مَا هُوَ تَفسيرُ قولِهِ تَعالَى: (ومَا يَعلمُ تأويلَهُ إلَّا اللهُ والرَّاسخونَ فِي العِلمِ)؟!!

صادق أبو جعفر: السَّلامُ عليكمُ ..نُريدُ مِنْ حَضراتِكُم بيانَ تفسيرِ الآيةِ الكريمةِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمرانَ (ومَا يَعلمُ تأويلَهُ إلَّا اللهُ والرَّاسخونَ فِي العِلمِ) ومَنْ هُوَ المَعنيُّ بِذَلكَ؟

: اللجنة العلمية

الأخُ صادِقٌ المُحترمُ، عليكمُ السَّلامُ ورَحمةُ اللهِ وبركاتُه 

جاءَ فِي تَفسيرِ "الأمثلِ" لآيةِ اللهِ الشَّيخِ ناصر مكارم شيرازي: (الكلامُ كثيرٌ بشأنِ معنَى "التَّأويلِ"، والأقربُ إلى الحَقيقةِ هوَ أنَّ "التَّأويلَ" مِنَ "الأوَّلِ" أيِ الرُّجوعُ إلَى الأصلِ، وهوَ إيصالُ العملِ أوِ الكلامِ إلى الهدفِ النِّهائيِّ المُرادِ منهُ. فإذَا أقدمَ أحدٌ على عملٍ ولَمْ يَكنْ هَدفُهُ مِنْ هذا العَملِ واضِحَاً، ثُمَّ يتوضَّحُ ذلكَ فِي النِّهايَةِ ، فهذا هُوَ التَّأويلُ، كالَّذِي نقرأُهُ فِي حِكايَةِ مُوسَى (عليهِ السَّلام) مَعَ الحكيمِ الَّذِي كانَ يَقومُ بأعمالٍ غامضةِ الأهدافِ "مثلِ تحطيمِ السَّفينةِ" فكانَ هَذا مَدعاةً لإنزعاجِ مُوسَى، ولكِنْ عِندَمَا شَرحَ لَهُ الحَكيمُ فِي نِهايَةِ المَطافِ وعِندَ الفِراقِ أهدافَ تِلكَ الأعمالِ، وأنَّهُ قصدَ إلى تَخليصِ السَّفينةِ مِنَ الوُقُوعِ فِي يَدِ سُلطانٍ غاصِبٍ وظالِمٍ، خَتمَ شَرحَهُ بِقَولِهِ: ذلكَ تَأويلُ مَا لَمْ تَستَطِعْ عليهِ صَبراً.

كذلِكَ إذا رَأى الإنسانُ رُؤيَا لا تتَّضِحُ لهُ نَتيجَتُهَا، ثُمَّ تبيَّنَ لَهُ تَعبيرُهَا بِمُرَاجعَةِ شَخصٍ أو مُشاهدَةِ واقعَةٍ، فذلِكَ هُوَ تأويلُ الرُّؤيَا، مِثلُ يُوسُفَ (عليهِ السَّلام) الَّذِي قالَ حينَ تحقَّقَتْ رُؤيَاهُ الشَّهيرةُ عمليَّاً، أو بِعبَارةٍ أُخرَى حِينَ وصلَتْ مرحلتَهَا النِّهائيَّةُ (هذَا تَأويلُ رُؤيايَ مِنْ قَبلُ).

وهَكذا إذَا صدرَ عَنِ الإنسانِ كلامٌ فيهِ مَفاهيمُ وأسرارٌ خاصَّةٌ تُشكِّلُ الهدفَ النِّهائيَّ لذلِكَ الكلامِ، فذلكَ هُوَ التَّأويل.

هذا هُوَ معنَى التَّأويلِ فِي الآيةِ، أيْ أنَّ فِي القُرآنِ آياتٌ ذاتُ أسرارٍ ومعانٍ عميقةٍ غيرَ أنَّ ذويِ الأفكارِ المُنحرِفَةِ والمَقاصِدِ الفَاسدَةِ يَضعونَ مِنْ عِندِهِمْ تَفسيرَاً لا أساسَ لَهُ مِنَ الصِّحَّةِ ويَستَنِدُونَ إليهِ لِخداعِ أنفُسِهِمْ أو غيرِهِمْ.

وعليهِ، فإنَّ المَقصودَ مِنْ ابتغاءِ تأويلِهِ هُوَ أنَّ هؤلاءِ يُريدونَ أنْ يؤوِّلوا الآياتِ بصورةٍ تُخالِفُ حقيقتَهَا، أيِ ابتِغَاءَ تأويلِهِ على خِلافِ الحَقِّ.

وكمَا قرأنَا فِي سَببِ نُزولِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ بَعضَ اليَهودِ أوَّلُوا تِلكَ الحُروفَ المُقطَّعَةَ فِي القُرآنِ تَأويلاً لَا يَتَّفِقُ مَعَ الحَقيقَةِ، فقالوا إنَّهَا تُحدِّدُ عُمرَ الإسلامِ، وهكذَا المَسيحيُّونَ أسَاؤُوا تأويلَ "رُوحٍ مِنهُ" ليُثبِتُوا ألوهيَّةَ المَسيحِ (عليهِ السَّلامُ). هَذِهِ كُلُّهَا مِنْ قَبيلِ "التَّأويلِ بِخِلافِ الحَقِّ"، وإرجَاعِهَا إلى مَقاصِدَ بعيدَةً عَنِ الحَقيقةِ). إنتَهَى.

ثُمَّ تحدَّثَ الشَّيخُ الشِّيرازيُّ عَنِ الرَّاسخينَ فِي العِلمِ، فقالَ: 

(هذَا التَّعبيرُ القُرآنيُّ وَردَ فِي مَوضِعَينِ، هذَا أحدُهُمَا هُنَا والآخَرُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، إذْ يَقولُ: لَكِنَّ الرَّاسخونَ فِي العِلمِ مِنهُمْ والمُؤمِنُونَ يُؤمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إليكَ ومَا أُنْزِلَ مِنْ قَبلِكَ).

وبِحَسَبِ المَعنَى اللُغويِّ لهذهِ الكلمةِ، فإنَّهَا تَعنِي الَّذِينَ لَهُمْ قَدمٌ ثَابتَةٌ فِي العِلمِ والمَعرِفَةِ.

طَبيعيٌّ أنْ يَكونَ مَعنَى الكَلمَةِ واسِعَاً يَضُمُّ جَميعَ العُلمَاءِ والمُفكِّرِينَ، إلَّا أنَّ بينَ هَؤلاءِ أفرادَاً مُتميِّزينَ لَهُمْ مَكانتهمُ الخاصَّةَ، ويأتونَ عَلى رأسِ مَصاديقِ الرَّاسخينَ فِي العِلمِ وتَنصرفُ إليهِمُ الأذهانُ عِندَ استعمالِ هذهِ الكلمةِ قَبلَ غَيرِهِمْ.

وهذا هُوَ الَّذِي تقولُ بهِ بَعضُ الأحاديثِ الَّتِي تُفسِّرُ الرَّاسخينَ فِي العِلمِ بأنَّهُمُ النَّبيُّ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّم) وأئِمَةُ الهُدَى (عليهِمُ السَّلام)، فقَدْ سَبقَ أنْ قُلنَا إنَّ لِكلِمَاتِ القُرآنِ ومَفاهيمِهِ مَعانيَ واسِعَةً، ومِنْ مَصاديقِهَا البَارزَةِ الشَّخصياتُ النَّموذجيَّةُ السَّاميةُ الَّتِي تُذكَرُ أحيانَاً وحدَهَا فِي تَفسيرِ تِلكَ الكَلماتِ والمَفاهيمِ.

عَنْ بريدٍ بنِ مُعاويةَ قالَ: قُلتُ لأبِي جَعفرَ "البَاقِرِ" (عليهِ السَّلام): قولُ اللهِ: (ومَا يَعلمُ تأويلَهُ إلَّا اللهُ والرَّاسخونَ فِي العِلمِ)، قالَ: "يَعنِي تَأويلَ القُرآنِ كُلِّهِ، إلَّا اللهُ والرَّاسخونَ فِي العِلمِ، فرَسولُ اللهِ أفضَلُ الرَّاسخينَ، وقَدْ عَلَّمَهُ جَميعَ مَا أُنزِلَ عَليهِ مِنَ التَّنزيلِ والتَّأويلِ، ومَا كانَ اللهُ مُنزِلَاً عليهِ شَيئَاً لَمْ يُعلِّمْهُ تأويلَهُ وأوصياؤُهُ مِنْ بَعدِهِ يَعلمُونَهُ كُلَّهُ".

وهُناكَ أحاديثُ كثيرةٌ أُخرَى فِي أصُولِ الكَافِي وسَائِرِ كُتُبِ الحَديثِ بِهَذا الشَّأنِ، جَمعَهَا صَاحِبَا تَفسيرِ "نُورِ الثَّقلينِ" وتَفسيرِ "البُرهانِ" فِي ذَيلِ هَذهِ الآيَةِ.

وكمَا قُلنَا فإنَّ تَفسيرَ الرَّاسخينَ فِي العلمِ بأنَّهُمُ النَّبيُّ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّم) وأئِمَّةُ الهُدَى (عليهِمُ السَّلام) لَا يَتعارَضُ مَعَ المَفهومِ الوَاسِعِ الَّذِي يَشملُهُ هَذا التَّعبيرُ، فقَدْ نُقِلَ عنِ إبنِ عَبَّاسٍ أنَّهُ قالَ: "أنَا أيضَاً مِنَ الرَّاسخينَ فِي العِلمِ" إلَّا أنَّ كُلَّ امرئٍ يَتعرَّفُ على أسرارِ تأويلِ آياتِ القُرآنِ بِقَدرِ سِعتِهِ العِلميَّةِ، فالَّذِينَ يُصدِرُونَ فِي عِلمِهِمْ عَنْ عِلمِ اللهِ اللامُتناهِي لَا شكَّ أعلمُ بأسرارِ تأويلِ القُرآنِ، والآخرونَ يَعلمونَ جُزءَاً مِنْ تِلكَ الأسرارِ).

ثُمَّ قالَ: (الرَّاسخونَ فِي العِلمِ يَعرِفُونَ مَعنَى المُتشابِهَاتِ: ثَمَّةَ نِقاشٌ هَامٌّ يَدورُ بَينَ المُفسِّرينَ وَالعُلمَاءِ حَولَ مَا إذَا كانَتْ عِبارَةُ "الرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ" بِدايَةَ جُملَةٍ مُستقلَّةٍ، أمْ أنَّهَا مَعطوفَةٌ علَى "إلَّا اللهُ".

وبعبارةٍ أُخرَى: هَلْ أنَّ مَعنَى الآيَةِ وأنَّهُ مَا يَعلَمُ تَأويلَهُ إلَّا اللهُ والرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ؟ أمْ أنَّهُ مَا يَعلَمُ تَأويلَهُ إلَّا اللهُ والرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ يَقولُونَ آمنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا؟

إنَّ لِكُلِّ فَريقٍ مِنْ مُؤيِّديِ هَذينِ الاِتِّجاهينِ أدِلَّتُهُ وبراهينُهُ وشواهدُهُ. أمَّا القرائِنُ المَوجودَةُ فِي الآيَةِ والأحادِيثُ المَشهورَةُ المُنسجِمَةُ مَعهَا فَتقولُ إنَّ "الرَّاسخونَ فِي العِلمِ" مَعطوفَةٌ عَلى "اللهِ"، وذَلِكَ:

أوَّلاً: يُستَبْعَدُ كَثيرَاً أنْ تَكونَ فِي القُرآنِ آياتٌ لَا يَعلَمُ أسرارَهَا إلَّا اللهُ وَحدَّهُ. 

ألَمْ تَنزِلْ هَذِهِ الآياتُ لِهدايَةِ البَشرِ وتَربيتِهِمْ؟ فكَيفَ يُمكِنُ أنْ لَا يَعلَمَ بِمعَانيهَا وتَأويلِهَا حَتَّى النَّبيُّ الَّذِي نَزلَتْ عليهِ؟ هَذا أشبَهُ بِمَنْ يُؤلِّفُ كِتابَاً لَا يَفهَمُ مَعانِي بَعضِ أجزائِهِ سِواهُ!

وثانيَاً: كمَا يقولُ المَرحومُ الطَّبرسيُّ فِي "مَجمَعِ البَيانِ": لَمْ يَسبِقْ أنْ رَأينَا بَينَ عُلماءِ الإسلامِ والمُفسِّرينَ مَنْ يَمتَنِعُ عَنْ تفسيرِ آيَةٍ بِحجَّةِ أنَّهَا مِنَ الآياتِ الَّتِي لَا يَعرِفُ مَعنَاهَا سِوى اللهِ، بَلْ كَانُوا جَميعَاً يَجِدُّونَ ويَجتَهِدُونَ لِكَشفِ أسرارِ القُرآنِ ومَعَانِيهِ.

وثالِثَاً: إذَا كانَ القَصدُ هُوَ أنَّ الرَّاسِخينَ فِي العِلمِ يُسلِّمونَ لِمَا لا يَعرفُونَهُ، لكَانَ الأولَى أنْ يُقالَ: والرَّاسخونَ فِي الإيمانِ يَقولونَ آمنَّا بِهِ. لأنَّ الرُّسوخَ فِي العِلمِ يَتنَاسَبُ مَعَ العِلمِ بِتَأويلِ القُرآنِ، ولَا يَتنَاسَبُ مَعَ عَدَمِ العِلمِ بِهِ والتَّسليمِ لَهُ.

ورَابِعَاً: إنَّ الأحادِيثَ الكَثيرَةَ الَّتِي تُفسِّرُ هَذِهِ الآيَةَ تُؤكِّدُ كُلُّهَا أنَّ الرَّاسخينَ فِي العِلمِ يَعلمُونَ تَأويلَهُ، وعَليهِ فيَجِبُ أنْ تَكونَ مَعطوفَةً عَلى "اللهِ"). إنتَهَى. [الأمثلُ فِي تَفسيرِ كِتابِ اللهِ المُنزَّلِ 2: 400]. 

ودُمتُمْ سَالِمينَ.