حُكمُ التَّفَرُّدِ الَّذِي يُطلِقُهُ عُلَمَاءُ الجَرحِ وَالتَّعدِيلِ عَلَى الحَدِيثِ.

سَلمَانُ/المَغرِبُ/: مَاذَا يَقصُدُ عُلَمَاءُ الجَرحِ وَالتَّعدِيلِ بِقَولِهِم بَعْدَ إِيرَادِهِم الحَدِيثَ: (تَفَرَّدَ بِهِ)؟

: اللجنة العلمية

الأَخُ سَلمَانُ المُحْتَرَمُ:

السَّلامُ عَلَيكُم وَرَحمَةُ ٱللهِ وَبَرَكَاتُهُ:

قَبلَ الجَوَابِ عَنْ سُؤَالِكَ لَا بُدَّ مِنْ مُقَدِّمَةٍ يَسِيرَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالوَسَائلِ والطُّرقِ الَّتِي مَهَّدتْ؛ لِٱنتِشارِ الحَدِيثِ بَينَ المُسْلِمِينَ، حَاصِلُها مَا يَلِي:

إِنَّ المَعرُوفَ بَينَ أَهْلِ العِلمِ أَنَّ الحَدِيثَ النَّبَوِيَّ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ كَانَ يُلقيه النَّبِيّ (ص) عَلَى عَدَدٍ مِنْ أَصحَابِهِ، فَيَسمَعُهُ مَثَلَاً: زًيدٌ، وبَكرٌ، وعَمرٌو، وعَبدُٱللهِ، وغَيرُهُم مِنَ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ وَفاةِ النَّبِيّ (ص) كَانَ يَقُومُ كلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاءِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ سَمِعُوا هَذَا الحَدِيثَ مِنَ النَّبِيّ (ص) بِعَقدِ جَلسَةٍ يَقُومُ فِيهَا بِرُوَايَةِ مَا سَمِعَهُ مِنْ أًحَادِيثَ،  فَيُلقِيهَا عَلَى مَجمُوعَةٍ مِنَ الأَفرَادِ يُسَمَّونَ بِحَسَبِ ٱصْطِلَاحِ المُحَدِّثِينَ بِالتَّابِعِينَ مِنَ الدَّرَجَةِ الأُولَى، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلاءِ التَّابِعِينَ مِنَ الدَّرَجَةِ الأَولَى، بَدأُوا بِعَقدِ جَلسَاتٍ أُخرَى يُحدِّثُون فِيهَا مَجمُوعَةً ثَانِيةً مِنَ الأَفرادِ بالأَحادِيثِ الَّتي سَمِعُوها مِنَ الصَّحَابَةِ، وهَؤلَاءِ الأَفرَادِ مِنَ المَجمُوعةِ الثَّانِيةِ يُسَمَّونَ بحسب اصطلاح المُحدِّثينَ بالتَّابِعينَ مِنَ الدَّرجةِ الثَّانِيَةِ، وهَؤلَاءِ التابعون من الدًّرجةِ الثَّانِيَةِ سيَقُومُونَ بدَورِهم، فيُحدِّثُونَ مَجمُوعةً أُخرَى مِنَ الأَفرَادِ يُسَمَّونَ بالتَّابِعينَ مِنَ الدَّرجةِ الثَّالِثَةِ، وهَكَذا كان يَنتَشِرُ الحَدِيثُ بَينَ أَوسَاطِ المُسْلِمِينَ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ وطَبقَةً بَعدَ طَبقَةٍ إِلَى أنْ يُدَوَّنَ فِي الكُتُبِ والمُصَنَّفاتِ. مِنْ بَعْدِ هَذِهِ المُقدِّمةِ فإِنَّ الأَمرَ صَارً وَاضِحَاً لِكُلِّ مُتَتَبِّعٍ أَنَّ الحَدِيثَ الواحِدَ مَثَلَاً، الَّذِي حَدَّثَ بِهِ النَّبِيّ (ص) أَوَّلاً يفترض أنْ يَكونَ مَعرُوفاً مُتَداوَلاً بَينَ طَبَقَةِ الصَّحَابَةِ، فَيَروِيهِ عَدَدٌ مِنهُم، وهذا الحَدِيثُ  نَفسُهُ يُفتَرَضُ أَيضَاً أَنْ يكُونَ عِندَ الطَّبَقَةِ الأُولى مِنَ التَّابِعينَ الَّتِي سِمِعَتْهُ مِنْ طَبَقَةِ الصَّحَابَةِ مَعرُوفَاً لَدَيهِم، وأَنْ يَروِيَهُ عَدَدٌ مِنهُم، وكَذلِكَ هذا الحَدِيثُ يُفتَرَضُ أَنْ يكُونَ عِندَ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ التَّابِعِينَ مَعرُوفَاً لَدَيهِم، وأَنْ يَروِيَهُ عَدَدٌ مِنهُم، وهكذا يَنبَغي أَنْ يكُونَ الحَالُ في بَقِيَّةِ الطَّبَقَاتِ. لَكِنْ نُقَّادُ الحَدِيثِ حِينَ كانوا يَتحَقَّقُونَ ويُدَقِّقُونَ في الأَحَادِيثِ؛ لِتَمييزِ الصَّحيحِ عَنْ غَيرِ الصَّحِيحِ، تَبَيَّنَ لهُم أَنَّ مَجمُوعةً كَبيرةً مِنَ الأَحادِيثِ قَدِٱنْفَرَدَ بها بَعضُ الرُّوَاةِ عَنْ مَشايِخهم دُونَ غَيرِهِم، فَبدَأوا يَدرُسُونَ أَسبابَ التَّفَرُّدِ بالحَدِيثِ وكَيفِيَّةِ الحُكمِ عَلَيهِ، فِي مَبحثٍ خَاصٍّ مِنْ مَباحِثِ عُلُومِ الحَدِيثِ، وأُقَرِّبُ المَسأَلَةَ بهذا المِثالِ: قال أُحمدُ حَدَّثَنا عَبدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مُعَمَّرٍ عَنْ نَافِعْ عَنْ سَالمٍ عَنْ أَنَسْ عَنِ الرَّسُولِ (ص) أَنّهُ قَالَ: كَذا وكَذا، بَعدَ دِراسةِ الحَدِيثِ مِنْ حَيثُ سَنَدِهِ ومَتنِهِ مِنْ قِبَلِ أَحمدَ مَثلاً، تَجِدُهُ بَعدَ ذلك يَقولُ: تَفَرَّدَ بهِ عَبدُ الرَّزَّاقِ. ومَعنَى ذلك أَنَّ أَحمدً يُشِيرُ إِلى تَفَرُّدِ عَبدِ الرَّزَّاقِ بهَذا الحَدِيثِ عَنْ مُعَمَّرٍ، ولَمْ يَجِدْهُ عِندَ تَلامِيذِ مُعَمَّرٍ الآخَرِينَ، حَيثُ لَمْ يَروِهِ إِلَّا عَبدُ الرَّزَّاقِ، فمُعَمَّرٌ يُفتَرَضُ أَنْ يكُونَ لديهِ تلامِيذٌ يَسمَعُونَ مِنهُ الأَحادِيثَ غَيرِ عَبدِ الرَّزَّاقِ، فحِينَئِذٍ، لمَاذا ٱنْفَرَدَ عَبدُ الرَّزَّاقِ بهَذا الحَدِيثِ عَنْ بَقِيَّةِ تلامِيذِ مُعَمَّرٍ؟ وهكذا الحَالُ لو قُلنا: إِنَّ مُعَمَّرَ ٱنْفَرَدَ بهِ نَافِعٌ، أَو نَافِعٌ ٱنْفَرَدَ بهِ عَنْ سَالمٍ أَو سَالمٌ ٱنْفَرَدَ بِهِ عَنْ أَنَسٍ، أَو أَنَسٌ ٱنْفَرَدَ بِهِ عَنَ النَّبِيِّ (ص). هَذَا هُوَ المَعنَى المُرادُ مِنْ قَولِ عُلماءِ الجَرحِ وَالتَّعدِيلِ فِي رَاوٍ مُعَيَّنٍ أَنَّهُ تَفَرَّدَ بهِ. ثُمَّ إِنَّ المُتَفَرِّدُ بالحَدِيثِ تارةً يكونُ حَافِظاً ضَابِطاً لِلحَدِيثِ، فيَقولُ النُّقَّادُ فِي حَقِّهِ: هذا الرَّاوِي مِمَّنٍ يُحتَمَلُ مِنهُ التَّفَرُّدُ فيُقَبلُ مِنهُ الحَدِيثُ ما دام لَمْ يُخالْفْ غَيرَهَ مِنَ الثِّقَاتِ، وتارةً ثانِيةً يكونُ المُتَفَرِّدُ غَيرَ حافِظٍ أَو مِمَّن لَمْ يُعرَفْ بِضَبطِ الحَدِيثِ وإِنْ كان صَدُوقَاً، فهَذا يَقُولونَ فِي حَقِّهِ: إِنَّهُ مِمَّن لا يُحتَمَلُ مِنهُ التَّفَرُّدُ بالحَدِيثِ فيَردُّونَ حَديثَهُ؛ لِعَدمِ حِفظِهِ أَو ضَبطِهِ وإِنْ كان فِي نَفسِهِ صَدُوقاً، فالمُهِمُّ أَنْ نَعرِفَ أَنَّ الحُكمَ بالتَّفَرُّدِ لا يَعنِي ضَعفَ الحَديثِ دائِماً كما تُوَهِّمُ عِباراتُ بَعضِ الوَهَّابِيَّةِ المُتَطَفِّلِينَ على عِلمِ الحَديثِ، وإِنَّما التَّفَرُّدُ يَخضَعُ لِنَظَرِ النَّاقدِ فيَحكُمُ عَلَيهِ بِحَسَبِ ما لديهِ مِن قَرائِنَ وشَواهِدَ مَعرُوفةٍ بَينَ أَهْلِ الصَّنعةِ، ولِذا كَانَتْ هُناكَ جُملةٌ مِنَ الأَحَادِيثِ ٱنْفَرَدَ بِها الرُّوَاةُ الثِّقاتُ كَانَ فِيهَا الصَّحِيحُ والحَسَنُ والضَّعيفُ والمُنكَرُ، وقَدْ مُلِئَتْ بها كُتُبُ الصَّحيحَينِ والسُّنَنِ وبَقِيَّةِ المَسَانِيدِ.

وَدُمْتُمْ سَالِمِينَ