَ [ أي بحديثِ الغديرِ ] إلّا بعدَ أن آلَتْ إليهِ الخلافةُ ردّاً على مَن نازعَهُ فيهِ). انتهى [ السّيرةُ الحلبيّةُ 3: 303].

وهكذا كانَ ( عليهِ السّلامُ ) لا يتركُ فرصّةً إلّا واحتجَّ لحقّهِ فِي الخلافةِ أمامَ مناوئيهِ ولم يسكُتْ أبداً.

ودُمتُم سالِمينَ.