هل أحرقَ أميرُ المؤمنينَ عليٌّ (ع) أحداً؟

الباحثُ عن الحقيقةِ المطوري: سؤالٌ حيّرنِي كثيراً وكباحثٍ عنِ الحقيقةِ أودُّ أن أطرحَهُ عليكُم ولي أيضاً بعضُ الأسئلةِ ولكن سأطرحُها عليكم لاحقاً. هل حقّاً أحرقَ الإمامُ عليٌّ بعضَ الأشخاصِ عندما تولّى الخلافةَ؟ وما هو رأيكم في هذا القولِ المنسوبِ للإمامِ عليٍّ وقد وردَ في مصادرِ الشّيعةِ أنفسِهم ومنهم الكشيُّ: إنِّي اذا أبصرتُ أمراً مُنكراً أوقدتُ ناري ودعوتُ قَنبراً.

: اللجنة العلمية

الأخُ المحترمُ، السّلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ 

ما وردَ من رواياتٍ فِي حرقِ عليٍّ (عليهِ السّلامُ) لبعضِ الأشخاصِ لا يمكنُ الرّكونُ إليهَا لسببينِ: 

الأوّلُ: أنّهَا معارضَةٌ بغيرِها. 

الثّاني: ضعفُهَا السّنديُّ.

أمَّا الجانبُ الأوَّلُ فقد تعرّضَتْ بعضُ الرّواياتِ لحرقِ ابنِ سبأٍ - كمَا فِي كتابِ الكشّيِّ 1:323 - وهيَ معارضَةٌ برواياتٍ أخرى تقولُ إنَّ الإمامَ (عليهِ السّلامُ) نفاهُ ولم يحرقْهُ - كما يُشيرُ إليهِ النّوبختيُّ فِي فِرقِ الشّيعةِ ص22 وكذلكَ الشّهرستانيُّ في المللِ والنّحلِ ج1 ص174 - ، هذا فضلاً عن وجودِ رأيٍّ مُعتدٍّ بهِ يقولُ إنَّ ابنَ سبأٍ لا وجودَ لهُ منَ الأساسِ وهوَ شخصيّةٌ مُخترَعةٌ، كما نصَّ على ذلكَ جمعٌ من أعلامِ السُّنَّةِ والشّيعةِ معاً، كالدّكتور طهَ حُسين والدّكتور عبدِ العزيز الهلاليّ والسّيّدِ مُرتضى العَسكريِّ وغيرهم، وبالتّالي لا يمكنُ الاِطمئنانُ لهذهِ الرّوايةِ مِن هذهِ النّاحيةِ.

أمَّا الجانبُ الثّاني فقد تعرَّضتْ بعضُ الرّواياتِ إلى أنَّ عليَّاً (عليهِ السَّلامُ) أحرقَ بعضَ الغُلاةِ الذينَ زَعمُوا أنَّهُ (عليهِ السّلامُ) ربُّهم - كمَا فِي الكشّيِّ 1:288 - ، وهذهِ الرّوايةُ ضعيفةٌ بعبدِ اللهِ بنِ شُريكٍ، فهوَ لم تثبتْ وثاقتهُ، وعليهِ لا يمكنُ الاِستنادُ إليها علميَّاً. 

أمَّا بقيَّةُ الرّواياتِ فهيَ إمَّا مُرسَلةٌ، كهذهِ الرّوايةِ التي ذكرَها إبنُ شهر آشوبَ فِي "المناقبِ"، حيثُ قالَ: "رُويَ: أنَّ سبعينَ رجلاً منَ الزّطِّ أتوهُ - يعني أميرَ المؤمنينَ (عليهِ السّلامُ)- بعدَ قتالِ أهلِ البصرةِ يدعونهُ إلهاً بلسانِهِم وسَجدوا لهُ، فقالَ لهم: لا تَفعلوا، إنَّمَا أنا مخلوقٌ مثلُكم، فأبَوا عليهِ، فقالَ: لئنْ لم ترجِعوا عمَّا قُلتُم فيَّ وتَتوبوا لأقتلنَّكم، فأبَوا، فخدَّ (عليهِ السّلامُ) لهم أخاديدَ وأوقدَ ناراً، فكانَ قَنبرُ يحملُ الرّجلَ على منكبهِ، فيقذفهُ في النّارِ، ثمَّ قالَ (عليهِ السّلامُ): 

إنِّي إذا أبصرتُ أمراً منكراً… أوقدتُ ناري ودعوتُ قنبراً

 ثمَّ احتفرتُ حُفراً فحُفراً … وقنبرُ يخطمُ خطماً مُنكراً.

 انتهى [المناقبُ لابنِ شهرِ آشوبَ 1:227].

أو تكونُ الروايةُ مِن مرويَّاتِ غيرنَا، كهذهِ الرّوايةِ التي يرويهَا البُخاريُّ عن عكرمةَ قالَ: "أُتيَ عليٌّ بزنادقةٍ فأحرَقَهم، فبلغَ ذلكَ إبنُ عبّاسٍ، فقالَ: لو كنتُ أنا لم أُحرِقْهم لنهيّ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ): "لا تعذِّبوا بعذابِ اللهِ"، ولقتلتُهم لقولِ رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ): "مَن بدَّلَ دينَهُ فاقتلوهُ". [صحيحُ البُخاريّ ج8 ص49].

فهذهِ الرّوايةُ لا حجَّةَ فيها على الشّيعةِ لأنَّها مِن مرويّاتِ غيرهم، فضلاً عنِ الطّعنِ الواضحِ في رجالِها عندَ أهلِ السّنّةِ أنفسِهم، فقد صرّحَ عليٌّ ابنُ عبدِ اللهِ بنِ عبّاسٍ أنَّ عِكرمةَ يكذبُ على أبيهِ - بهذا شهدَ إبنُ حجرٍ والذّهبيّ، راجع: ميزانُ الاِعتدالِ ج3 ص94، تهذيبُ التّهذيبِ ج7 ص237، سيرُ أعلامِ النّبلاءِ ج5 ص23-.

  وعليهِ، فلا توجدُ روايةٌ واحدةٌ يصحُّ الاِعتمادُ عليها في المقامِ لإثباتِ هذا الموضوعِ.

هذا كلُّهُ بالنّسبةِ للصّغرى في هذا السّؤالِ (وهوَ هل أحرقَ عليٌّ (عليهِ السّلامُ) بعضَ الأشخاصِ أو لم يُحرقْهم، وقد تبيّنَ عدمُ وجودِ مُستندٍ صحيحٍ يُمكنُ الاِعتمادُ عليهِ في المقامِ). 

 أمَّا بالنّسبةِ للكُبرى، وهيَ هل توجدُ عقوبةُ التّحريقِ في التّشريعِ الإسلاميِّ أو لا توجدُ؟

بالنّسبةِ للشّيعةِ الإماميّةِ يقولونَ بوجودِ مثلِ هذهِ العقوبةِ في حدِّ اللّواطِ، واختلَفوا فيها بالنّسبةِ لحدِّ المُرتدِّ -أنظرْ: تحريرُ الأحكامِ للعلّامةِ الحِلّيِّ 5: 394، وروضةُ المُتقينَ للمجلسيّ 6: 389-، أمَّا أهلُ السّنّةِ فقدِ اختلَفوا فِي الموضوعِ أيضاً، قالَ إبنُ حجرٍ فِي "فتحِ الباري": (واختلفَ السّلفُ فِي التّحريقِ فكَرهَ ذلكَ عُمرُ وابنُ عبّاسٍ وغيرُهمَا مُطلقاً سواءٌ كانَ ذلكَ بسببِ كُفرٍ أو فِي حالِ مُقاتلةٍ أو كانَ قِصاصاً وأجازهُ عليٌّ وخالدُ بنُ الوليدِ وغيرُهمَا وسيأتِي مَا يتعلّقُ بالقِصاصِ قريباً وقالَ المُهلّبُ: ليسَ هذا النّهيُ على التّحريمِ بل على سبيلِ التّواضعِ ويدلُّ على جوازِ التّحريقِ فِعلُ الصّحابةِ وقد سملَ النّبيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم أعيُنَ العرنيِّينَ بالحديدِ المُحمَّى وقد حرقَ أبو بكرٍ البُغاةَ بالنّارِ بحضرةِ الصّحابةِ وحرقَ خالدٌ بنُ الوليدِ بالنّارِ ناساً مِن أهلِ الرّدّةِ وأكثرُ علماءِ المدينةِ يُجيزونَ تحريقَ الحصونِ والمراكبِ على أهلها). انتهى [فتحُ الباري 6:105].

ودمتُم سالِمينَ.